في تاريخ العالم: الدول، الأسواق والحروب

في تاريخ العالم.jpg

جوليو سابيللي

 فاتنة نوفل

نحن نعيش في عصر من التغييرات غير العادية التي تبشر بإعادة تشكيل عميق للنظام السياسي العالمي، لتجد أوروبا نفسها الأكثر معاناة نتيجة لذلك؛ فكما يبدو فإن القارة القديمة قد ضلت طريقها ونسيت تلك التعاليم المتعلقة بالدبلوماسية، وقواعد عقلانية الدولة والوظيفة التنظيمية التي ضمنت لها الازدهار والاستقرار في النصف الثاني من القرن العشرين.

كتاب "في تاريخ العالم: الدول، الأسواق والحروب "، هو بحث متعمق للغاية يستلهم فيه سابيللي تحفة المؤرخ والناقد الأدبي والفيلسوف في العلوم الاجتماعية الفرنسي رينيه جيرارد في بحثه عن الأصول العميقة لما حدث للعالم في سنوات ما يسمى بـ "العولمة" حتى أزمة الوباء العالمية لعام 2020.

يرتكز الكتاب على مواقف واضحة، ويناقشها على نطاق واسع مع بعض الأطروحات ذات الصلة مثل الانتشار الهائل والمدمر للتمويل غير المنظم في المرحلة الأخيرة؛ أزمة وجود الدولة التي لها تاريخ طويل ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وظهور أنظمة فعلية ذات طبيعة تكنوقراطية.

 إن الاستجابة لقوى التفكك الحالية لا تجد لها مكانا في الاتحاد الأوروبي الحالي الذي تقوضه حدوده التأسيسية، ونقاط ضعفه المزمنة. باختصار، هناك حاجة إلى العودة إلى السياسة "الجيدة"، ولكن أيضًا إلى اقتصاد منظم وتمويل يتطلع إلى المجتمعات وليس إلى ربح الفرد. ولكي يحدث هذا، يجب مناقشة قيم الغرب مثل الديمقراطية والحرية والحقوق الشخصية مرة أخرى اليوم، دون نسيانها أو حتى التنازل عنها.

يتعلق الأمر في المقام الأول بانتصار الهيمنة الليبرالية التي نُظرت في ثلاثينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة وفي الأربعينيات في ألمانيا. إذا لم يتذكر المرء بوضوح تلك النظريات والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ساعدت - في أكثر من ستين عامًا - على خلقها في العالم، فلا يمكن للمرء أن يفهم ما سيحدث في فترة ما بعد الوباء.

بمعنى آخر إذا لم نهتم بما كانت عليه أوضاع الاقتصاد والمجتمع العالمي قبل فيروس كورونا، فإننا لن نفهم شيئًا مما ينتظرنا في المستقبل حيث بقيت الأسس العالمية لنظم الملكية "السابقة للوباء"، والجذور العميقة للتكوينات الاجتماعية والاقتصادية كما هي من الناحية الهيكلية حتى يومنا هذا.

 

التحولات السياسية كانت عميقة وبلغت ذروتها في جميع أنحاء العالم في إضعاف هياكل الدولة، واستبدالها تدريجياً بأشكال مثل النموذج الأمريكي الجنوبي الذي أدى إلى تفاقم الهيمنة النشيطة الجديدة التي وصفها الاقتصادي وعالم السياسة الإسباني خواكين كوستا في تحفته عن الحياة السياسية الإسبانية التي نُشرت عام 1901 والتي ما زالت و بشكل متزايد تُعتبَر معاصرة وتتراوح من تفكيك للأحزاب السياسية إلى عشائر يسيطر عليها رجال الأعمال السياسيون والاقتصاديون الذين تم تجميعهم في أحزاب صغيرة محلية ذات اهتمام بمتعددي الأعراق من الأمريكيين الأفارقة، والسود واللاتينيين في فسيفساء هائلة من أجل التنوع وحرية التعبير، وصولاً إلى النظام التعددي الأوروبي الذي تهيمن عليه الدول التي أضعفها طرح السيادة من الأعلى بما يتعلق بالبنى التقنية الليبرالية النظامية التي نتجت عن المعاهدات التي تتابعت من معاهدة ماستريخت وما بعدها.

لكن مع كل "اللوائح" التي تسيطر على أوروبا، من المهم فهم كيف انهارت الأحزاب في أوروبا باستثناء ألمانيا فقط، جنبًا إلى جنب مع عدد من الدول الاسكندنافية. حدثت نفس ظاهرة تفكك الأحزاب السياسية التاريخية في أمريكا الجنوبية مع تفكك التحالف الثوري الشعبي الأمريكي في بيرو ومع الاختفاء السياسي والمؤسسي الحرفي للتنموية الراديكالية  في الأرجنتين والتحلل السريع للأحزاب "الليبرالية" التاريخية الكولومبية.

