عالم بدون جوع: حكامة الأمن الغذائي

عالم بدون جوع.jpg

أنطوان برنار دو ريمون ودلفين ثيفي

سعيد بوكرامي

ماذا لو كانت الطريقة الأفضل والأكثر فعالية، لمواجهة التحدي المتمثل في إطعام تسعة مليارات من البشر في عام 2050، تتمثل فقط في تغيير أنماط التغذية؟ يحاول كتاب "عالم بدون جوع: حكامة الأمن الغذائي" الذي أشرف على تأليفه الباحثان أنطوان برنار دو ريمون، ودلفين ثيفي، الصادر مؤخرا أن يجيب على الكثير من الأسئلة المقلقة المرتبطة بالأمن الغذائي.

في عام 2008، وعلى الرغم من الإنتاج الزراعي المرتفع، شهد العالم أزمة غذاء خطيرة تسببت في "أعمال شغب بسبب الجوع" في حوالي أربعين دولة. وأعقب ذلك تعبئة جماهيرية للمجتمع الدولي، ظهر في نهايتها توافق مفاده: لم يعد من الممكن النظر إلى الأمن الغذائي من حيث الكميات المنتجة وقضايا التنمية، بل يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أيضًا الجوانب الصحية والاجتماعية والمناخية و البيئية. سواء كانت الدعوة إلى ثورة خضراء جديدة، أو إلى تنويع غذائي جذري، أو إلى تدخلات شاملة في قطاعي الصحة والحماية الاجتماعية، لا يمكن لأي نهج أيضًا تجاهل علاقات النفوذ القوي بين الجهات الفاعلة في النظم الغذائية المختلفة.

بدأت إرهاصات الأزمة الغذائية العالمية منذ السبعينيات وبشكل ملفت منذ 2006 لكنها لم تظهر بشكل مخيف إلا خلال النصف الأول من عام 2008 ؛ إذ تسبب الارتفاع الحاد في أسعار السلع الزراعية في حدوث أزمة غذائية وأعمال شغب بسبب الجوع في عدد كبير من الدول. 

 

بعد خمسة وعشرين عامًا من التحسن المطرد، بدأ منحنى المجاعة يتحول مرة أخرى في الاتجاه الخاطئ (حسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة وآخرين، 2017)، فقد حان الوقت للتشكيك في هدفها المعلن عن عالم خالٍ من الجوع وكذا حول فعالية حكامة الأمن الغذائي الحالي. في الواقع، فإن المنحنى العام للعالم كله يتصاعد نحو الأسوأ، مثلا لم يتغير الوضع السيئ في إفريقيا أبدًا في الاتجاه الإيجابي منذ الخمسة وعشرين عامًا الماضية التي سعت فيها منظمة الأغذية والزراعة إلى تنفيذ بعض المشاريع لتحقيق الأمن الغذائي. وبين عامي 1992 و2015، زادت المجاعة بمقدار 50 مليون ضحية في إفريقيا. وإذا كان هناك انخفاض عالمي في الوقت نفسه، فذلك يرجع بشكل أساسي إلى تحسن الأمن الغذائي في أكبر البلدان الناشئة. على الصعيد العالمي، تظل الحقيقة هي أن الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في العالم قد انتقلوا من أكثر من مليار في عام 1992 إلى أقل من 800 مليون في عام 2015، مع ارتفاع إلى 815 مليون في عام 2016. ولكن يجب أن نكون حريصين. لكي لا ننسى ما يسمى أحيانًا "الجوع غير المرئي"، أي أكثر من ملياري شخص يعانون من نقص في العناصر الغذائية. ومن بين هؤلاء تعترف منظمة الأغذية والزراعة بوجود  600 مليون امرأة مصابة بفقر الدم، مع تداعيات ذلك على أطفالهن. يمكننا أن نضيف إلى هذه الأرقام تلك المتعلقة بنقص التغذية القاتل للأطفال وسوء التغذية والسمنة - حتى في صفوف الأطفال والكبار - بالإضافة إلى الأمراض المرتبطة بالنظام الغذائي مثل السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية ...(ص 20 و 21).

