السَرِقةُ من السُّرَّاقِ: كيف شكل المعمار الإسلامي أوروبا؟

السرقة.png

ديانا دارك

محمد الشيخ

 

ثمَّة رواية شهيرة للروائي والمُفكر الألماني جوته تحمل عنوان: سنوات تعلم فلهلم مايستر" (1795-1796) تحكي عن مسلك بطلها في تعلم أمور الحياة. وقد استلهم الفيلسوف الألماني الشهير جادامير ذاك العنوان ليروي عن تكوينه الأكاديمي في مؤلف عنونه: "سنوات التعلم الفلسفي" (1977). وكان بإمكان كاتبتنا البريطانية ـ ديانا دارك ـ أن تستلهم العنوان نفسه في تسمية كتابها هذا الذي بين أيدينا: "سنوات التعلم المعماري" (2020). إذ أودعت فيه عصارة جولاتها وخبراتها وقراءاتها في الطرازين المعماريين الإسلامي والغربي. على أنَّها فضلت عنونته تهكمًا: "السرقة من السُّرَّاق" أو "سرقة السُّرَّاق". وترجح المؤلفة أن اسم "السُّرَّاق" أو "السَّرَقة" Saracens اشتقه الصليبيون من فعل "سرق" العربي ليَصِموا به العرب ُالمسلمين، لكن لو نحن سلمنا، جدلا، بأنَّ العرب المسلمين كانوا "سُرَّاقا"، فما كان الغربيون أقل سرقة منهم؛ هم "سُرَّاق السُّرَّاق". هكذا أرادت الباحثة لعنوان كتابها هذا أن يكون صادما ومزعجا، رادة إلى نحر القوميين من الأوربيين وصمة "السُّرَّاق". وقد استخدمت هذا الرسم الذي أطلق على المسلمين العرب Saracens بدلالة أوسع ما تكون؛ فلم تقصرها على ديانة هؤلاء، لا ولا على الثقافة سليلة الديانة الإسلامية، بما في ذلك الثقافة المعمارية، وإنما شملت بها روحا ثقافية بدأت حتى قبل الإسلام؛ لتعني الميراث الذي ورثه العرب عن أسلافهم؛ بحيث لا تقصر الاسم على "الطراز المعماري الإسلامي" حصرا، وإنما تفيد به استلهامات الطراز الدائري القببي وإلهاماته ... 

وكانت تشربت الباحثة ميراثا ثَرَّا: أنفقت هي قسطا وفيرا من طفولتها في التنقل داخل البلاد الأوربية، مستكشفة كاتدرائياتها ومواقعها الأثرية ومراكز ذاكرتها الثقافية؛ بما كان من شأنه أن نمّى لديها الحس المعماري مبكرا؛ وذلك بفضل من أمها الألمانية ومن أبيها الإنجليزي أستاذ الألمانية الذي كان يعزف على الأورغ في زياراتهم للكنائس. وبجامعة أوكسفورد العريقة شغفت باستكشاف مواطن ميلاد الحضارة، فأثْرَت مجرى تكوينها الأولي في الألمانية والفلسفة الغربية بتعلم العربية، بعد أن هي شغفت بها الشغف. وقادها تعلمها اللغة والأدب والثقافة العربية إلى توسيع آفاقها إلى ما وراء أوروبا ... تلت ذلك رحلات إلى الشرق الأوسط وإلى تركيا للشغل وللاستمتاع معًا. وشيئاً فشيئاً حصلت لها أنسة وألفة، بله أخذة وجذبة، بأهم المعالم العمرانية الإسلامية والمسيحية الشرقية ـ لا سيما في تركيا وسورية ولبنان والأردن ومصر وعُمان. واهتمت على الخصوص بأعمال المعماري العثماني الشهير سنان... 

هي إذن كاتبة جوَّالة. إذ منذ السبعينات من القرن الماضي وهي تذرع بلاد سورية، حيث البنايات المعمارية منبثة في الأمكنة والأزمنة. تذرع سورية والأردن ولبنان وفلسطين وتركية تتأمل في الجامع الأموي الكبير بدمشق، وقبة الصخرة الأموية بالقدس، ومرابع الأمويين وساحاتهم، وأنقاض مدينة عنجر ... متحسسة ولامسة، كما تقول، حجارتها، حتى تترك روح هذه الآثار تنفذ إلى روحها.   

