ما بعد الرأسمالية وولادة الطبقة الاجتماعية للشخصيات

ما بعد الرأسمالية.jpg

ديمتري دافيدوف

فيكتوريا زاريتوفيسكايا*

في الآونة الأخيرة اكتسب التفكير بما سيكون عليه مجتمعنا الرأسمالي أهمية متنامية. وعلى ما يبدو، فإن الشعور الحالي بالتغيرات المستقبلية آخذ في الازدياد، وهو أمر لا يثير دهشة لدى أحد وذلك في ظل الأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي والتناقضات العديدة التي كشفت عنها جائحة COVID-19، وبالتالي ظهرت للعيان محاولات حثيثة لاقتراح ورسم بدائل للمستقبل.

يصور لنا معظم الخبراء والساسة مستقبلًا تقدم فيه الروبوتات والذكاء الاصطناعي وفرة من الفوائد المادية ويتم من خلالها تزويد الجميع بكل احتياجاتهم، من بينها ضمانات تقدمها الدول لمواطنيها في الحصول على رواتب غير مشروطة بعمل، في حين يزاول الناس في الغالب أنشطة إبداعية حرة، وفي النتيجة لن يكون هناك أي أساس لأي تناقضات جوهرية داخل المجتمع وسيختفي الصراع الطبقي.

إن مؤلف كتاب "ما بعد الرأسمالية وولادة الطبقة الاجتماعية للشخصيات" دميتري دافيدوف مقتنع تماماً أن كل هذه الآراء طوباوية ومستوحاة إلى حد كبير من النظرية الماركسية الكلاسيكية للشيوعية باعتبارها الشكل الأضمن لمجتمعات ما بعد الرأسمالية. في الجهة الأخرى يرى المؤلف أن الكثيرين لا يجدون أساساً لقناعته هذه، ذلك لأنهم يأخذون المفهوم الماركسي للتشكيلات الاجتماعية كبديهة لا يطالها الشك. ولا يتعجب المؤلف من أن تحظى أفكار الماركسية بتفسيرها الحديث بشعبية اليوم. مع ذلك فهو يؤكد أن الواقع لا يشير مطلقاً إلى أن التاريخ ينعطف يسارا، علاوة على ذلك، لا نرى استقرارا في المجتمعات كما هو قمين بالماركسية وليس هناك ما يدل على تمسك الناس بلحمتهم المجتمعية، بل نشهد تفككهم وانقسامهم إلى مجموعات صغيرة وأقليات مختلفة حسب معايير شديدة التنوع. لماذا يحدث هذا؟ ربما - يتساءل ديمتري دافيدوف – يكمن الخلل في العقيدة الماركسية للتشكيلات الاجتماعية؟ انطلاقاً من هذا يحق لنا أن نتساءل عما ينتظرنا بالفعل في المستقبل المنظور؟

في سبيل تقديم أجوبة عن هذا السؤال، يثبت الباحث الروسي في الجزء الأول من كتابه أن فكرة مجتمع ما بعد الرأسمالية الذي بفضل نضال الطبقات المسحوقة سيتم فيه التغلب على جميع أشكال الهيمنة، لا تمتلك أسسا علمية راسخة. يوضح الباحث أن التشكيل الاشتراكي للمجتمع الذي يدّعي عدم سيطرة طبقة على أخرى وغياب الاستغلال وغيره من سمات الرأسمالية الأخرى، لا يختلف عن التشكيل الرأسمالي إلا بشيء واحد غير مبدئي، يكتب دميتري دافيدوف في هذا الصدد: "إن المؤسسات الجديدة للإدارة الاقتصادية التي أنشأها البلاشفة كانت تمثل طريقة الإنتاج الشيوعية الجديدة. ولكن في هذه الأثناء تم اختزال التجديد الحقيقي في مستغلٍ واحد ضخم وهو جهاز الدولة الإداري. لم يكن جوهر علاقات الإنتاج في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية مختلفًا كثيرًا عما هو عليه في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية: فقد كان هناك أيضاً استغلال للعمال ومصالح مالية ومنافسة اقتصادية بين وحدات الإنتاج الفردية".(51)

ينتقد المؤلف بشدة الرأسمالية بحجة أنها ليست فقط غير قادرة على ضمان المساواة والازدهار الاجتماعي، ولكنها تولّد (نظرًا لأن اقتصاد السوق يرتكز على منطق تعظيم الأرباح) عددًا كبيرًا من المشكلات العالمية، بما في ذلك مشكلة التلوث البيئي. ويثبت الباحث أنه حتى النمو الاقتصادي الذي أوجده الاقتصاد الرأسمالي ليس مؤشرا على النمو الحقيقي. إن مؤشر الناتج المحلي الإجمالي يحدد القيم السوقية ويغفل كمية هائلة من الأشياء التي لا يتم شراؤها أو بيعها ولكنها ضرورية للبشرية جمعاء (بدءا من نظافة الهواء والماء إلى حصة وقت الفراغ الذي يقضيه الشخص في الأسرة وصولا إلى إمكانيات حصوله على ثقافة عالية... إلخ). ويستنتج الباحث أننا نرى اليوم نموًا اقتصاديًا بطيئًا، فإذا حسبنا التكاليف الإجمالية الناتجة عن الكوارث البيئية والعواقب السلبية طويلة الأجل لقضية عدم المساواة، نجد أنه من غير الواضح ما إذا كنا أمام نمو أم تدهور وارتداد". (7-8)