وفي سياق مرتبط تحلل فصول الكتاب التسعة بنية تكوين الأفكار والأدوات التنظيمية التي تفهم بواسطتها ظاهرة المجاعة في العالم، بدءًا من سؤالين أساسيين. السؤال الأول يندرج ضمن علم اجتماع المشاكل العامة، ويتعلق بالمخططات التفسيرية للأمن الغذائي، وتشعبها، وإعادة تشكلها على ضوء تأثير أحداث معينة. أما السؤال الثاني فيرتبط بتطور فئات الفاعلين في إدارة الأمن الغذائي وإعادة تحديد طرق التعامل مع مشكلة المجاعة كحقيقة ميدانية تلاحظ نتائجها الوخيمة وإن على نطاقات ضيقة، لكن تداعياتها الخطيرة تنعكس على جوانب متعددة، يمتد تأثيرها في الزمان والمكان لعقود عديدة. وفي السنوات التي أعقبت عام 2008، ظهر تعريفان متضاربان للأمن الغذائي ضمن الأفكار وأدوات المعرفة والأدوات التنظيمية (ص 27-33). إن أزمة الغذاء من منظور الأمن الغذائي العالمي، هي نتيجة عدم التوافق بين العرض والطلب: إطعام تسعة مليارات شخص في عام 2050 سيتطلب أولاً وقبل كل شيء زيادة الإنتاج الزراعي. أما بالنسبة لاستدامة الغذاء، فإن أنماط الإنتاج والاستهلاك هي سبب المشكلة، لأنها تشكل تهديدًا على الصحة والبيئة: لذلك يجب إعادة النظر في النظام الغذائي بأكمله في ضوء تغير المناخ المتلاحق، والتحول الديموغرافي والغذائي المسارع.

 

في الفصل الرابع الذي يجمع كل قضايا الكتاب، حلل إيف فويو ونيكولاس بريكاس وآرلين ألفا الأسباب التي جعلت العديد من المنظمات تقدم سريعاً الحل الإنتاجي للأمن الغذائي العالمي، حتى أثناء الأزمة. ويرجع أصله إلى عجز في الإنتاج، ولكنه في الحقيقة يوجد في تنوع العوامل، وفي مقدمتها الطلب المتزايد على الوقود، الذي يعد السبب الرئيسي في ارتفاع الأسعار. وفقًا للمؤلفين، يمكن تفسير نجاح "الإنتاجية" - النموذج الذي بموجبه يعتبر الإنتاج المعيار الوحيد لتقييم أخلاقيات الزراعة (ص 131) - منذ البداية، دعا الفاو إلى دعم فوري للإنتاج الزراعي، مثل مجموعة العشرين ومجموعة الثمانية. وانضمت إليهم حركات الدفاع عن صغار المزارعين الذين، على الرغم من معارضتهم للإنتاجية، يعتبرون أن الإنتاج الزراعي يظل الحل الأفضل لانعدام الأمن الغذائي (ص 145).

بالإضافة إلى ذلك، تمنح قوة منطق القطاع الزراعي انطباعا أنها معبأة على أرض الواقع بدراساتها المستقبلية، كما يفسر الفصل الأول ذلك. ونجد نماذجها في دراسات "الأثر" للمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية وتغيرات المشاريع في العرض والطلب والأسعار في سوق واحدة من خلال التفكير من وجهة نظر زراعية أحادية. من جانبها، تقوم بدراسة حالات التوازن الغذائي من خلال مقارنة توفر المنتجات واحتياجات الطاقة، دون الأخذ بعين الاعتبار الأصل الزراعي للأزمة. ومن ثم، فإنها تجعل من الممكن دمج الوصول إلى الغذاء ضمن مشاريعها، في حين يسلط  "الأثر" الضوء على الحل الإنتاجي فقط. ومع ذلك، ونظرًا لأنَّ مصممي مفهوم "الأثر" تمكنوا من استيعاب انتقادات المعهد الدولي، فقد هيمنت دراساته في الردهات المؤسسية.

