أن تكون مسلما في الخطاب الأمني الألماني

أن تكون مسلما.jpg

إيمان عطية وآخرون

زهير سوكاح 

ما الشعور الذي ينتاب المرء حينما يعي أنه يتم النظر إليه مُجتمعياً وسياسياً بوصفه مشكلة أمنية مُحتملة فقط بسبب انتمائه الديني وخلفيته الثقافية؟ كيف يؤثر هذا الشعور على حياة مُسلمي الغرب تحديدا؟ وكيف يتعاملون معه في حياتهم اليومية وفي علاقتهم وفي عملهم؟ هذه الأسئلة وغيرها تحاول دراسة ألمانية حديثة التعاطي معها. 

صدرت الدراسة هذه السنة بعنوان "أن تكون مُسلمًا في الخطاب الأمني" وهي تنتمي إلى حقل الدراسات التطبيقية عن العنصرية، لذا فهي لا تقتصر على عرض نتائج الاشتباك النظري لمؤلفيها مع مفاهيم راهنة مثل العنصرية والغيرية والوصم والخطاب الأمني والحكامة، بل تعرض أيضاً لنتائج المقابلات الفردية والمناقشات الجماعية التي جرت ضمن الشق الميداني للكتاب، حيث يتحدث فيها مشاركون مسلمون من فئات اجتماعية مختلفة من المجتمع الألماني عن تعاطيهم، أفرادا وجماعات، مع الخطاب الأمني ​​السائد في بلد غربي له تاريخ غير هيّن في علاقته مع "الآخر" الثقافي مثل ألمانيا. 

على رأس مؤلفي هذا الكتاب الجماعي نجد الباحثة الألمانية من أصل مصري، إيمان عطية، المتخصصة في حقل دراسات العنصرية ولها إسهامات مهمة فيه إلى جانب كل من الباحث أوزان كسكينكيليك والباحثة بشرى أوكو. ويتألف هذا الكتاب الراهني في مضماره من مُقدمة مُوجزة وخمسة فصول إلى جانب خاتمة وافية عن نتائجه التنظيرية والتطبيقية.

 

في مقدمة هذا الكتاب ينطلق مؤلفوه من فرضية مفادها أن للعنصرية ضد المسلمين عواقب قد تجاوزت التصور الغربي النمطي عن المسلمين من كونهم "غرباء" و"مشتبه" فيهم إلى ما صار يُشكّل ازدراءً مباشرا بل ومُمنهجًا للإسلام والمسلمين حتى على المستوى المؤسساتي، وهو ما يسعى مؤلفو الكتاب إلى التحقق منه عبر دراسة "الخطاب الأمني" الألماني حول المسلمين السائد حاليًا بوصفه عنصرية مؤسساتية لم تُنجز حول أشكالها ونتائجها كتابات علمية رصينة بالشكل المأمول. في هذا السياق يُعرّف هذا الكتاب "الخطاب الأمني" من كونه ممارسة هَيْمَنية مُمنهجة، يتم فيها مراقبة الأشخاص المنظُور إليهم كمسلمين وقياس مدى "انضباطهم" في المجتمع المُهيمن عن طريق استهداف سلوكهم وإدراكهم وحركتهم في المجال العمومي بهدف إخضاعهم بشكل مباشر أو غير مباشر لما يُعرف بـ "الثقافة الرائدة"، وهو مصطلح مثير للجدل استحدثه بسّام طيبي، يُفهم من خلال هيمنة الثقافة الألمانية على باقي المكونات الثقافية للمجتمع الألماني الذي صار متنوعا عرقيا ولغويا وثقافيا. 

في فصله الأول يقدم الكتاب بدايةً لمحة تاريخية عن تطور أشكال مختلفة من العنصرية الغربية ضد الأقليات في أوروبا بصفة عامة، وعن نشأة العنصرية ضد المسلمين وتحولاتها عبر التاريخ ـ بصفة خاصة ـ إلى حدود تشكّل الخطاب الأمني الراهن والمُوجّه بالأساس إلى من يتم اعتبارهم (بناء على المظهر الخارجي) مسلمون أو من هم كذلك.

يتّفق مؤلفو الكتاب أنه من الصعب الجزم علميا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تشكل نقطة بداية محورية للعنصرية ضد المسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا وألمانيا وأجزاء أخرى من العالم، كما يتم حاليا الترويج له؛ فبخلاف ما توحي به وسائل الإعلام والدوائر السياسة عن الإسلام والهجرة والاندماج أو بعض الدراسات الأكاديمية المُتفرقة، فإن تَمَثُّل الأقلية المسلمة كمشكلة قائمة، إضافة إلى الخطاب الذي تشكّل حولها على أنها تهديد للغرب، هو تقليد تاريخي طويل.

