ما تعالق من التاريخ الفكري العبري الإسلامي

ما تعالق من التاريخ الفكري.png

نصوص مستلة من مجموعة فيركوفيتش بسان بطرسبورغ

مؤلف جماعي

 الشيخ محمد

ثمة من النصوص الكلامية والفلسفية والصوفية العربية المتأثر بالعبرية الحروف بالعشرات. وبمقدارها وأكثر يوجد من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة اليهود من ذوي الخلفية الإسلامية كلامية معتزلية كانت أم سينوية رشدية فلسفية أم غزالية زهدية رقائقية صوفية ... ولعل أشهرها كان ابن ميمون. وقد كتب الشيخ مصطفى عبد الرازق ـ في تقديمه لكتاب ولفنسون عن ابن ميمون ـ يقول: "(...) بل إني ممن يجعلون ابن ميمون وإخوانه من فلاسفة الإسلام (...) فإنَّ المشتغلين في ظل الإسلام بذلك اللون الخاص من ألوان البحث النظري مسلمين وغير مسلمين يسمون منذ أزمان "فلاسفة الإسلام". وتسمى فلسفتهم فلسفة إسلامية بمعنى أنها نبتت في بلاد الإسلام وفي ظل دولته، وتميزت ببعض الخصائص من غير نظر إلى دين أصحابها ولا جنسهم ولا لغتهم". وقد ورد في الكتاب الذي بين أيدينا ما يصدق كلام مصطفى عبد الرازق. إذ ضم بين دفتيه مخطوطات في التراث الكلامي ـ وبخاصة الاعتزالي ـ والجدلي ما يكاد لا يُعرف؛ لاسيما لدى الباحثين العرب والمُسلمين. هو إذن كتاب في التعالق بين التراثين العبري والعربي. ولو سماه أصحابه باسم "التأثر الكلامي القرائي بالكلام الاعتزالي" لما أبعدوا. إذ مداره، في الجملة، على نصوص الاعتزال الإسلامي و"الاعتزال العبراني" إن هو ساغ هذا التعبير. 

مروية مخطوطات

في القرن التاسع عشر الميلادي تم اكتشاف جنيزات كثيرة منبثة في ربوع الشرق الأوسط، وكانت أهمها تلك التي كانت توجد بالقاهرة. وعادة ما يطلق اسم "جنيزة" على مجموعة الأوراق والوثائق التي لا يجوز إبادتها أو إهمالها وفقاً للديانة اليهودية؛ وخصوصاً إذا ما هي ضمت اسم الجلالة بين ثناياها، وإنما يتم تخزينها في غرفة معزولة في البيعة أو المعبد لأجيال. لكن سرعان ما تفرقت هذه المخطوطات أيدي سبأ. إذ تخطفتها يد مهربي المستطرفات وهواة جمع المخطوطات والرحالة والمغامرين، بل حتى العيارين. وكان من عدادهم سالمون فيرثيمر وسالمون مونك وأبراهام وسالمون شيشتر، وغيرهم كثير. وقد تشتت هذه المُقتنيات الغنائم في مكتبات أوروبا الغربية وروسيا وأمريكا الشمالية. ونشأ عنها الاستكشاف العلمي لذخائر الجنيزات ودراسة الطوائف اليهودية في العصور الوسطى في السياق الإسلامي. وتطور هذا الاستكشاف خلال القرن العشرين، وشهد بعضا من الازدهار. على أنه بقيت ثمة ثغرات في هذا الاهتمام: من جهة أولى، نزع دارسو هذا التراث ـ ومعظمهم ينتمي إلى حقل الدراسات العبرية ـ إلى تفضيل المؤلفين العبرانيين والمؤلَّفات العبرية، بينما أهملوا هم المواد الإسلامية في هذه المجموعات الجنيزية. ومن جهة أخرى، قليل هم من الباحثين في الثقافة الإسلامية الكلاسيكية من استثمر هذه المصادر، على الرغم مما يؤكده ناشرو هذا الكتاب من أهميتها. وفضلاً عن هذا، ظلت مجموعة اليهودي الروسي أبراهام فيركوفيتش (1786-1874)، بالخصوص، خبية خفية صعبة التناول على أغلب الباحثين من خارج الاتحاد السوفياتي طيلة القرن العشرين. ومعظم مخطوطات فيركوفيتش هذه كانت قد أُخذت من جنيزة بيعة طائفة القرائين  ـ معبد رابي سمحاه ـ  في حارة زويلة بالقاهرة الجديدة. وعلى خلاف مخطوطات جنيزات أخرى ـ ابن عزرا مثلا ـ تقل فيها الوثائقيات ـ شأن الرسائل وعقود النكاح والوصايا والتبرعات ـ التي تنبئ بالجوانب الاجتماعية والمؤسسية والاقتصادية للطائفة اليهودية. تلقاء ذلك، تتميز باحتوائها على شذرات ـ مع الأسف لحقتها عوادي الزمن فأتلفت منها قسماً كبيرًا، وأصابت قسمًا آخر بخروم فادحة ـ تدور على مختلف المباحث الفكرية الوسيطة: تفسير التوراة، علم الكلام، الفلسفة، المنطق، أصول الشرائع، الطب، الفلك، وعلوم أخرى، الآداب ... فضلاً عن أنها، مُقارنة بغيرها، أطول نفسا. و كانت طائفة كبيرة منها تعود إلى مكتبة فرقة القرائين بأورشليم، ثم جلبت إلى القاهرة بعد الغزو الصليبي عام 1059؛ فتم بذلك صون نصوص هامة تنتمي إلى ما دعي العصر الذهبي للقرائين بأرض فلسطين (القرنان العاشر والحادي عشر الميلاديان) في ما يتعلق بتفسير التوراة. 