 

يحاول الباحث في الجزء الثاني من الكتاب النظر فيما بعد الرأسمالية وذلك من منظور مختلف جذريًا. يقدم المؤلف الكثير من الحقائق ويظهر لنا النزعات الاجتماعية الراهنة والتي تشير إلى أننا نتجه نحو تشكيلة اجتماعية جديدة لم تعرف لها البشرية مثيلا، ولكنها كبقية التشكيلات المعروفة، تنطوي على تناقضات عديدة وخلل في الانسجام الاجتماعي ويصاحبها ظهور طبقة جديدة غير معروفة حتى الآن يمكن أن نطلق عليها طبقة الشخصيات. ويفسر الكتاب الشخصيات على أنها طبقة من الأفراد، ليس بمعناها البشري، ولكن باعتبارها قوة تستحوذ على انتباه المجتمع وتهيمن على اهتمام الجمهور – وهذا الأخير هو المورد الجديد الذي يستعر لأجله الصراع التنافسي الحقيقي.

إن المستقبل، حسب النظرة الاستشرافية للمؤلف، قد حلَّ فعلا. نحن نعيش فعلياً في مجتمع يعمل فيه كل كياننا بتنظيم نفسه والتمركز تدريجيًا حول شخصيات بارزة معينة. أليس ملاحظا أننا نقوم اليوم بزيارة الطبيب المشهور فقط، ولا تكفينا زيارة مجرد طبيب؟ حتى الأعمال التجارية قد تغيرت كثيرًا لدرجة أن الشركات التي لديها عدد ضخم من الموظفين تتراجع أمام شركات يقودها أشخاص مشهورون؟ أما السوق نفسه فيستسلم للإنتاج الآلي على حساب إنتاج الفرد، الذي أصبح غير مرئي تقريبًا من وجهة نظر السوق. في الوقت نفسه يجري العمل على بناء هرم اجتماعي جديد، يقف على رأسه من يسمى اليوم بشخصية متحققة بلغت شأوا من النجاح والشهرة.

يذكرنا المؤلف أن التكنولوجيا في الأمس القريب قد وعدتنا بمستقبل مشرق تغدو الحياة فيه غاية في المتعة، لا يكون فيه الشخص بحاجة ليصبح في مركز الاهتمام العام، فغزو الفضاء وبناء الهياكل الفخمة والتغيير السلمي للعالم، أفضل بكثير من النرجسية والرغبة في إرضاء الذوات المتقلبة للجمهور. ولكننا نشهد اليوم أن كل شيء يسير عكس ذلك تمامًا. فتطوير تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي تعزز النمو المضطرد لطبقة الشخصيات، بينما لا أحد يتحدث حتى عن الفتوحات المذهلة للفضاء. "الشيء الوحيد الذي يتم تطويره بنشاط اليوم هو أدوات للمستهلكين، والتي تفتح فرصًا غير مسبوقة لإنتاج الشخصية. وهكذا نحن نتجه نحو مرحلة ما بعد رأسمالية مختلفة تمامًا، حيث لا يؤدي التحرر من العمل إلى التطور الشامل المفترض سابقًا للفرد كجزء متناغم من الفريق/ الوطن/ الشعب/ المجتمع، ولكن إلى حُمى النجومية (...) ما يُشاع أننا مدعوون لتحرير الناس من العمل الضروري اجتماعيًا في أسرع وقت ممكن وذلك لإعطاء الجميع الفرصة للانخراط في الإبداع الحر لتنمية الشخصية المستقلة لكل شخص. لكن قد لا يكون هذا أفضل الحلول لمرحلة ما بعد الرأسمالية. ويحتمل أنها مخادعة محفوفة بالمخاطر. علاوة على ذلك، فمن السابق لأوانه شطب العمل الضروري اجتماعيا" (253).

في هذا الصدد يبني المؤلف مفهومًا مثيرًا للاهتمام لتاريخ الشخصية باعتبارها تاريخا لنضال الفردانية البشرية ضد القوى المناهضة للجماعة والطبيعة. إنه يربط التوسع الحديث للشخصية بعدد من العوامل البينة. بادئ ذي بدء، يشير إلى تحسينٍ في جودة ومستوى الحياة (لم تعد الحياة البشرية سريعة الزوال ويمكن التنبؤ بها، ولم تعد الثروة المادية في البلدان المتطورة شحيحة) كما يشير المؤلف إلى تقدم العلم والتكنولوجيا ونجاح النضال من أجل الحقوق والضمانات الاجتماعية. نتيجة لكل هذا تسنى للناس وقت فائض للاهتمام بال "أنا". وهذا لا يمكن إلا أن يؤدي إلى تغييرات جذرية في الحياة الاجتماعية كما في الحياة الاقتصادية. تهدد هذه التغيرات بتجاوز حدود الإنتاج الرأسمالي الذي يرتكز أساسا على السلع المادية وفائض القيمة.

