الجماليات في الإسلام بين التجريد والتجسيد

الجماليات في الاسلام.png

عز الدين عناية

لا تنشغل محاور هذا الكتاب بتاريخ الفنّ في الإسلام، ولا بالمنجزات الفنية التي عرفتها الحضارة الإسلامية، بل تحديدًا بفلسفة الجماليات وفق المنظور الإسلامي، أو بمعنى آخر بثقافة الجماليات والذوق الرفيع. إذ يحاول المؤلّف الإيطالي ماسيمو كامبانيني (رحلَ عن دنيانا في أكتوبر من العام الفائت) العثور على معيارية أصيلة للفنّ الإسلامي بعيدًا عن المنظور الغربي وعن المركزية التصورية في الموضوع. فالمسألة وكما يرى جون كيتس أنّ الفنّ لا يستعيد الجمالية فحسب بل الحقيقة. ومن هذا الباب يناقش ماسيمو كامبانيني هذا الطرح في كتابه ويعيد للنظرة الإسلامية دلالاتها ويبرز خلفياتها.

يُعَدّ ماسيمو كامبانيني من أبرز دارسي الإسلاميات في إيطاليا في الحقبة المُعاصرة. توزّعت أبحاثه وترجماته من العربية بين الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية وتاريخ الإسلام المعاصر. واستطاع من خلال نشاطه الحثيث، البحثي والتصنيفي، أن يشكّلَ مدرسة نقدية معتبَرة تقف على نقيض "المدرسة الكَنَسيّة-الاستشراقية" التي طالما هيمنت على الدراسات الإسلامية في إيطاليا ووظّفتها. وفي هذا الكتاب الذي صدر بعد وفاته، وزّع الراحل بحثه على أربعة محاور: مسألة الجماليات في الإسلام؛ الوجود الشعري؛ العمارة الإسلامية؛ ومباهج الموسيقى.

 

في مستهلّ الكتاب حاول كامبانيني معالجة قضايا عامة على صلة بموضوعيْ الفنّ والجماليات. حيث أورد في المحور الأول أنّ مفردة "فنّان" (artistae) في الأوساط الجامعية الغربية، إبان العصور الوسطى، كانت تشمل المعنيين بالخطابة والجدل والنحو، فضلا عن المعنيين بالهندسة وعلم الفلك والموسيقى. وقد كانت جملة من الصنائع إلى عهد دانتي أليغييري، مثل الحرايرية والصيارفة وباعة التوابل يُصنَّفون ضمن الفنانين. وبالتالي ما كانت المفردة منحصرة بفنون التصوير، وإنما شملت مهنًا حِرفية وصنائع عملية وتخصصات ذهنية. إذ لم تبدأ فكرة الفنّ بوصفه خلاصة جمالية لها وظيفة مميزة، بالظهور سوى مع بدايات القرن السابع عشر الميلادي. ولو أتينا إلى التصور الإسلامي نلاحظ أنّ كلمة "فنّ" تنطوي على دلالة جليلة، ويتركز هذا التمثّل السامي في الخطاب القرآني بوصفه المعبّر عن كمال التمثّل المتجلّي في العربية، وتحت هذا المبرر تركّزَ اهتمام جملة من الدارسين المسلمين على ما يُعرَف بالإعجاز اللغوي القرآني.

في حقيقة الأمر، وكما يوضح كامبانيني، لم تنحصر كلمة "فنّ" في التراث الإسلامي بمدلول جمالي ذوقي، ولكن أشارت من جملة ما أشارت إليه إلى الصنف والنوع. نجد ابن خلدون في كتاب "المقدّمة" يستدعي المفردة في تصنيفاته في ما له صلة بـ "الفنون النظرية" وفي ما يتعلّق بـ "فنون الفقه". ولم  تبدأ الكلمة في الارتباط حصرًا بالرسم والنقش أو الهندسة سوى مع فترة العصر الحديث. وللتوضيح يشير كامبانيني إلى أنّ هناك ثلاثة مفاهيم في الثقافة الإسلامية يمكن أن تحيل على الفن وهي: الأدب والفن والصناعة. فلا تنحصر الجمالية في المنظور الإسلامي في فنّ التصوير بل تتجاوز ذلك الضرب من الإبداع. وإن كان موضوع التصوير من المواضيع الشائكة، إذ يحيل على قضايا التجريد والتجسيم في الفن الإسلامي. فليس التجسيم كما هو رائج مكروها ومبعَدا، بل يكون كذلك في السياق الإسلامي حين يُمثّل مسًّا من جوهر الدين أو انتهاكا لخُلقيته وتمثّلاته. فضلا عن ذلك أنّ الجماليات الإسلامية ليست جمالية حسيّة محصورة بإطار دنيوي، وليست كذلك جمالية جوفاء في المطلق، بل هناك عناصر تضبطها وأُطر تحتضنها ما يجعلها وسيلة تَرقى بالحسّ الإنساني إلى مراتب سامية.