ومن أهم ما احتوت عليه هذه المخطوطات مجموعة كبرى من المخطوطات العربية المكتوبة بأحرف عبرية. وأغلبها مجهول للباحثين المحدثين. وطائفة منها فريدة لا يوجد لها نظير. وقد ألفها مؤلفون مسلمون. لكن، مع الأسف، أغلبها نالته أيادي الزمان بخروم فظيعة، وكان لها أن تضيع الضياع الأبدي لولا أن تداركتها أيادي الشغوفين بهذا التراث. على أن تقنية التصوير، ومنذ التسعينات من القرن الماضي، أتاحت إنجاز نسخ منها. ومع الأسف، تم استنساخ العبري منها وترك العربي يلقى مصيره المأساوي الذي كان ذكره محمد عبده منذ أزيد من قرن حين تحدث عن التراث العربي الإسلامي الذي بات نهبا للسوس ينخره. وقد شرع في إصلاحها على الرغم من العديد من الصعوبات التي طرحها هذا الإصلاح. ولا زلنا لحد اليوم لا نتوفر على جرد شامل بمحتوياتها. وتعود أهمية هذه المخطوطات إلى أنها تحوي نصوصا اعتزالية ثمينة لا تكاد تهتم بها، للأسف، إلا مجامع بحث أوربية أو إسرائيلية. وعلى الرغم من كل جهود فرق البحث، فإننا لازلنا اليوم لم نكشف إلا قمة جبل الجليد الطافية، أما عمقه الغائص فلا زال بمسيس حاجة إلى مزيد تنقيب.

المخطوطات الواردة في هذا الكتاب

هذا الكتاب ثمرة جهد فريق بحث "المعتزلة في الإسلام واليهودية" بعد أن قام بزيارات عدة إلى روسيا (2008-2010-2020) بتمويل أوربي وأمريكي. وأغلب المخطوطات المنشورة في الكتاب دونت بحروف عبرية. وتكمن أهمية الكتاب في أنه أعاد هذه النصوص إلى أصلها العربي. ومجمل هذه المخطوطات، للأسف، مخرومة بخروم مهولة. وهي تطرح مشاكل لا حصر لها في قراءتها وفي استخلاص خلاصات منها. على أن المغامرة بنشرها أولى من تركها على حالها، وأي حال؟  وعذر الباحثين في ذلك أن ما لا يدرك كله لا يترك جزؤه. 

ـ 1 ـ

قطع من شرح عبد الجبار الهمذاني لكتاب مجهول العنوان من تأليف أبي هاشم الجبائي

بما أن مؤلفات أبي هاشم الجبائي لم يصلنا منها، على  الأغلب، اللهم إلا أساميها؛ شأن نقد الأبواب والجامع ـ مختصره ومبسوطه ـ والبغداديات، فضلاً عما نسب إليه من آراء، فإننا لا نعرف على وجه الدقة أيها يشرح القاضي عبد الجبار هنا. ومهما يكن من أمر، فإنَّ شروحات القاضي تتناول قضايا مألوفة في علم الكلام الاعتزالي لطيفة وجليلة. لكن ما وصلنا على وجه التدقيق إنما هو بعض من دقيقه ـ "الفلسفة الطبيعية" ـ ومنه مسألة التوليد والمماسة، وكله يدور على قضية الأعراض وآثارها.  