 

يشير الباحث إلى خطورة الإبداع والابتكار الذي تقترحه الطبقة السائدة الجديدة ويدعو إلى إبداع من طبيعة مختلفة تمامًا. يقول: "ومع ذلك، فإن الإبداع من طبيعة مختلفة تمامًا قابل للتحقق، وهو لا يهدف إلى إنتاج الفرد بقدر ما يهدف إلى إصلاح العالم المادي والاجتماعي. لا يعود مصدر المتعة هنا الفردانية اللامعة التي يتم تقديمها للجمهور، بل هي عملية النشاط التغييري ذاتها، باعتبارها ضامنا لتحقيق الطموحات وإحقاق المتعة الأخلاقية والجمالية. مع ذلك، يمكن أن يكون هذا الإبداع مجهول الهوية تمامًا، وقد لا يدعي جذب الانتباه إليه. ما هو رائع في مثل هذا البديل أنه لا يفصل الإبداع عن العمل، فهما متشابكان ومرتبطان بوثاق متين. مثال على ذلك النشاط التعليمي المتمثل في نقل المعرفة، إذ لا بد أن يشمل العمل الروتيني الذي يكّرس كتابة التقارير وزيارة مجالس المعلمين؛ فهذه الطريقة، وإن بدت بيروقراطية، إلا أنها نشاط إبداعي يهدف إلى حل قضية غير محدودة في طريق التربية الروحية"(306-307). وهكذا، وفقًا للباحث، فإن العالم ما بعد الرأسمالية ليس مقدرا عليه أن يكون ميدانًا للمنافسة لكسب النجومية والاعتراف وحصد الإعجابات، بل يمكن لبيئتنا المادية أن تصبح بأكملها تجسيدًا لفردانية الأشخاص وللأعمال الإبداعية الحقيقية الجماعية حيث تتبدى الطاقة الخلاقة للإنسانية من أجل التغلب على المصاعب كافة، مع ذلك فالاتجاه الذي يسير عليه عالمنا المعاصر عكس هذا تماما. 

يرسم الكتاب أمامنا صورة لمستقبل بعيد عن الآفاق المشرقة، ليس فقط في الاقتصاد، ولكن أيضًا من حيث الصحة النفسية للمجتمع، وهو مكون رئيسي لنوعية حياة عالية. يلاحظ المؤلف أن تكوين طبقة الشخصيات يستلزم اتجاهًا مترابطًا معها وهو توسيع طبقة اللاشخصيات. "يحقق الكثير من الناس اليوم نجاحًا إبداعيًا في سعيهم إلي تحقيق ذواتهم (حسب التعبير الشائع)، فينتج عن ذلك المزيد من الأشخاص الهامشيين. يحدث ذلك على خلفية اقتصاد الأتمتة فائقة السرعة والروبوتية للإنتاج، مما يزيح أولئك الذين ليس لديهم مواهب إبداعية إلى هامش الحياة. ففي حين أن عدة من المبدعين سيتولون قيادة الرأي العالمي على وسائل التواصل الاجتماعي، لا يبقى للقسم الأكبر من الناس سوى الرضى بموقع المتفرج (250). إن هذا التقسيم للمجتمع إلى شخصيات ولا شخصيات لن يؤدي إلا إلى تعميق الفجوة بين الأفراد وإخفاء تدريجي للفجوة المعتادة تاريخيا بين البرجوازية وطبقة العمال. لذلك لا يبدو المستقبل ورديًا على الإطلاق للكاتب الذي ينبه بمجيء أوقات عصيبة تكون فيها طبقة اجتماعية معينة، تحمل رؤية شخصية محددة جدًا للعالم، قائدة للعالم، علما بأنها طبقة لا تحمل أي وعود باستقرار وسلم عالميين، ولا تملك السلطة والقرار لضمان ذلك، فالسبب الذي جعلهم في سدة القيادة، ليس عبقريتهم وصفاتهم القيادية الفذة، بل لأن الغالبية العظمى متخاذلة ولا جرأة لها للمغامرة وتحمل الصدمات. في الوقت نفسه يتوقع المؤلف زيادة في الاغتراب الاجتماعي وانخفاضا في مؤشرات التعاطف واهتماما أقل بمشاكل الآخرين ومشاركة مدنية أقل. كما يأمل أن تدرك البشرية فعليا كل هذه المشاكل المحدقة ونتائجها السلبية المتوقعة جدا والعمل على تجنبها أو الحد من تفاقمها بأقل تقدير.

 

الكتاب: ما بعد الرأسمالية وولادة الطبقة الاجتماعية للشخصيات 

المؤلفة: دميتري دافيدوف/ أكاديمية ومستعربة روسية 

دار النشر: ريبول كلاسيك / موسكو/ 2021

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 336

 

أخبار ذات صلة