أكثر من هذا يؤكد هذا الفصل أن التدابير الأمنية المُتخذة حاليا على الصعيدين الداخلي والخارجي والمُوجهة بشكل خاص ضد المسلمين، يعود معظمها إلى أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر في جنوب أوروبا؛ ففي شبه الجزيرة الإيبيرية، على سبيل المثال، كان على المجموعات السُّكانية المسلمة، الناطقة باللغات العربية والأمازيغية التي عاشت هناك لقرون، أن تتحمّل بدايةً تدابير تقييدية مختلفة مباشرة بعد سقوط الأندلس واستيلاء الحُكام الكاثوليك من الإسبان والبرتغاليين على السلطة هناك، حيث همّت تلك القيود ممارسة دينهم وأعاقت تطور ثقافاتهم، ثم ما لبثوا أن أُجبروا على تغيير ديانتهم ليتم بعد ذلك ترحيلهم في نهاية المطاف إلى شمال إفريقيا. أيضا يشير هذا الفصل إلى سياق تاريخي آخر من العنصرية الغربية والمُتمثّل في الاستعمار الأوروبي، والذي شهد تغيّرًا في التمثّل الغربي عن "المحمديين" في كل من "الشرق" و"إفريقيا"، حيث اتخذ التصور القديم عن "خطرهم" صيغة جديدة ارتبطت بالعنصرية الحديثة اتجاههم.

 

بخلاف الفصل الأول يتضمّن الفصل الثاني تأملات وأفكار حول مفاهيم مركزية ضمن هذه الدراسة، ويتعلّق الأمر بكل من: الحكامة والمواطنة والسياسة القومية وأيضا العنصرية المؤسساتية إضافة إلى تعريف بأشكال المقاومة الرمزية، التي تمارسها الأقليات ضمن المجتمع المُهيمن، وذلك بهدف إبراز الترابط الذي يراه مؤلفو الكتاب قائمًا بين العنصرية الحديثة والعنصرية القديمة. في هذا السياق يشير هذا الفصل إلى آليات إنتاج "معرفة" مجتمعية وثقافية محددة عن المسلمين غالبا ما يتم تكثيفُها في عنصرية جديدة معادية لهم، حيث يصير هنا لسيناريو التهديد والخطاب الأمني ​​مرة أخرى أهمية كبيرة، ممّا يجعل الترابط بين العنصرية الحالية المُعادية للمسلمين بكل من عنصرية ما قبل الحداثة وعنصرية الحداثة واضحة المعالم، بحيث تبدو بعض الموضوعات القديمة حديثة بشكل كبير، بل حتى المواقف الحالية المُقدّمة على أنها "نقد" للمسلمين تبدو قادمة من العصور الوسطى بشكل لافت للنظر.

على هذا الأساس يُشدّد هذا الفصل على أن الخطاب الأمني ​​ليس أمرًا جديدًا وأن الافتراض القائل بأن هذا الخطاب المُهيمن ما هو إلا ردة فعل غربية على العنف المنبثق من المسلمين هو افتراض قاصر، لذا يؤكد مؤلفو الكتاب أن التنظير الذي يقدمونه في الفصل الأول والثاني للعنصرية يتجاوز التفسير التقليدي للعنصرية من كونها عداءً أو مجرد خوف، كما تحيل على ذلك مصطلحات "الإسلاموفوبيا" أو "العداء للإسلام"، لذلك فهم يعتبرون مصطلح العنصرية ضد المسلمين ذا مغزى، ذلك أنه يأخذ في الاعتبار التواريخ القديمة والحديثة لبناء الأمة والاستعمار ويعيد نسج الإشارات العنصرية الراهنة إلى الدين والثقافة والأصل والعرق بحسب تعبير المؤلفين.

وقبل عرض نتائج الشق التطبيقي للكتاب والقائمة على دراسة ميدانية، خُصصّ الفصل الثالث من الكتاب للتطرق إلى المنهجيات المُستعملة في الدراسة مع عرض لإمكانياتها وحدودها أيضا. وعن مسوغات الدارسة التطبيقية يقول مؤلفو الكتاب أنه كان من الضروري أخد الواقع الاجتماعي اليومي للمسلمين كنقطة انطلاق للدراسة الميدانية بدلاً من الاكتفاء بالتطرق إلى "المعرفة" المهيمنة حولهم، والتي تمّ سلفًا عرضها ونقدها في الفصلين الأول والثاني، ويضيف الباحثون الثلاثة أنه على مدار ثلاث سنوات انصب الاهتمام البحثي على نظرة وتعامل المسلمين أنفسهم (أفراد وجاليات وممثلي المنظمات المدنية المسلمة) مع الخطاب الأمني ​​الهَيْمَنِي في ألمانيا؛ حيث طُرحت عليهم أسئلة مفتوحة من مثل: كيف يستجيبون لمخاطبتهم باعتبارهم "تهديدًا" أمنيًا؟ وكيف يُموقِعُون أنفسهم حُيال النقاشات والحوارات المجتمعية حول الأمن من أجل جعل اهتماماتهم واحتياجاتهم وخبراتهم مع العنصرية والتمييز مسموعة؟ 