إذ لا تنحصر الجماليات ضمن المفهوم الإسلامي في فنّ التصوير أو ما شابه ذلك من الفنون. وضمن تطوّر مفهوم الفنّ في السياق الإسلامي يبرز كامبانيني، بالاستناد إلى المفكر الإيراني سيد حسين نصر، أنّ القرآن قد جعل من فنّ الخطّ والهندسة المعمارية وترتيل القرآن علاماته الفنية البارزة. وبشأن قضايا التحريم والتحليل المتعلقة ببعض المجالات الفنية، يذهب كامبانيني إلى أنّ التصوّر الإسلامي لا يناصب الفنون العداء بشكل عام ومطلق، على غرار ما تلخّص في المفهوم الغربي المسيحي في "العداء للأيقونات". وهي للأسف مقولة رائجة في أوساط غير المعنيين بالفنون الإسلامية بشكل خاطئ ولا سيما في أوساط الغربيين. إذ الملاحَظ أنّ اليهودية تُصنّف ضمن السياق الغربي بكونها ديانة "معادية للأيقونات"، وربما بصرامة تفوق صرامة الإسلام، ولكن تلك التهمة تتوجّه حصرًا إلى الإسلام في التصوّر الغربي، وهو ما يخفي حمولة إيديولوجية واضحة. والبيّن كما يرصد ماسيمو كامبانيني أنّ موقف الإسلام من التصوير هو معقّد ومتداخل، وأنّ المنع الكليّ والجازم للتصوير لم تعهده الحضارة الإسلامية، وما ساد على مدى قرون هو وجود ضوابط في المجال. يَستحضر ماسيمو كامبانيني الحادثة التاريخية الواردة في بعض كتب السيرة، أنّ النبي الأكرم عند فتح مكة ودخول الكعبة (630م) لتطهيرها من الأوثان، وجد الصحابة تصاوير تصوّر النبي إبراهيم والعذراء مريم أم المسيح (عليهم السلام). وقد وردت القصة لدى الطبري. يُروى أن النبي قد أمر الصحابة بمحوها حفاظا على الصورة النقية للأنبياء والأطهار بعيدا عن أي شكلانية.

 

