البندقية والسفينة والقلم: الحرب والدساتير وصنع العالم الحديث

البندقية والسفينة والقلم.jpg

ليندا كولي

محمد السماك

لكل دولة دستور يُنظّم شؤون حكمها وتوزيع المسؤوليات بين مؤسساتها وقياداتها. ولكن من أين جاءت فكرة الدستور وكيف بدأت؟ ومن كان أول من أطلقها؟.

هذه الأسئلة في الثقافة الدستورية تطرحها وتجيب عليها الدكتورة ليندا كولي في كتاب مثير حقاً عنوانه: البندقية، السفينة والقلم. وقبل الدخول في مضمون الكتاب ـ يُستحسن التوقف أمام العنوان. فالعوامل الثلاثة كانت متداخلة إلى حد التكامل من أجل التوصل إلى "العقل الدستوري" الناظم للعلاقات في المجتمعات وخاصة منها الاجتماعات المتعددة . وتأكيدا لذلك نبدأ برواية القصة التالية :

في أواخر شهر نوفمبر من عام 1838 رست سفينة قراصنة بقيادة "راسل إليوت" (بريطاني) في جزيرة "بتكارين" في الجنوب الباسيفيكي . وكان سبقه إليها قبل 51 عاماً البحّارة البريطانيون التسعة الذين بقوا من مجموعة متمردة من بحّارة السفينة "بوانتي" (قدّمت هوليوود فيلماً مشوّقاً عنها قبل سنوات).

وجد إليوت نفسه مضطراً للعيش مع مجموعة من الناس تتجاوز المائة شخص بقليل؛ ولكن هذه المجموعة متعددة الأجناس والأعراق، ومعرّضة للمزيد من الزوار اللاجئين الذين قد يفدون إليها في أي وقت بحثاً عن ملجأ أو مأوى خاصة من الصيادين .

أدرك إليوت أن المجموعة من المتمردين الذين استوطنوا الجزيرة يحتاجون إلى جامع ما. إلى عَلَم يرمز إليهم، وإلى مجموعة من التنظيمات التي ترعى وتنظم شؤون حياتهم والتي يمكن أن ترسي قواعد ثابتة يقبل بها الجميع ويلتزم بها الجميع أيضاً. كانت تلك أول محاولة لوضع صيغة تنصّ على حق كل شخص –رجلاً أو امرأة- في انتخاب هيئة تتمتع بسلطة إدارة شؤون الجزيرة. وكانت تلك الصيغة "دستوراً".

غير أنَّ قصة "الدستور" أقدم من ذلك، كما تقول المؤلفة نفسها. تعود البداية إلى عام 1755 في جزيرة "كورسيكا" (وهي اليوم جزء من فرنسا وفيها وُلد بونابرت).

 

في ذلك الوقت كانت فرنسا منصرفة لعمليات التوسع في العالم متنافسة في ذلك مع بريطانيا. ولذلك أهملت هذه الجزيرة وتركتها إلى مصيرها. ولكن صادف أن أحد أبناءها ويدعى "باسكوال باولي" كان من الثوار المُغامرين معتقلاً في نابولي، ولما أُطلق سراحه وعاد إلى الجزيرة، كان مشبعاً بالفكر التنويري الذي بدأت إشعاعاته الأولى في أوروبا وفي إيطاليا تحديداً . من توسكاني في الشمال إلى نابولي في الجنوب. وكان متأثراً جداً بنظريات المفكرين النهضويين الأوائل حول السياسة والاقتصاد والقانون والحريات العامة والفردية، فحاول أن يجسد ذلك في دستور لكورسيكا. وبالفعل كان ذلك النص الدستور الأول، وكان الدستور الأوروبي الأول أيضاً.

جاءت فكرة النص الدستوري "المكتوب" من المتغيرات السياسية والعسكرية المتواصلة والمتلاطمة بما تفرضه من تبدل متواصل في المعادلات. ولذلك كان لابد من قاعدة ثابتة للتعامل مع هذه المعادلات المتغيرة؛ فكان الدستور.

