إريك كلين
عزالدين عناية
انطلقت أولى عمليات البحث الأثري في فلسطين على أيدي لاهوتيين غربيين وليس على أيدي علماء آثار. ومنذ الشروع في التنقيب والحفريات كان الكتاب المقدّس اليهودي بأسفاره المتنوّعة دليل البحث ومعياره، حتى انطبعت الوقائع الأثرية بمرويات التوراة بشكل طاغ. وإلى حدّ تحوّلت الاكتشافات إلى مجرّد ترصيف للّقى الأثرية ضمن لوحة فسيفسائية جاهزة الملامح. فمع كثيرين ممّن امتهنوا الاشتغال بالعاديات في فلسطين شكلت التوراة خريطة الطريق التي على ضوئها، ووفق مقولها، يتمّ فكّ شفرة الآثار القديمة للمنطقة وما جاورها.
حاول المؤلف إريك كلين توزيع كتابه إلى قسمين أساسيين: الأول تناول تطور أركيولوجيا التوراة، والثاني اهتم بارتباط البحث الأثري بالكتاب المقدّس. سنحاول في هذا العرض الإتيان على أهم القضايا المطروحة في الكتاب وتناولها من منظور نقدي. نشير إلى أنّ إريك كلين هو أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة جورج واشنطن وباحث أثري، قام بسلسلة من الحفريات في فلسطين وله مجموعة من المؤلفات التاريخية تتناول تاريخ التوراة وتاريخ فلسطين القديم.
في القسم الأول يلفت انتباه المتابع للبحث الأثري في المنطقة التي شهدت ظهور الكتاب المقدس اليهودي أنّ أركيولوجيا التوراة، منذ النشأة، قد وُلِدت رهينة نصّ ديني، وهو ما منع تطورّها الحرّ والعلمي. كان هدف إدوارد روبنسون (من مواليد 1794)، أحد آباء البحث الأثري في فلسطين، وهو لاهوتي أمريكي من كونتيكوت، إنجاز جغرافيا تاريخية توراتية لفلسطين من خلال مقارنة الأسماء العربية بالأسماء القديمة الواردة في الكتاب المقدس. فقد كان الإحساس الديني غالباً على رجل الدين المسيحي المتطلع للبحث الأثري. وهكذا بدت مدينة القدس ملكاً له وفلسطين أرضاً مسيحية يهودية، وهو شعور قديم ومتجدّد يغذّيه مخيال صليبي مُتجذّر. وضمن هذا السياق صرّح رئيس أساقفة يورك ويليام طومسون في 1865 بمناسبة انعقاد مؤتمر "صندوق اكتشاف فلسطين" الذي أنشئ للغرض: "أرض فلسطين هذه تنتمي إليكم، إليّ أنا، إنها بالأساس أرضنا [...] نقصد تلك الأرض المترامية طولاً وعرضًا، لأنها أُعطيت لنا".
والواقع أنّ الاهتمام بآثار الأرض المُقدسة قد شهد رواجًا في الغرب، بموجب الارتباط بالعهد القديم والعهد الجديد، وازدادت العناية أيضًا بالأبحاث الأثريّة في وادي الرافدين ومصر كلّما كانت على صلة بوقائع الكتاب المقدّس، حتى تشكّلت في كثير من البلدان هيئات انصرفت إلى تعزيز معارفها التاريخيّة والأثريّة بأرض فلسطين، وبمقرات عاملة في مدينة القدس. وعلاوة على أولى المؤسسات مثل "صندوق استكشاف فلسطين" الذي أشرنا إليه آنفاً وقد تأسّس في بريطانيا خلال العام 1865، أُنشئت للغرض ذاته مؤسسة ألمانية وهي "جمعية فلسطين الألمانية" اهتمت بالأبحاث التاريخية (1878)، ثم "المدرسة التطبيقية للدراسات الكتابية" المعروفة باسم (École biblique) التابعة للآباء الدومينيكان الفرنسيين (1890م)، وفي مرحلة أخيرة ظهرت "المدارس الأمريكية للبحث الشرقي" (1900م)، التي حازت على مكتب لها في القدس أيضا. وفي روما أنشئ "المعهد الحبري لدراسة الكتاب المقدس" خلال العام 1909م، بهدف تطوير البحث الأثري، بمكتب في مدينة القدس أيضًا.