 

في الفصل الثاني، يوضح أنطوان برنار دو ريمون أيضًا أن المدافعين عن الأمن الغذائي العالمي قادرون على دمج القضايا البيئية لإقناعنا في نهاية المطاف بأن أفضل حماية للنظم البيئية الطبيعية هي الإنتاج الزراعي. يتضح هذا من خلال برنامج "الأمن الغذائي العالمي في المملكة المتحدة" ومفهومه للتكثيف المستدام، والذي يدعو إلى زيادة الإنتاج دون توسيع المساحة المزروعة، من خلال تخصيص المناطق: بعضها مخصص للإنتاج المكثف، والبعض الآخر للحفاظ على التنوع البيولوجي (ص 78). وحسب مصممي البرنامج، تهدف الزراعة العضوية إلى أن تكون حلاً شاملاً وعالميًا لانعدام الأمن الغذائي، ولكن لا يمكن أن تكون الاستجابة من الناحية المكانية متطابقة بسبب متغيرات طبيعية مختلفة. على مستوى آخر، فإن ما يسميه المؤلفان "قفل المناقشات" يجد امتداداته في الحكامة العالمية للأمن الغذائي، لأنه على الرغم من ظهور جهات فاعلة جديدة، فإن المديرين التنفيذيين الذين ابتعدوا عن الإنتاجية الزراعية ظلوا يمثلون أقلية. كما يعتبر وضع الشركات متعددة الجنسيات في المنصات المتعددة التخصصات والمتدخلين فيها مفيدا في هذا الصدد، لأن الأمن الغذائي مهم لهذه الشركات بقدر ما يكون سوق المستهلكين الفقراء (للسلع الأساسية) مربحًا، لأن القيمة المضافة المنخفضة لكل وحدة يقابلها حجم السوق.

وبالتالي، فإنَّ شركات أونيلوفر و سينغاطا و مونساطو - التي تستثمر في ما يصل 11 من أصل 15 منصة عالمية قائمة - تدافع عن التحديث الزراعي، وبشكل أكثر تحديدًا التقوية الحيوية، التي تهدف إلى زيادة القيمة الغذائية للنباتات عن طريق بذور معدلة. علاوة على ذلك، تحوّل هذه الكيانات الاقتصادية قوتها السوقية إلى قوة استبدادية، وهي القدرة على تأطير المناقشات التي "تحدد مسبقًا معالم المشكلة وحلولها" (ص 174).

ومع ذلك، تفضي فصول عديدة من الكتاب إلى تسليط الضوء على هيمنة الأمن الغذائي العالمي على هيئات صنع القرار. أولاً، كما هو موضح في الفصل الثالث، مكن إصلاح لجنة الأمن الغذائي، وهي كيان تابع للأمم المتحدة، الذي أنشئ في عام 1974، من دمج الجهات الفاعلة غير الحكومية في المفاوضات الحكومية الدولية التي مُنحت حق التحدث في الجلسة العامة وفي تقديم مقترحات رسمية. ومع ذلك، فإن العديد منهم يربطون الأمن الغذائي بحقوق الإنسان، وبالتالي يدافعون عن "نظام المسؤوليات" لرؤساء الدول والحكومات (ص 256).