مناسبة تأليف الكتاب 

فكرة وحادثة

أرادت المُؤلفة للفكرة التي أودعتها هذا الكتاب أن تكون خميرة وليست فطيرة. إذ تخمرت في ذهنها السنين الطوال، ثم من مرحلة الكمون هذه سرعان ما انقدحت بفعل صدفة حدث. ترى، ما الحدث؟ وما الفكرة؟ أما الحدث، فيبدو عند أول النظر ألا صلة له بموضوع الكتاب: احتراق كاتدرائية نوتردام بباريس يوم 15 أبريل 2019. على أنه حدث تعده الكاتبة بمثابة الشرارة التي انقدحت عنها مناسبة تأليف الكتاب بعد أن كانت تخمرت طويلا. إذ لمحت المؤلفة في جهود إعادة ترميم الكاتدرائية مناسبة للتساؤل عن الأسرار الكامنة في قلب المعمار القوطي والإسلامي ومحاولة كشفها. وبما أن أزمة كورونا لعام 2020 ألجأتنا إلى التوقف عند ما لا يقين فيه، فقد وجدت الكاتبة أن إحدى وسائل السلوان تكمن في إعادة اكتشاف المعمار الديني وقدرته على التهدئة والإشفاء. وقد ذهبت إلى أن نفير التداعي إلى ترميم كاتدرائية نوتردام ما كانت له صلة بأي حَمِيَّة دينية. إذ اهتمام الفرنسيين بمعمارهم الديني لا يتناسب مع إدبارهم عن الاعتقاد الديني. وهي تحاول تفسير ذلك، في بلاد فرنسا ذات التقليد العلماني الراسخ، بالهجرة، لا سيما من بلاد الإسلام؛ حيث باتت تبدو للكثيرين مهددة للهوية القومية المسيحية التي ترمز إليها كاتدرائية نوتردام. وهنا تتساءل المؤلفة: لكن، ماذا لو تم تذكير الفرنسيين أنفسهم بأن هذا البنيان القوطي الطراز، الذي لطالما تم ربطه بالكاثوليكية في أوروبا، إنما هو مستلهم من العمران الإسلامي الذي كان قد استجلب إلى أوروبا قرونا قبل تشييد تلك المَعْلَمة؟ هنا تلتقي الحادثة بالفكرة. وتروي المؤلفة كيف أنها منذ أمد اطلعت على رأي لكبير المعماريين البريطانيين، كريستوفر ورين، ذهب فيه إلى أن: "ما نطلق عليه اليوم اسم [المعمار القوطي] إنما يلزم أن نطلق عليه على وجه الدقة والحقيقة اسم المعمار الإسلامي". وقد ظلت هذه الفكرة ترن في ذهن المؤلفة على فترات. وإذ عاينت ما عاينته من معمار إسلامي وغربي، انقدحت الفكرة فجأة في ذهنها بعد أن زودها هذا المعماري بعدسة للرؤية جديدة: وها هي قد باتت الآن تعاين في العديد من الكاتدرائيات الغربية الأقواس الثلاثية الفصوص والنوافذ المدببة والقباب المروحية والمنطقة الواقعة بين المذبح العالي والصحن في الكنيسة المشيدة بالخشب المنحوت نحتا متقنا والمزوق بكروم ملتوية وأوراق متعرجة وفاكهة نضرة، باتت تعاينها بأعين جديدة. وها هي أمست تعلم الآن من أين استقي هذا الطراز؛ بما أغنى من فهمها. فكان أن جاءت تغريدة الباحثة: "ينحدر تصميم نوتردام المعماري ـ شأنه في ذلك شأن سائر الكاتدرائيات في أوروبا ـ مباشرة من كنيسة قلب لوزة المشيدة في القرن الخامس الميلادي بسورية. والصليبيون هم من جلب فكرة البرج المثنّى المحيط بنافذة الوردة إلى أوربا في القرن الثاني عشر الميلادي. وهي كنيسة توجد في قلب إدلب، وقائمة إلى يومنا هذا". وسرعان ما تهاطلت ردود الفعل المنذهلة. وإذ تنبهت الباحثة إلى أنَّ التغريدة إنما عزفت على وتر حساس، قررت أن تقدم إنارة على موقعها الإلكتروني عنونتها العنوان المثير: "ميراث نوتردام ـ أقل أوربية مما يعتقده النَّاس". وسرعان ما أثارت هذه التنويرة زوبعة من الاهتمام الإعلامي. إذ اتصلت بها جرائد تستأذن في النقل، ونشرت التدوينة في وسائط اتصال عدة ونقلت إلى ألسن متنوعة: العربية والفرنسية والألمانية والصينية واليابانية والهندية ... وكان أن تساءلت المؤلفة: ترى، أثمة استعداد، في جو وخيم يضج بمخافة الإسلام، للاعتراف بأن طرازا معماريا لصيقا بالهوية الأوربية المسيحية إنما هو مدين بأصوله إلى المعمار الإسلامي؟ وماذا لو كانت العديد من الكاتدرائيات الأوروبية قد استلهمت من قبة الصخرة بالقدس رغم كل التمويهات التاريخية التي رامت إخفاء ذلك؟ وقبل وبعد، كيف يمكن لكاتدرائياتنا القوطية الأوربية العظمى، التي هي التجسيد الحق لهويتنا القومية والمسيحية، أن تكون تَمُتُّ بأية صلة إلى المسلمين أو العرب؟ ما الذي يمكن أن يعنيه هذا؟ وما البَيِّنَة عليه؟ ما الذي تعلّمته أوربا من مُغامراتها الأولى في الأراضي المقدسة والشرق الأوسط، وهي البلاد نفسها التي ولدت فيها المسيحية؟ وماذا عن الاستمدادات الأولى من الطرازات المعمارية من الأندلس وصقلية وإيطاليا لقرون مديدة قبل مجيء الصليبيين ومن التفاعل الثقافي العابر للبلدان؛ شأن فينيسيا ومالطة ورودس وقبرص، في السنوات التي تلت الصليبيين؟ وماذا عن العثمانيين القوة العظمى في أوربا لأربعة قرون؟ 