يعود إلى ويليام فوكسويل آلبرايت (ت. 1971)، سليل عائلة مبشّرين ميتوديين أمريكان، وَضْع أسس علم الآثار التوراتي، فهو أوّل من سعى إلى توزيع التاريخ التوراتي إلى أحقاب متنوّعة ومتباينة. ومنذ انطلاقه في البحث الأثري حظي الرجل بدعم من جامعات خاصة، ونال رضى الدوائر المسيحية التبشيرية والصهيونية التي كانت تحفّزها أهداف سياسية ودينية مضبوطة، وهو ما شكك في استقلالية أبحاثه. تجلى ذلك الانحياز من خلال نهجه "العلمي" الهادف إلى سحب ماضي فلسطين الثري وإلحاقه بقراءة تخدم المشروع الصهيوني الصاعد. ثم تسلّم نيلسون غلوك (ت. 1971) المشعل من آلبرايت في تلك المهمة الخطيرة. وقد كان غلوك حاخاما يهوديا قبل أن يصير باحثا أثريا، تتلمذ على يدي آلبرايت في "المدرسة الأمريكية" وتعاون معه في العديد من الحفريات، وكان غلوك مقتنعا أنّ البحث الأثري في فلسطين ينبغي أن يسيرَ بخطى متوازية مع التوراة. ومع غلوك توثّقت الصلة بين مؤسسات البحث الأثري الأوروبية والجامعة العبرية في القدس لأجل خدمة المشروع الإسرائيلي.
في مستهل ثلاثينيات القرن الماضي قام جون غارستانغ بأبحاث في أريحا، خلص على إثرها إلى أنّ خراب المدينة وتدميرها قد حدث خلال العام 1400 قبل الميلاد على يد يشوع بن نون الذي خلف النبي موسى (ع) في قيادة جحافل اليهود نحو "الأرض الموعودة"، وقد ثبت ذلك الحدث أثريّا حسب زعمه. تبيّن لاحقا أنّ خلاصة تلك الأبحاث الأثرية أكذوبة علمية وفضيحة في تاريخ أركيولوجيا التوراة، وألّا وجود لقرائن أثرية تجمع بين الرواية التوراتية والمكتشفات المزعومة. وفي تلك الفترة أيضا كان يغائيل يادين (ت. 1984)، وهو عسكري وأثري إسرائيلي، يسير على خطى آلبرايت، مصرًّا بدوره على إيجاد مصداقية للرواية التوراتية. ولجمْعه بين الوجاهة العسكرية والعلمية حظي يغائيل يادين بدعم خاص في إنجاز أبحاثه من دافيد بن غوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، وفُتحت أمامه أبواب الجامعة العبرية في القدس على مصراعيها.
شهدت أركيولوجيا التوراة مرحلة جديدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتحديدا بعد الحرب العربية الإسرائيلية (1948)، من خلال التركيز على مجالات يُفترض أن يُعثر في طياتها على ترابط بين الإسرائيليين القدامى والإسرائيليين الجدد، بغرض صياغة رؤية قومية تثبت صدقية الرواية التوراتية وتبرر شرعية المشروع الصهيوني. لتشهد دائرة البحث التوراتي توسّعا على إثر استحواذ إسرائيل على الأراضي العربية بعد حرب 1967، وتتمدد دائرة البحث إلى مناطق أخرى دون أن تتمخض عن نتائج لافتة.