وهذا تحديدًا ما يُحاول الفصل الرابع الإجابة عنه عبر عرضٍ مُفصّلٍ لنتائج المقابلات الفردية مع المشاركين والمحاورات الجماعية فيما بينهم حول الخطاب الأمني وتمظهراته اليومية، وقد عبّر المشاركون في الدراسة عن شعورهم بالتمييز المُرتبط بالخطاب السائد حولهم بوصفهم تهديدا أمنيا؛ فبحسب شهاداتهم فهم يواجهون العداء اليومي في الشارع، ويُعانون من التمييز المؤسسي في المؤسسات التعليمية، وفي سوق العمل والسكن وفي النظام الصحي، ويجب عليهم - سواء كانوا يريدون ذلك أم لا - التعامل مع تلك القضايا التي تبدو "إسلامية" وبالتالي "إشكالية" في الخطاب الأمني المُهيمن، بل ويتم حثّهُم على اتخاد مواقف من أفعال "المسلمين" الآخرين، والنأي بأنفسهم عن أولئك المسلمين "الأشرار" وإثبات أنفسهم باستمرار كمواطنين مندمجين ومستنيرين. وبلغة أخرى عليهم أن يقدموا أنفسهم على أنهم "استثناءات جيدة" في الخطاب الأمني الذي يدّعي "تثقيفهم" ليكونوا مواطنين ألمان أفضل عبر تنظيم فوقي لمُمارستهم الدينية وفقًا للنمط المسيحي للبلد وأيضا عبر التفريق المستمر بين المسلم "الجيد" و"الشرير" وتعزيزه. 

 

أما الفصل الخامس والأخير فقد اهتم بعرض وتحليل "أليات الدفاع" المشاركين واستراتيجياتهم (حتى الاستباقية منها) التي تحدثوا عنها في مواجهة تداعيات الخطاب الأمني حولهم وتمظهراته اليومية في ألمانيا. إن تجربة التشكيك الجمعي بل واليومي حُيالهم على أنهم "تهديد" بسبب دينهم وانتمائهم الثقافي لها تأثير عميق على مشاعرهم وصورتهم الذاتية، بل وحتى في تفاصيل حياتهم اليومية (مثل الأماكن التي يُظهرون فيها وجودهم أو تلك التي يتجنّبونها، وممارستهم لتدينهم وكيفية لباسهم واستعمالهم للغاتهم الأصلية في المجال العمومي. بعبارة أخرى إنهم يعانون من العنصرية كتحدٍ فكري وجسدي وشعوري ويحاولون مواجهتها على هذه المستويات. لهذا يستخدم المشاركون – بوعي أو بدونه - استراتيجيات مختلفة لتجنب التجارب الجارحة لهم بشكل وقائي أو حتى للتعافي منها. في هذا السياق صرّح البعض أنه يستبق منع حدوث تجارب عنصرية متوقعة، في حين أن البعض منهم ينأون بأنفسهم فكريًا من خلال التعامل مع قضايا أخرى، وجسديًا بتغيير وظائفهم أو أماكن إقامتهم، وشعوريا عن طريق كبت تجاربهم أو محاولة ترويض المشاعر الغامرة التي تثيرها تلك التجارب. غير أن هذا الفصل يَخْلُص أيضًا إلى أن الأقلية المُسلمة - مثل بقية الأقليات - ليست دائما مُجرد موضوعات "جامدة" لسلطة فوقية قاهرة وحاضرة في كل مكان، حيث عبّر بعض المشاركين عن الطبيعة المتنوعة والغنية لاستجابتهم أثناء مخاطبتهم كمسلمين، فغالبا ما يُنوّعون خصائص هويتهم "المسلمة" حينما يُضيفون إليها هويات فرعية من مجالات النوع والطبقة والتعليم والهجرة والثقافة والعرق واللغة، ولون البشرة والدين والكفاءة والعمر.

 

تنقسم خاتمة الكتاب إلى شقيين رئيسين؛ يضم الشق الأول خُلاصات مُركّزة للنتائج المتوصل إليها في هذه الدراسة، لعل من أهمها أن تاريخ الإرهاب الحديث ليس هو تاريخ الجماعات الإسلامية كما يُصّورها الخطاب الأمني لاسيما وأن الأشكال الأخرى من عنف الدولة وغيرها تنطوي بدورها على مخاطر أكبر من الناحية الإحصائية على الأمنين الداخلي والخارجي. وفي الوقت ذاته، فإن العنف العنصري واليميني المتطرف الموجه ضد المسلمين لا يزال يتم النظر إليه على أنه فردي وهامشي بل ويتم التقليل من شأن النقد الموجه بصفة عامة نحو العنصرية التي تستهدف المسلمين بل ويتم اللجوء عبر الإعلام إلى تشويه مصداقية هذا النقد. في حين أن الشق الثاني يقدم توصيات وتصورات نحو حكامة أكثر مواطنية في ألمانيا لا تقيم فروقات بين المواطنين ولا ترمي الأقليات العرقية والدينية بعدم الولاء بل تسعى إلى استثمار التنوع العرقي والثقافي لديها. 

 

عنوان الكتاب: أن تكون مسلما في الخطاب الأمني الألماني 

المؤلفون: إيمان عطية، أوزان كسكينكيليك، بشرى أوكو

دار النشر: ترانسكريبت 

سنة النشر: 2021

عدد صفحات الكتاب: 196

لغة النشر: اللغة الألمانية 

أخبار ذات صلة