لا ننسى ما حدث في المكسيك، حيث تم تحطيم المؤسسات التي أدت إلى التحرير، وتدمير الرفاهية دون إعطاء تلك الدولة التاريخية الاستقرار الذي من شأنه أن يسمح لها بدحر تهريب المخدرات والقتل الجماعي لحكم هذه الأراضي الشاسعة.

أما الولايات المتحدة فهي أمام أعين الجميع، بالرغم من التحول العميق لطبقاتها السياسية بقي النظام الحزبي على حاله، ولكن في السنوات الأخيرة كان النظام الصناعي العسكري هو المحرك الأساسي لقوة أمريكا الشمالية حيث أجبر الانتشار المدمر المتغطرس للتمويل غير المنظم، وما ترتب على ذلك من اختلالات وظيفية في تداول النخب. بالتحديد، بدأ التحول الكبير الذي حدث في العالم منذ اتفاقية بريتون وودز عام 1944 وذلك بعد الحرب العالَميّة الثانية مشابهًا لما حدث ما بين مؤتمر فيينا والحرب العالمية الأولى؛ ولكن من حيث الجوهر كان العكس تمامًا.

تم تأسيس العالم الحديث ونتج عنه سوق لا تنظمه الدولة، بل التمويل العالي والشركات الكبرى. يتم تنظيم هذا السوق عن طريق الأحزاب السياسية أثناء تنظيمهم للعملية الديمقراطية كماعرَّفها لأول مرة الباحث فى تاريخ العصور الكلاسيكيه أوستروجورسكي في العلاقة بين الدولة والمواطنين على أساس نظام الرعاية الاجتماعية وهو ما أسس " لمجتمع الرفاهية" بين الحربين وأثناء الحرب الأهلية الأوروبية ضد الاتحاد السوفيتي، وهي مرحلة في تاريخ العالم تتبع المرحلة الموصوفة "جيدًا بقلم كارل بولاني المؤرخ الإقتصادي النمساوي في كتابه الضخم "التحول العظيم". 

ما حدث هو أن السنوات التي انقضت من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الثمانينيات والتي بدت - بالنسبة للكثيرين - أسسا لنظام ديمقراطي اجتماعي جديد رفع النظام الأوروبي للاقتصاد المختلط والرفاهية كنموذج كان في جوهره ثمار قصيرة العمر فقط للنمو الاقتصادي العالمي.

ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية كان معقدًا، ولا يمكن التنبؤ به من نواحٍ عديدة، لفترة قصيرة من السنوات بدا العالم سليمًا بينما تم إرساء أُسُس تحوله العميق، لكن وبفضل العمل الفكري لمجموعات من العلماء الذين غالبًا لم يكونوا مرتبطين ببعضهم البعض سواء في الولايات المتحدة أو في ألمانيا بشكل خاص وضعوا أُسُس عالم اليوم. الأسس الثقافية وليس الاقتصادية التي تتباطأ اليوم بشكل كبير وستبطئ الخروج العالمي من الوباء على المستوى الاقتصادي والاجتماعي و الثقافي قبل كل شيء وهو الأهم من كلا الآخرين.

 

في إيطاليا، كان هناك أحزاب كبيرة شكلت نقاشها السياسي بدءً من تحليل الوضع الدولي، كانت هناك صحف عظيمة اختارت مديريها من بين أولئك الذين كانوا مراسلين في دول كبيرة مثل الاتحاد السوفيتي، أو الولايات المتحدة؛ لأنه من أجل شرح حياتنا الوطنية كان من الضروري فهم كيفية تحرك العالم.

في الثمانينيات من القرن العشرين كان كل شيء قد تغير ويوحي" بأنه بعد سنوات النمو - من الخمسينيات إلى السبعينيات من القرن العشرين - أحدثت تلك الليبرالية الاقتصادية الجديدة تراخِيا في العالم، وبشكل خاص في البناء المؤسسي الأوروبي والعالمي القائم على أساس سلسلة من المعاهدات والهيمنة.