بعد أن وضعت أوزارها حرب السنوات السبع (والتي وصفها فيما بعد رئيس الحكومة الأسبق ونستون تشرشل بأنها كانت "أول حرب عالمية" نظراً لتداخل القوى الدولية المتقاتلة فيها) لاحظ باولي أن هذه الحرب خلّفت وراءها سلسلة من الحروب البيئية، وأن هذه الحروب تفتح الأبواب أمام تحالفات وتدخلات من قوى بحرية وبرية تؤدي إلى المزيد من اللااستقرار والتقاتل. ولذلك فإن الحكومات المحلية كانت تحتاج إلى الاستنفار الدائم لبناء وحدات عسكرية للقتال في البر والبحر، الأمر الذي كان يتطلّب فرض ضرائب مرهقة على المواطنين.

كان من نتيجة ذلك الأزمات الداخلية وتوالي الانفجارات الاجتماعية والاحتجاجية. ولاحتواء ردود الفعل هذه، أدرك باولي أنه لا بد من نظام يؤمّن مشاركة الناس في اتخاذ القرار السياسي . 

صحيح أنَّ ذلك سيكون على حساب السلطات المحلية المطلقة الصلاحية، إلا أن تنازلها عن هذه الإطلاقية كان ضرورياً لامتصاص النقمة الشعبية وتأمين استمرار دعم العمل العسكري تمويلاً ومشاركة. وللتأكيد على ذلك كان لابد من نص يُعتمد بموافقة الجميع؛ فكان النص الدستوري. وهكذا تكون كورسيكا (الجزيرة التي احتلتها فرنسا من إيطاليا) قد أنجبت الدستور الأول .. كما أنجبت نابليون بونابرت!! أما كيف انتشرت بعد ذلك فكرة "الدستور" في أوروبا ومن ثم في العالم، فإن الفضل في ذلك كما تقول المؤلفة يعود إلى اختراع الطباعة .

بدأت العملية بالحوارات الشفهية ثم المكتوبة حول الحقوق ودسترتها، ثم بطبع النصوص التي تتناول هذه الآراء والاجتهادات وتبادلها، مما فتح الباب على مصراعيه أمام الكثير من المثقفين والمفكرين للمساهمة في طرح الآراء والأفكار التي أغنت المسيرة الدستورية ورفدتها بالكثير من الاجتهادات التي اعتُمدت فيما بعد وحتى اليوم . وجاء بعد ذلك اكتشاف التلغراف ليسهّل عملية انتقال هذه الأفكار وتبادلها.

أما ما هو الدستور الأفضل، فإن الجواب هنا ليس واحداً. فالمؤلفة تنقل عن أحد القضاة الإنجليز قوله "إن الدستور الأفضل هو الذي يتمتع بمواصفات تصلح لكل دولة ولكل جنس وفي كل وقت". غير أن الملاحظة الهامة التي تفرض ذاتها هنا هي أنه ليس للمملكة المتحدة دستور.

 

وتقول المؤلفة إن بعض الدساتير المعتمدة في العالم أعطت الأولوية للأمور العملية وليس للقضايا المبدئية المثالية، وذلك بهدف إدارة شؤون المجتمع وحفظ حقوق الناس.

وتشير المؤلفة إلى أن الدساتير التي اعتُمدت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثلاً عمدت إلى منح الحقوق للبيض، وللذكور من البيض، وذلك بحجة أن هؤلاء هم الذين يقاتلون في الحروب، وهم الذين يدفعون الضرائب للدولة . حتى الدستور الأمريكي في ذلك الوقت شرّع حقّ مصادرة أراضي السكان الأصليين.

وفي عهد نابليون (الكورسيكي الأصل) عمل على وضع دستور يشرّع الاستيلاء على أراضي الدول التي قام بغزوها.