ـ 2 ـ

قطع من شرح عبد الجبار الهمذاني لكتاب مجهول العنوان من تأليف الصاحب بن عباد وهذا مخطوط شديد الخرم فادحه. ينقسم إلى مسائل مدارها على قضايا دقيق الكلام، شأن التولد والاعتماد والمماسة والتأليف والتفريق؛ ثم ينتقل فجأة عن غدارة إلى تناول قضايا الإرادة والعلم والحياة؛ فالعودة مجددا إلى الحديث عن الرطوبة واليبوسة ... ثم سرعان ما ينقطع نفس الكتاب انقطاعاً مستكرهاً. وبالجملة، يتعلق الأمر ههنا بتلخيص الصاحب بن عباد لتعاليم أبي هاشم الجبائي الكلامية، وقد أرفقت بشرح القاضي عبد الجبار في شذرات من بابين من أبواب علم الكلام: باب الإرادة والكراهة وباب الرطوبة واليبوسة. 

ـ 3 ـ

نكت المغني: اختصار مؤلف مجهول لكتاب المغني للقاضي عبد الجبار (قطع من المجلدات 1-3) 

منتقى مهذب من كتاب المغني

هذه توليفة كتب ما تبقى منها إلا جزء أول، وهي مخرومة البداية والوسط. والمؤلف أحد متكلمي طائفة القرائين مجهول الهوية. وقد أضيفت إلى النكت شذرات من مخطوطة تلك الطائفة. ومن شأن هذه التوليفة أن تسد ـ رغم تبددها ـ ما لم يرد في مخطوطات المغني العربية التي كان قد عثر عليها باليمن، ونشرت في الستينات من القرن الماضي. ومن ثمة أهمية نشر هذه المخطوطة. وليس ينغص قراءتها على القارئ اللهم إلا الخروم. وتدور المخطوطة على باب من أبواب لطيف الكلام: باب التوليد. كما تشمل نتفا من باب آخر هو باب النظر والمعارف، وأشتاتا من باب الصفات من جليل الكلام (العلم والقدرة والإرادة والحياة)، كما تفيد في تتميم نظرية الأحوال عند البهشمية ودقائق النظر في السببية. 

4 ـ

قطع من كتاب مجهول العنوان في دقيق الكلام

"أحوال الجواهر والأعراض"

من تأليف عبد الله بن سعيد اللباد

هذا مخطوط يجول بنا في فلسفة المتكلمين الطبيعية من "المتناهي الصغر" ـ الجوهر الفرد ـ إلى "المتناهي الكبر" ـ العالم. على أنه مخطوط أقطع أبتر. لا مستفتح له ولا مستختم. يقذف بنا بعد خروم موصولة إلى الفصل الثامن والعشرين (في أن الأعراض يصح أن تحل الجواهر وأن الجواهر محتملة لها)، يليه الفصل التاسع والعشرون، الذي يعاني بدوره من خروم فادحة مخلة؛ فالفصل الثلاثون الذي يدور بدوره على الأعراض، فعودة إلى حديث الجواهر في الذي يليه والذي يلي ما يليه، وهكذا دواليك إلى الفصل السادس والثلاثين؛ ثم بعد خروم قدرها سبعة فصول نصل إلى الفصل الرابع والأربعين (في أن للجزء قسطا من المساحة) ... وتتوالى الفصول إلى الرابع والخمسين حيث يتم الحديث لا عن الجزء وإنما عن العالم وتناهيه. وفيه يتجلى العقل الجدلي في أشكل صوره، كـأنه طاحونة تطحن قرونا، حيث يثبت الفصل الخامس والخمسون أن الأرض ساكنة ... وتتعاقب الفصول والخروم إلى الفصل الثاني والثمانين حيث تنتهي على نحو فجائي مسرى الكتاب ... ولا نكاد نعرف شيئا عن صاحب المخطوطة؛ اللهم إلا ما ذكره عنه الحاكم الجشمي؛ إلا أنه يبدو أنه كان متكلما على طريقة البهشمية؛ بما من شأنه أن يكمل تذكرة ابن متويه في دقيق الكلام، والمسائل في الخلاف بين البصريين والكوفيين لأبي رشيد النيسابوري، من تلامذة القاضي عبد الجبار، وشرح المسائل للحاكم الجشمي وكتابات ابن الرصاص  المعتزلي الزيدي اليمني، وكل هؤلاء من ممثلي البهشمية. 