ولهذا السبب نفذت سياسات عامة في العديد من البلدان، لأنها جزء من الاستدامة الغذائية، تختلف عن مجرد دعم الإنتاج الزراعي. في البرازيل، وهي موضوع الفصل السابع، يتماشى النظام الوطني للأمن الغذائي، مع مبدأ السيادة الغذائية الذي يُفهم على أنه حق الشعوب في تحديد سياساتها وممارساتها الغذائية، الأمر الذي يتطلب الحفاظ على أعمال الفلاحين ودعمهم في الأسواق المحلية. إذا كانت استراتيجية (القضاء على الجوع) راسخة في هذا البلد و تاريخه الوطني الفريد ( المتمثل في التحالف بين الفاعلين في الصحة والتغذية ضد الجوع في الفترات السياسية العصيبة)، كما أنها استفادت من دعم المنظمات الدولية . ويضيف الفصل الثامن أن مسار الحق في الغذاء في الهند يُظهر أيضًا القدرة التحويلية لتأطير الأقليات. في نهاية التسعينيات، أدى إصلاح نظام التوزيع العام للغذاء إلى استبعاد الأسر التي كان دخلها أعلى بقليل من خط الفقر، مما أدى إلى انخفاض مشترياتها، في حين أن الإنتاج الزراعي في الوقت نفسه أخذ في الازدياد، و نتيجة للزيادة الكبيرة في الحد الأدنى لدعم للمزارعين. و لمواجهة حالة "الجوع المتفاقم"، أطلقت عريضة الاتحاد الشعبي للحريات المدنية في عام 2001، التي نشأ عنها نزاع حول المصلحة العامة، لكن قضاة المحكمة العليا، استجابوا لهذه المطالب وبذلك فتح الباب على مصراعيه أمام دسترة الحق في الغذاء.

 

أخيرًا، يشير فرانسوا كولار ديتوي في الخاتمة إلى أن "حقوق الإنسان تُفهم على أنها فردية بينما تستند فعاليتها إلى التطبيق الجماعي" (ص 281). ثم يسلط الخبير القانوني الضوء على الصياغة اللازمة لتفعيل وترسيخ الحق في الغذاء، لإن فعالية هذا الحق تتطلب سياسة أمن غذائي تقوم على الاعتراف في القواعد الدولية بمبدأين: استثناء زراعي وغذائي يؤدي إلى الرأي القائل بأن المنتجات الزراعية والغذائية ليست سلعة مثل غيرها ؛ وللدول الحق في تنظيم إنتاجها (على الأقل في حالة حدوث أزمة مرتبطة بالطبيعة أو بالأسواق) لضمان حد أدنى من السيادة الغذائية. أخيرًا، يجب أن تشمل مثل هذه السياسة عنصر "الديمقراطية الغذائية" الذي يضمن للجميع إمكانية الوصول إلى المعلومات مثل الوسطاء بين منتجي المنتجات الأولية والمستهلكين.

في نهاية المطاف، يُظهر هذا الكتاب المهم مجموعة متنوعة من التفسيرات للسياسات التنفيذية للأمن الغذائي العالمي. ومع ذلك، فإننا نفقتد في الكتاب إلى مقاربات تخص الحاضر الآني، على الرغم من أن الدراسات قدمت سبرا رئيسيًا للأمن الغذائي في شموليته. لذلك نتساءل عما إذا كانت هناك طرق أخرى للتفكير والعمل بشأن توفير الغذاء للجميع وإمكانية الوصول إليه. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ استدعاء الكتاب لنماذج التفاعل بين المناقشات العالمية والسياسات الوطنية منحنا بصيصًا من الأمل في إمكانية تحقيق المزيد من النجاحات لو توفرت الإرادة السياسية لحكامة حقيقية للأمن الغذائي مع إعطاء الأولوية  للجوانب الصحية والاجتماعية والمناخية والبيئية. 

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: عالم بدون جوع: حكامة الأمن الغذائي

المؤلف: أنطوان برنار دو ريمون، ودلفين ثيفي

دار النشر: Presses De Sciences Po باريس. فرنسا

سنة التأليف: 2021

عدد الصفحات: 304 ص

اللغة الفرنسية

أخبار ذات صلة