 

عنوان مثير للجدل

عنوان الكتاب إشكالي ومزعج ومستفز: "السرقة من المسلمين". والمؤلفة ترى أنه يحتاج إلى توضيح؛ لأنه اختير بعناية فائقة ويمكن قراءته قراءات متباينة: استعملت لفظة Saracens بدلالة قدحية لتطلق على المسلمين العرب الذين حاربهم الصليبيون على مدى قرنين، بدءا من عام 1095م، في "حربهم المقدسة" لاسترداد القدس. وتُنسب إلى لفظ Saracens اشتقاقات افتراضية عدة. لكن المؤلفة ترجح أن تكون قد أخذت من الفعل العربي "سرق". ومن ثمة اعتُبر المسلمون "نهّابين" و"سُرّاقا" من وجهة نظر المركزية الأوربية. وهذا الحيف في وصم الأغيار ظالم ومشين، وهو ما حدا بالمؤلفة إلى رد التهمة إلى نحر المتهِمين: التهكم من الغربيين باتهامهم بالسُّرّاق وهم الذين اتهموا خصومهم العرب المسلمين بهذه التهمة! وبهذا يمسي رمز الروحانية المسيحية ـ الكاتدرائيات الغربية التي هي عنوان فخر ومجد وتفرد ـ مسروقا منتهبا! وتلاحظ المؤلفة أن الغربيين انتهوا ـ في سوادهم الأعظم ـ إلى خلاصة يعتبرون فيها الشرق الأوسط والإسلام أمرين عادة ما يقترنان بصور سلبية: العنف، التطرف، الإرهاب. وقليل منهم من حظي بحظوة الرواح إلى المنطقة وخبرتها بنفسه منذ الربيع العربي (2011) وما نجم عنه من حروب أهلية. 

 

مقدمات أطروحة الكتاب

تُشير المؤلفة إلى أنها لطالما كانت مفتونة أشد فتنة تكون بالمعمار، مأخوذة هي بتلك القوة التي تدفع البشر إلى تصميم بنايات بطرق معينة في أماكن محددة ولأغراض مخصوصة. وقد قادها اهتمامها المبكر بمواطن نشأة الحضارات البشرية وبالبنايات العالمية وبالجماعات البشرية إلى دراسة اللغة العربية. وفضلا عن السنوات الثلاث التي أمضتها في ترميم بيتها بدمشق رفقة الصناع المحليين ـ من الحجارين والنجارين والرخامين والجصاصين والقرموديين والصباغين والرصاصين ـ وهو ما ألهمها استبصارات عدة في تصميم البناء ما كان بمكنتها أن تكسبها لوحدها بمجرد البحث والمطالعة، قضت أمدا في التجوال حول الشرق الأوسط، متأملة في رسومه وربوعه ومعالمه وآثاره ... مقارنة له بالمعمار الأوروبي، لا سيما منه الكاتدرائي ...