في القسم الثاني يركز إريك كلين على أهم القضايا المطروحة في الحقل. فما يلوح جليا من خلال الكتاب أنّ الأركيولوجيا التوراتية غالبا ما أُريد لها أن تتكلّم العبرية، وكأنّ العبرية لغة البدايات والنهايات في المشرق العربي. والواقع أنّ العبرية لغة إشكالية منذ بداية تدوين التوراة. ولعلّ أولى القضايا التي تعترض الباحث في توراة موسى، مسألة اللّغة التي كُتِب بها النصّ. فليس القول بعبرية لسان النبي موسى (ع) من اليقينيات، إذ لم تتوفّر آثار عبرية مكتوبة تتجاوز القرنين الثّامن أو التّاسع قبل الميلاد، على أقصى تقدير. وبذلك يتعذّر القول يقينا بعبرية اللّسان الموسوي، إذ النّصوص العبرية الموجودة الآن، تأتي متأخرة عن الفترة الموسوية، بما يفيد أنّ العبرية لغة ناشئة عقب دخول بلاد كنعان، أي بعد وفاة النبي موسى. وفي سياق حديث التوراة عن موسى تعرّضت إلى مسألة لسانه، جاء في قولها: "فقال موسى للربّ استمع أيّها السيّد لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أوّل أمس ولا من حين كلّمتَ عبدك. بل أنا ثقيل الفم واللّسان... فالآن اذهبْ وأنا أكون مع فمك وأعلّمك ما تتكلم به -الله-... وقال أليس هارون اللاّوي أخاك أنا أعلم انه هو يتكلّم، وهو يكلّم الشّعب عنك وهو يكون فمًا وأنت تكون له إلهًا -أي سيّدا-... ثم مضى موسى وهارون وجمعَا جميع شيوخ بني إسرائيل. فتكلّم هارون بجميع الكلام الذي كلّم موسى الربّ به وصنع الآيات أمام عيون الشعب" (سفر الخروج4: 10-30). ثمة ما يوحي بأنّ النبي موسى كان ثنائيّ اللّسان، وبناءً على ذلك، خلص بعض الباحثين مثل سهيل ديب وسيد القمني إلى القول بمصرية اللّغة التوراتية. وللتوضيح لم تُعرف اللّغة العبرية بهذا الاسم إلا بعد السبي البابليّ، فقد كانت تُسمّى "اللّغة اليهودية" كما يظهر في سفر إشعياء36: 11، و"لغة كنعان" أيضًا كما يظهر في إشعياء19: 18.
يقول إريك كلين: "في حقل أركيولوجيا التوراة، تبقى العديد من الوقائع في حاجة إلى الكشف والتوضيح، حتى وإن لم يكن الحقل جديدا، وقد انطلقت الأبحاث بشكل جدّي منذ قرن تقريبا... صحيح استُهِلّ العمل بإمكانيات بسيطة، ولكن الأمور في الوقت الراهن بلغت توظيف أدوات علمية متطوّرة". وبالرغم من كلّ هذه التطورات لا تزال ريبة تحوم حول كثير من المنجزات، إذ يبقى السائد في المخيال العالمي حول المنطقة متأتيًا من التوراة أكثر منه من علم الآثار. وفي الواقع ثمة عقدة ينبغي أن يخرج منها علم آثار فلسطين وهو التحرر من رهن التوراة، وهو ما لم يتحقق بعد، بإيجاز لأنّ العرب لم ينتجوا علمًا أثريا للمنطقة. ثمة تأويلات كثيرة للّقى الأثرية يصعب أن تُبنى على أساسها حقائق تاريخية. وصحيح ثمة جهود بُذلت من قبل العلماء، تم فيها توظيف آخر الأدوات العلمية المساعدة، لكن النتائج في العموم هي أقرب إلى الظنّ منه إلى الحقائق. وممّا فاجأ الباحثين في أركيولوجيا التوراة أن نتائج الأبحاث في تاريخ فلسطين أخبرت عن كنعانية الأرض أكثر ممّا أخبرت عن توراتيتها.