5 –

قطع من الأصول المهذبة لسهل بن فضل التستري

يسمي صاحب الكتاب مخطوطه في بداية المخطوطة باسم: كتاب الأصول المهذبة المشتملة على العلم به بالتوحيد والعدل. ويهديه إلى من يسميه "القاضي الرئيس المهذب سني الدولة" الذي لا نعرف عنه أمرا. ويحدد موضوعه على أنه: "الكلام في الدلالة على إثبات الله سبحانه وصفاته والحكمة في أفعاله"، ويحدد منهجه بأنه: "على طريق الاختصار والتقريب". ثم يسرد أبوابه سردا: في وجوب النظر والاستدلال على معرفة الله سبحانه، قارنا الوجود بالخوف من ترك النظر وزواله بالنظر، ثم يورد بابا في التوبة المسقطة للعقاب، وبابا في النبوات، وبابا في الشرائع، وبابا في تسمية من ينبغي أن يكون بنية العاقل (وهو عنوان يعاني من تشوش)، ذاكرا فيه أنه على العاقل بوصفه مكلفاً أن يوطن نفسه على استصغار أمور الدنيا من حيث نزارتها وقلة الثقة بها، واستعظام أمور الآخرة لعظمها والثقة بنيلها. يتلوه باب في المعاد، وباب في الحساب، وباب في تكليف أولي الأمر، في ما يخص السياسة الشرعية، وبه يختتم الكتاب. وقد دل الكتاب، مأخوذا على الجملة، على اعتزالية مؤلفه، كما أشار إلى تأثره بمذهب أبي الحسين البصري. ويبدو أن صاحبه هو المتكلم القرائي سهل بن فضل التستري الذي ازدهر في الثلث الأخير من القرن الحادي عشر الميلادي. 

6 –

كتاب لذات الذات في إثبات الوحدة والصفات

تأليف الفضل بن مفرَّج

هذا مخطوط مكتوب أصلا باللسان العربي. وصاحبه غير مشتهر. وقد حفظت لنا منه شذرات، وأصيب أغلبه بخروم. ويعلن صاحبه في نهايته: "رجوت أيضا أن أشفعه برسالة في صناعة الاستدلال على طريق الإجمال". وموضوع الكتاب دائر على ما يلي: "إعلم أن غرضنا من وضع هذا الكتاب هو إثبات الله سبحانه وإثبات صفاته". وقد أشار صاحبه إلى كتاب آخر له تحت عنوان: "كتاب التهذيب"، كما أحال المرار على زعماء الاعتزال البصري، لا سيما الجبائييين وأبي الحسين. وهو يتبنى آراء المدرسة البهشمية. ومجمل ما تبقى من الكتاب مداره على فصل في إثبات الله فاعلا وحيا ومريدا وكارها، وفصل في النصارى، وفصل في دليل التمانع، وباب في نفي الرؤية، وباب في أنه لا يشبه المحدثات، وباب في استحالة كونه تعالى محلا وحالا في جهة، وباب في استحالة الحاجة عليه، وباب في النقل وما يتبعه، وباب في الكلام في الكلام، وباب الكلام على المنجمين ومن يجري مجراهم، وباب في القضاء والقدر، وباب في الآجال، وباب في الأرزاق والأسعار. 

7 –

قطع من رد إفحام اليهود من تأليف رباني مجهول

هذا عمل من أعمال الجدل الديني بين اليهود والمسلمين ألف في الرد على كتاب السموأل المغربي الشهير ـ إفحام اليهود ـ لولا أنه تفرق أشتاتا. ويدل مدخله على أن ربانيا يهوديا ألفه، وهو يحيل فيه على كتابات ربانيين شأن بن حفني الهاروني وابن الخشيش وغيرهما. كما يتحدث بنون الجماعة "معشر بني إسرائيل الربانيون والأحبار". فضلا عن أنه يعمد إلى تطريز الكتاب باستشهادات مأخوذة من سعديا بن جاوون. ولا ذكر لمن ولا لماذا كتب هذا النقض. وفي الكتاب استماتة في الدفاع عن عقائد اليهود الصحيحة، وتصحيح لما نسبه السموأل إليهم خطأ، كما يحوي فقرات هامة حول منهجية تفسير التوراة وتأويلها، بمعرفة مجازات اللغة العبرية واستعمالاتها، ضدا على المجسمة من اليهود، وقد اتهم السموأل بقلة الخبرة باللسان العبري. كما أن فيه تمييزا بين مناهج المفسرين ومناهج الفلاسفة في النظر؛ هؤلاء الذين يسميهم "أرباب النواميس العقلية"، ويعتبرهم "تلاميذ عقولهم". وبالجملة، لا يخلو الكتاب عن فوائد؛ مثل رسمه صورة لاعتقادات أهل زمانه، ووضعه ضوابط للتأويل، وذكر صلة الإسلام باليهودية، والرد على دعوى المسلمين أن اليهود عمدوا إلى تحريف التوراة. 

 

عنوان الكتاب: ما تعالق من التاريخ الفكري العبري الإسلامي

مؤلفه: مؤلف جماعي

دار النشر: منشورات جامعة كامبريدج

سنة النشر: 2020

أخبار ذات صلة