ولا تتغيا الباحثة أن تنكر المعمار الأوربي بالمرة، وأن تتنكر لمنجزاته المبهرة العديدة. لكنها لا تريد، في المُقابل، أن تقول إن ثمة معمارا "لنا" ـ معشر الأوربيين، يخصنا لوحدنا ـ إنما الشأن في المعمار أن يُستعار. كل يبني على ما سبقه. فما نشأت القبب المثناة والأقواس المدببة والأقبية المضلعة ... هكذا في أوربا فجأة، وإنما هي اكتشافات معمارية تقنية تعاورتها الأمم. ولما كان المعمار اختيارا مقصودا، وصورة تعكس الذات، كما أنه يرتبط، حين يتعلق الأمر ببناءات عمومية وتشييدات تاريخية، ارتباطا وثيقا بالهوية القومية، فإن من شأن الطرازات المعمارية أن تتعارك وأن تتآزر في ما بينها البين داخل الثقافة عينها، وفي ما بين الثقافات المتباينة؛ ومن ثمة يمكن أن تنشأ "حروب معمارية" تحدث الشقاق بين الثقافات: الشرق ضد الغرب، المسيح ضد المسلم ... وهو ما يحدث اليوم، لا سيما عند العديد من الغربيين. 

 

ملخص أطروحة الكتاب

تركز المؤلفة على المعمار القوطي، وتربط أصوله بالحروب الصليبية. وما تكشف عنه هو الأطروحة التالية: كما أن الحروب الصليبية ما كانت حدثا معزولا، وإنما سلسلة أحداث موصولة لم تنبجس فجأة لما دعا البابا أوربان الثاني النصارى إلى اللحاق بالأرض المقدسة عام 1095م، فكذلك هو المعمار القوطي لم يظهر هكذا فجأة عن غدارة في القرن الثاني عشر الميلادي. وكما أن الحروب الصليبية ما كانت مجرد شبكة معارك ومواثيق وهدنات وتحالفات، وإنما كانت أيضا تفاعلات إسلامية مسيحية على مستويات عدة، فكذلك كان حال المعمار القوطي الإسلامي. ومجمل دعواها بهذا الصدد أن ثمة تشابها بديا بين المعمارين باديا للعيان، وأن ثمة تماثلا خفيا ممتنعا عن الأعيان. من جهة أولى، تثبت المؤلفة عبر فصولها الشائقة التماثلات الدالة على التأثيرات: البرجان المثنويان، المنارة، خلفية الكاتدرائية، الأقواس المدببة، وتلك التي تشبه معالمها الحصان والتزيينة، النوافذ الحجرية المزخرفة، تقنيات القباب، الشرفات ... هو ذا ما كان قد تبدّى للباحثة عند الشروع في تأليف الكتاب. لكن سرعان ما تجلى لها ما كان من الشبه الخفي: القوس ثلاثي الفصوص ومتعددها، الأروقة المكونة من الأقواس المتقاطعة، الأديرة، المذبح، الزخرفة، القبب المثناة، تقنيات الزجاج الملون، الزخرفة بالحجارة ... تلك تقنيات انتشرت عبر ربوع أوربا، لكن منبتها وُجد في الشرق الأوسط، ولا سيما في سورية. ولا غرابة في ذلك؛ إذ شهدت سورية، بمعناها الواسع القديم، ميلاد المسيحية وحضنها في القرون الأولى الحاسمة. أكثر من هذا، تتقاسم الديانات التوحيدية الثلاث تاريخا مشتركا من الأنبياء والملوك، ودعاوى متقاسمة عن الحياة الأخرى والنعيم والجحيم. 