لقد استمرّ الاشتغال على تزييف الحقائق الأثرية في فلسطين ما يناهز القرن، ولم تُجابَه المزاعم الأثرية التوراتية سوى مع تسعينيات القرن الماضي من خلال نقض المقولات التي طالما سادت في حقل علمي كان يُفترض أن يكون بعيدا عن التجاذبات السياسية. جاء هذا النقض مع مجموعة من الباحثين نذكر من بينهم نيلز بيتر لامش، وتوماس طومسون، وكيث ويتلمان، وفيليب دافيس ممن ذهبوا إلى أنّ جانبا كبيرا من التوراة العبرية هو من اختلاق كتّاب عاشوا في الفترة الفارسية –القرن الخامس قبل الميلاد- والفترة الهلينية –بين القرن الثالث والقرن الأول قبل الميلاد-. وقد ذهب جميع هؤلاء الباحثين إلى أنّ الحقائق المتضمَّنة في التوراة قليلة. وقد عُرفت تلك المجموعة بـ "مدرسة كوبنهاغن" وإن انضمّ إليها باحثون آخرون يدرّسون في شيفلد في إنجلترا. قام عمل هذه المدرسة على قلب المنهجية التقليدية التي طالما سادت في الأبحاث الأثرية التوراتية، وذلك بالانطلاق من الوقائع التاريخية المستخلَصة من اللقى الأثرية وليس من التوراة كما دأبَ علماء آثار التوراة. وكان نيلز بيتر لامش أبرز من كشف التلاعب والتزييف في الحقل الأثري التوراتي من خلال تزييف النقائش وقلب الحقائق. الواقع أنّ الفساد قد تسرّب إلى حقل علمي مهمّ، وبات فيه علماء آثار ينعمون برفاهية فنادق الخمسة نجوم ليس لأهمية الأبحاث التي ينجزونها، وإنما للحفاوة التي يتلقونها جراء الخدمة التي يسدونها للمشروع الصهيوني (ص: 69).
وأمام الانتقادات التي توجّهت إلى منهج البحث القديم وشُحّ النتائج، فَتَرت همة علماء الآثار التوراتيين في العثور على توافق كتابي أثري وغدا الميل إلى البحث في الحياة اليومية القديمة. إذ باءت جهود الآثاريين لخلق ملامح وطن عريق بالفشل. وهو ما دفع إلى نوع من الاتزان في أبحاث أركيولوجيا التوراة عامة، من خلال محاولة كتابة تاريخ المنطقة بدون أرثوذكسية عقَدية متعصّبة للتوراة. فمثلا توجهت انتقادات كبرى إلى قصة الطوفان التوراتي الكوني بعد أن تبيّن أن الرواية التوراتية مستوحاة من رواية جلغامش، وأن طوفان نوح هو مجرّد حدث كغيره من الأحداث التي شهدتها المنطقة الشرقية في التاريخ القديم. وأضحت الأسئلة بشأن وجود البطاركة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتساؤل بشأن أحداث سدوم وعمورة، وحادثة الخروج، واجتياح أريحا وغيرها من القضايا مهجورةً بعد الخيبات المتعدّدة في العثور على قرائن أثرية تدعم تلك المرويات. غدت الإجابات الأثرية الحاسمة عن تلك الأسئلة من صنع آثاريين مزيفين أو مشعوذين دخلاء على الحقل، كما يقول إريك كلين، يتلهفون على المال من خلال بيع الأراجيف الأثرية إلى الإعلام. وللأسف تخلق هذه المغالطات خلطا بين العامة وفي أوساط غير المختصين.
فحدثُ الخروج الذي يحتفي به اليهود في كل عام، في عيد الفصح، لم يثبت بعد أثريّا، ولعلّ واقع الترحال الذي لا يخلّف آثارا معتبرة يزيد المسألة تعقيدا. تبدو الرواية التوراتية التي تتحدّث عن تدمير المدن الكنعانية، على إثر الخروج، والتي تبناها آلبرايت تُعارضها قراءة أخرى ترى الدخول السلمي، لأنه لا أثر للتدمير، وذلك ما ذهب إليه الباحثان الألمانيان ألبريخت آلت ومارتن نوث. فالتخريب الذي تتحدث عنه التوراة لا أثر له، وهو ما يضع أركيولوجيا التوراة في مأزق. إذ ما يلاحَظ في الأبحاث التوراتية أن ثمة نظرة قومية طاغية في فهم التاريخ اليهودي تتناقض مع واقع التعدد والتنوع، وقد تعززت تلك النظرة القومية جراء البحث عن هوية مميزة لإسرائيل، والحال أن فهم تاريخ فلسطين بمختلف طبقاته وأطواره هو جزء من تاريخ شامل للمشرق العربي.
الكتاب: أركيولوجيا التوراة .. مدخل تمهيدي.
تأليف: إريك كلين.
الناشر: منشورات كويرينيانه (بريشيا) 'باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2021.
عدد الصفحات: 192 ص.