وتلقي المؤلفة الضوء على دساتير دول أمريكا الجنوبية التي شرّعت في بداياتها أيضاً حق الاستيلاء على أراضي الهنود الحمر والسكان الأصليين، بحيث إن دساتيرها الأولى كانت تنصّ بصورة صريحة ومباشرة على التمييز العرقي.

أما الدساتير التي صدرت في دول مثل ليبيريا وهاواي وهايتي، فقد عكست –حسب قول المؤلفة- آمالاً وتوجهات مختلفة تماماً.

وتذهب المؤلفة في دراستها عن الدساتير إلى الشرق الأقصى، وتقول إن اليابان مثلاً في عهد سلطة "ميجي" في عام 1889، اعتمدت نصاً دستورياً نسبته إلى الإمبراطور الذي كان في ذلك الوقت يتمتع بالقداسة. علماً بأن الدستور المعتمد كان نقلاً عن الدساتير المتداولة في أوروبا وأميركا في ذلك الوقت. وتقول المؤلفة إن تلك المبادرة كانت للمزج بين الحداثة والأصالة. بمعنى اعتماد الحديث من الأفكار التنويرية لتنظيم المجتمع الياباني والعلاقات بين الناس والسلطات، وفي الوقت ذاته المحافظة على التقاليد التي ترتكز على شخص الإمبراطور باعتباره مقدساً. وقد استمر هذا الأمر حتى عام 1947 . أي حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ولعل التربية الاجتماعية المحافِظة والمعتمِدة أساساً على العلاقة بين التجديد والأصالة في اليابان تمثل حقيقة الشخصية اليابانية التي تختلف في جوهرها عن شخصيات شعوب الشرق الأقصى كافة.

 

ويسلّط الكتاب أيضاً ضوءاً ساطعاً على المجتمعات المتعددة في آسيا وأمريكا (الجنوبية والشمالية) وعلى أوروبا تحديداً. ويكشف عن الخلفيات الفكرية والثقافية التي تقوم عليها خصوصياتها من خلال دساتيرها المعتمدة. ذلك أنه من خلال الدساتير تشرّح المؤلفة مجتمعات هذه الدول التي وضعت أو التي اعتمدت هذه الدساتير، بدءاً من جزيرة كورسيكا في البحر المتوسط حتى جزيرة "بيتكيرن" في المحيط الأطلسي .

إنها رحلة الإنسانية مع الدستور الناظم للحياة العامة وللعلاقات بين مواطني الدولة الواحدة.

ومع تداخل المجتمعات الإنسانية، كان لا بد من وضع معاهدات دولية تنظم علاقاتها ومصالحها المتداخلة والمتناقضة أحياناً والمتكاملة أحياناً أخرى، فكانت وثيقة الأمم المتحدة، ووثيقة حقوق الإنسان، والمحكمة الدولية ومعاهدات تنظيم حركة الأموال والأسواق ومعاهدات البحار، وحتى الفضاء الخارجي ..إلخ.

أما احترام هذه المعاهدات التي تعطي ذاتها الأولوية حتى على الدساتير الوطنية، فذلك موضوع آخر لم تتناوله المؤلفة في كتابها .

ولكن المؤلفة تقول إنه في القرن التاسع عشر ساعد اكتشاف الاتصالات التلغرافية على انتشار فكرة اعتماد الدستور الناظم للحياة الاجتماعية .

وفي القرن الواحد والعشرين فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: أي أثر سوف يكون لاكتشاف الإنترنت الذي ألغى الحدود والمسافات بين الدول والشعوب؟.

 

الكتاب: البندقية والسفينة والقلم: الحرب والدساتير وصنع العالم الحديث

المؤلفة : ليندا كولي Linda Colly 

الناشر : ليفرايت Liveright 

الصفحات : 512

التاريخ : 2021

أخبار ذات صلة