 

بنية الكتاب

في الفصلين الافتتاحين الأولين، تناقش الباحثة آراء المعماري البريطاني الكبير كريستوفر ورين، ثم تستقصي أمر المعمار القوطي بحسبانه معمارا إسلامي الاستيحاء والتصور. وتقيم على أساس هذين الفصلين، فصلا بعد فصل، مروية المعمار بدءا من الميراث ما قبل الإسلامي ـ سورية، العراق، إيران، فلسطين، تركيا ـ مستهدفة استقصاء التأثيرات العيانية المدينة إلى هذه الحضارات المعمارية: تُرى، كيف دخلت هذه الطرازات؟ وكيف انتسجت في النسيج المعماري المحلي؟ وبالبدل من أن ترى المؤلفة في هذه التطورات تطورات خطية بسيطة اختزالية، تفضل صورة الدائرة المتداخلة السردابية المتاهية ... وبمبعد عن كل نظرة أحادية ترى التأثير والتأثر ولا ترى التآثر، تسعى الباحثة إلى إقناعنا بأن الحضارات المعمارية البشرية كانت متحالفة يستمد بعضها من بعض على سبيل التبادل: الميراث المعماري البيزنطي المبكر الذي ورثته الحضارة المسيحية العربية، وهذا الميراث بدوره ورث من الميراث الهليني الروماني لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، والذي هو أيضا ما كان "غربيا" بحتا. إذ تأثيرات الشرق الأدنى المعمارية تجد جذورها في تقاليد بلاد الرافدين المعمارية العتيقة التي تم استدماجها في التطور اللاحق للمعمار الكاتدرائي. وقبل أن تفرض البدوات والغزوات اليونانية والرومانية فكرة الفصل بين "الشرق" و"الغرب" على الشرق الأدنى، ما كانت المنطقة، على الوجه المجمل، منمطة تنميطا فنيا على الطريقة السطحية التي توحي بها أشكال الفن اليوناني الروماني. فما من معمار يقام إلا ويتأثر بما قبله. الوصل هو الأصل. لا شيء ينبجس من فراغ. بهذا يحاول الكتاب الجواب عن مسألة كيف بنيت الحضارات المتعاقبة على إنجازات سابقاتها، وكيف ولجت ابتداعاتها على وجه التدريج إلى أوربا، محدثة بذلك تغييرا على المعمار الأوربي وفق طرق واضحة للعيان أحيانًا وملتوية أحيانا أخرى إلى درجة تم إهمالها عن قصد أو تم ببساطة نسيانها.  

تختم المؤلفة عملها بنبرة حنينة: كثير هو ما تعلمته مدينة فينيسيا الإيطالية من اتصالاتها بالمدن الإسلامية؛ نظير دمشق وحلب والإسكندرية والقاهرة. ومنه أن التصور الإسلامي للسكن يقوم على فكرة أن الشأن في نمو الجماعات الحيوي أن تتحلق حول البنايات الدينية والتجارية الأساسية في المدينة. ولهذا طورت فينيسيا مناطقها السكنية في صلة بشبكات البيوتات المتراصة جنبا إلى جنب في إطار اجتماع بشري متلاحم. وهنا لا تخفي المؤلفة حنينها إلى هذا الطراز من العمران، فتنشئ القول: حبذا لو أن المعمار، بدل أن يُستخدم الاستخدام في حروب ثقافية مفرِّقة، إنما يُستعمل إيجابا بأيد من سياسات حكومية متنورة؛ فيسعى بعيدا عن فكرة الضواحي الرتيبة ـ وهو أمر من مخلفات العصر الحديث ـ نحو إعادة توطين المناطق المركزية في المدن؛ بحيث يمكن للجماعات مرة أخرى أن تبنى البناء العضوي وأن تتطور، راسمة سبيل عيش المستقبل ـ الذي لربما يكون هو الطراز الإسلامي عينه ـ نحو مجتمع أشد تلاحما واندماجا؛ حيث يمكن للسكان من جديد أن يتعرفوا إلى جيرانهم ويعرفوهم. ولسوف يكون هذا الأمر بمثابة استعارة معمارية تحتفي بها سائر بشرية اليوم. 

 

عنوان الكتاب: السرقة من السراق: كيف شكل المعمار الإسلامي أوروبا؟

اسم المؤلفة: ديانا دارك

دار النشر: مطابع جامعة أوكسفورد

سنة النشر: 2020

أخبار ذات صلة