ويبيّن كامبانيني أنّ الرسامين المسلمين غالباً ما تجنّبوا رسم وجوه الشخصيات النبوية واعتمدوا ذلك النهج مع الرسول نفسه في المنمنمات التي تصوّر رحلة المعراج، ولم يرد تصوير وجه النبي المصطفى واستُبدل بهالة نورانية، وإن وردَ تصوير كافة الأجواء المحيطة بالرحلة بما فيها البراق الذي كان يمتطيه النبي. والملاحَظ ضمن تاريخية المنمنمات الإسلامية أنّ الرسوم في الحضارات الإسلامية، الفارسية والتركية والمغولية، كانت أكثر جرأة وهو أمر عائد لريادة أبناء تلك الحضارات في هذا المجال. في حين كانت مدارس الرسم المتأثرة بالأجواء العربية، في بلاد الشام والعراق، أكثر تحفظا. ويعيد ماسيمو كامبانيني ذلك إلى تأثر المنظور العربي بالرؤية السامية الصارمة تجاه التصوير والتجسيد. يدعم كامبانيني قوله بالاستناد إلى أبحاث الكاتبة الإيطالية ماريا فيتوريا فونتانا، لا سيما في كتابها المترجَم إلى العربية "المنمنمات الإسلامية" (صدر عن دار التنوير، بيروت 2015). حيث تورد فونتانا أنّ "الضوابط الواردة في الحديث النبوي غالبا ما بقيت غير مراعاة. فقد تواضع الفقهاء في ما بينهم على بعض أوجه التيسير، كما الشأن حين تمّ التغاضي عن الكتابة على نقائش القبور، رغم كافة الضوابط التي تحول دون ذلك. وضمن السياق نفسه حصل التغاضي عن تشييد القباب فوق القبور، وهو ما شمل الصور أيضا" وتضيف فونتانا "كيفما كانت الأعمال، منمنمات أو رسوما على الجدران، فإنّه ينبغي تصنيفها في عداد التصاوير، لا سيما وأنّ الرسوم الجدارية المتبقية قليلة العدد. فالمصوَّر، وعلى خلاف النحت، لا يخلّف وراءه ظلالا وبالتالي لا يتمتّع بميزة البعد الثلاثي، ما يجعله أقلّ "خطورة" من النحت، وهو ما يفسّر سعة انتشاره في بلاد الإسلام مقارنة بالنحت". كما تستدعي فونتانا بعض الوقائع التاريخية في الشأن مثل قولها "ما هو ثابت أنّ بعض الخلفاء قد ظهرت صورهم على المسكوكات، فمن الجليّ أيضا، أنّ معلوماتنا، طيلة القرون الإسلامية الأولى، تبقى شحيحة حيث لم تصلنا سوى عيّنات قليلة. إذ يوجد على الجدران الداخلية لحمامات قصير عمرة (الواقع في الوقت الحالي في الأردن) رسمٌ لشخص يتربّع على عرش، يُرجّح أنه للوليد بن عبد الملك (705-715م)؛ كما توجد في المعلم ذاته جدارية تضمّ ستّ شخصيات تمّ التعرف عليها ولكن بشكل غير دقيق، تعود إلى كلّ من الإمبراطور البيزنطي، وملك القوط في إسبانيا، والملك الساساني، وإمبراطور الحبشة، وربما إمبراطور الصين وزعيم قبيلة من قبائل آسيا الوسطى".

في المحور الثالث من الكتاب المعنون بـ "العمارة الإسلامية" ثمة نقطة مهمّة يشير إليها كامبانيني على صلة بموضوع الجماليات، وهي أن الفنّ الإسلامي، بشكل عام، ليس فنّا دينيّا أو مقدّسا، كما يرد في التعبير الغربي، بل هو فنّ دنيوي يغطّي مجالات عدّة ويعبّر عن توجهات متباينة، ولا يمكن نعته بأنه فنّ ديني بالمعنى الطقوسي والشعائري الذي نجده في المسيحية وبالشكل الذي يُوظَّف به في الشعائر الكهنوتية، ولذلك يأتي الفن الإسلامي على صلة وطيدة بمجالات الفعل البشري، ولا تشغله تلك الصلة الطقوسية على ما هو معهود في الفن الكَنَسيّ. فقد نشأ الفنّ الإسلامي بين الناس وبعيدا عن أداء العبادة، بعكس الفن المسيحي الذي جرى توظيفه والتوسل به في المجال التعبّدي والشعائري.

ثمة دعوة ضمنية في التمثّل الإسلامي للجماليات إلى تجاوز ما هو حسي ومباشر في العمل الفني، وهي في الواقع رؤية فلسفية منفتحة تحفّز البشر على التعلّق بالمطلق والتحرّر ممّا هو حسيّ. ويرى كامبانيني معالم هذه الرؤية الإسلامية في تنبّه ملكة سبأ بلقيس إلى خطأ نظرتها الحسية وانخداعها بالظاهر قبل إقرارها بدين التوحيد، واعترافها بانحراف نهجها في قراءة الأمور الدنيوية والدينية. وهو ما وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: "قيلَ لَها ادْخُلِي الصّرْح ، فَلمّا رَأَته حَسِبتهُ لُجة وَكَشفت عَن سَاقَيها، قَال إِنّهُ صَرْح ممَرَّد من قَوارير ، قَالت رَبّ إِنّي ظَلَمتُ نَفسِي وَأَسلَمت مَعَ سُلَيمَان لله رَب العَالمين" (سورة النمل، الآية: 44). وعلى هذا الأساس يذهب كامبانيني إلى أنّ الجمالية الإسلامية تُثمّن المضمون لا الشكل، وتميل إلى جوهر الأشياء لا إلى قشورها الخادعة. وإن مثّلَ الجمال الخارجي في التصور الإسلامي ضرورة لا غنى عنها، في الإمامة والدبلوماسية والقيادة وغيرها، فإنّه لا يستوفي مفهوم الجمالية الرحب. وهو ما ذهب إليه أبو حامد الغزالي في مؤلفه "ميزان العمل"، فلا وجود لجمال شكلي وظاهري هو منتهى الجمال في التصور الإسلامي. وضمن هذا الجدل بين الجمال الظاهري والجمال الباطني، يقول سيد حسين نصر: يمكن اعتبار الأعمال الكبرى للعمارة الإسلامية، مثل قبّة الصخرة أو تاج محلّ، بمثابة الاستلهام الجمالي للقرآن الكريم. حيث تكشف فينومينولوجيا العمارة الإسلامية عن علاقة وطيدة بالتصور الإسلامي، فهناك صلة متينة بين ما هو ظاهر وما هو باطن، بين ما هو مجرّد وما هو مجسّد.

وبناء على ما أبرزه كامبانيني من رحابة في مفهوم الجماليات في الإسلام، استعاد في محور "مباهج الموسيقى" ما حازته الموسيقى من موضع ملتبس ضمن الفنون الإسلامية. فمن جانب نجد كراهة  لمجال الموسيقى، ومن جانب آخر نجد إباحة مشروطة. ولكن على مستوى مغاير نجد ترتيل القرآن وتجويده من أرقى الفنون الصوتية في الإسلام. وبرغم الجدل بشأن الموسيقى وتضارب آراء الفقهاء، ثمة احتفاء بالنغم والطرب والسماع في المجتمعات الإسلامية على مستوى معرفي وعلمي، وعلى مستوى استهلاكي أيضا. فمع الفارابي وزرياب ترسّخَ توجّهٌ لإعطاء بُعدٍ فلسفي وعلميّ لمجال الموسيقى، وأمّا من الجانب الاستهلاكي فقد تطور ذلك مع العديد من المطربين والمغنين في القديم والحديث حتى باتوا بمثابة الأيقونات الفنية. نجد احتفاء كبيرا على مستوى الاستهلاك الموسيقي يبلغ مداه المتقدم مع عديد المطربين، حتى أن المطربين المهتدين إلى الإسلام مثل الإنجليزي كات ستيفانس (يوسف إسلام) لم يهجر ماضيه الفني وسعى إلى ضبطه ضمن إطار خُلقي إسلامي. يتساءل كامبانيني عمّا يعنيه هذا الولع بالموسيقى في التصور الإسلامي؟ ويجيب قائلا: ثمة جمالية للموسيقى في الحضارة الإسلامية، لم تنحصر في الإنشاد الصوفي أو في الموسيقى الدينية، فقد حاول المسلمون الحفاظ على التعبيرات المتنوعة للموسيقى وتطويرها دون الانحراف بها إلى ما يسيء للدين.

نعرف أنّ موضوعيْ الفنّ والجماليات، ضمن السياق الإسلامي، هما من المواضيع المهمّة، بَيْد أنهما لم ينالا حظّهما من الدراسة، وربّما فاقت العناية بالفن من خارج السياق الإيماني نظيرتها من داخل السياق الإسلامي. فلطالما بقي هذا المبحث مهملًا من حيث تنزيله المنزلة الصائبة ضمن السياق العام، الثقافي والمعرفي والذوقي. ومن جانب آخر يُلاحَظ ضمن التحول السائد في المجتمعات الإسلامية بروز مصالَحة في العقود الأخيرة بين الموقف الفقهي والإبداع الفني حوّلت الفن من حيز الفتنة إلى حيز النعمة. ما من شك أنّ ذلك النقص وهذا التحول سوف يدفعان إلى مراجعات كبرى بشأن الفنون ضمن السياق المعاصر للحضارة الإسلامية.

 

الكتاب: الجماليات في الإسلام.. بين التجريد والتجسيد.

تأليف: ماسيمو كامبانيني.

الناشر: منشورات مورشيليانا (بريشيا) "باللغة الإيطالية".

سنة النشر: 2021.

عدد الصفحات: 186 ص.

أخبار ذات صلة