النخب الغير المصرح لها أن تحكم العالم هي تلك التي دافعت أمس واليوم عن دور الدولة ليس فقط في فرض اقتصاد السوق، ولكن أيضًا في فرض تنظيم دقيق له من خلال إنشاء مؤسسات دولية هدفها الوصول إلى الدولة الفاضلة والسلام العالمي، لكن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، وأخيراً المعاهدات الأوروبية التي توالت تدريجياً ليسوا من دعاة السلام العالمي. ما حدث في باريس عام 1928، حيث تم التوقيع على ميثاق كيلوغ-برياند وهو المكان نفسه الذي عُقِد فيه الاجتماع الأول لعصبة الأمم بالفعل في عام 1920، لم يكن سوى مقدمة للتحول القهري المتزايد للحكومة العالمية والذي حدث بكثافة متزايدة منذ نهاية السبعينيات مع ظهور التمويل غير المنظم ورعاية عائلات من أمريكا الشمالية للوصول إلى السلطة. قوة لم تتأسس على مبدأ الواقعية بل على العكس من ذلك، على مبادئ النزعة الإنسانية للمحافظين الجُدد على خطى ليو شتراوس الأيديولوجية. إن الحرب أحادية القطبية، كما عرَّفها البروفسور ديفيد كاليو في أعماله الأساسية ستصبح العقيدة العالمية الجديدة لـ "الأمميين" و بالتالي، هم دائمًا من المؤيدين النشطين للحكومة التكنوقراطية غير المنتخبة والمفوضة. أوروبا، مثال مأساوي فهي خاضعة لسيطرة المعاهدات التي ليس لديها دستور وقائمة فقط على علاقات مع القوى الوطنية المحمية باللوائح الغير معروفة للغالبية.

الآن تحليلات الصورة العالمية لا يزال يُرَوَّج لها من قبل المؤسسات الفردية، ومراكز الدراسة المؤهلة ومراكز الجيش الإستراتيجية وغيرها. ومع ذلك، فإن علاقة هذه التحليلات بالمناقشة العامة محدودة للغاية. 

دور بكين في الإطار الدولي الجديد بين هشاشة الهيكل الاقتصادي والاجتماعي الصيني والدافع للسيطرة على مناطق أكبر من العالم؛ هناك المعركة للسيطرة على البحار كتحدي حاسم. السيطرة على قلب آسيا (هارتلاند ) كمكان تقليدي لبدء النضال من أجل السيادة العالمية من خلال ربط المحيط الهادئ (ريملاند) بالبحر الأبيض المتوسط​​؛ الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص بلاد ما بين النهرين كمكان مكمل لمنطقة القلب (أيضًا لمواردها من الطاقة التي لا يمكن الاستغناء عنها) وأيضًا مفتاح للصراع حول مصير إفريقيا التي نظرًا لوزنها الديموغرافي وسيطرتها على الموارد الاستراتيجية ستصبح المركز الأساسي للهيمنة على الكوكب. 

كتاب مليء بالمفاهيم التي يجب أن نعرفها وهي أن السياسة الاقتصادية الدولية تُنْتِج ما يسمى الانكماش العلماني الذي يؤدي إلى البطالة والفقر وهذا يحدث بشكل خاص في أوروبا. 

 

والنقطة الأخرى التي يجب التفكير فيها هي أننا بنينا شبكة لا حصر لها من المنظمات التكنوقراطية التي حرمت البرلمانات الوطنية من القوة الفعالة لتمثيل السكان، وصنع السياسة الاقتصادية، فجميع المنظمات لم تُنْتَخب من قبل الشعب بل ترشحها الحكومات وتخلق تكلفة بيروقراطية هائلة وسلسلة من الأخطاء الاقتصادية .

إن الرأسمالية توقفت عن العمل وإنتاج الوظائف والثروة، وباتت تنتج الفقر والتلوث وتدمير المناخ. هناك حاجة لمزيد من أشكال النشاط الاقتصادي إلى جانب المشروع الرأسمالي مثل المشاريع الصغيرة والمتوسطة الأكثر صحة والتي لا تزال بلدان مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان تدعمها، يجب تقليص القوة غير العادية للشركات متعددة الجنسيات 

وهي قوة هائلة؛ لأنها كيانات فوق وطنية ويساعدها مئات المحامين وهم تجار قانون يبذلون قصارى جهدهم لتجنب دفع الضرائب، ويدفعون من أجل المزيد من تضخم الأرباح، لديهم تأثير قوي على الصحافة والأحزاب السياسية والبرلمانات وحتى على الدول. 

إنها جزء مما كان يُطلق عليه تشارلز رايت ميلز عالم الاجتماع الأمريكي  نخبًا عظيمة في السلطة، فقد تشكلت طبقة جديدة للسلطة إلى جانب التجمع الصناعي العسكري والمالي، المنصات الجديدة الآن هي المنصات الرقمية التي لها دور ثقافي ضار؛ لأنها تنشر القيم والمشاريع السلبية.

 

مسألة موارد الطاقة التي يجب معالجتها من خلال الاهتمام بالتغلب على الدمار الذي لحق بالكوكب الناجم عن التنمية غير المنظمة لإعادة هيكلة استخدام مصادر الطاقة المختلفة؛ مسألة المناطق الحضرية وإيجار الأراضي في عصر التمويل العالمي غير المنظم، الانتقال من الفقر مع القدرة على الدفاع عن كرامة الفرد والحوار الاجتماعي وعلاج التهميش المرتبط بالانحرافات الإجرامية ذات الصلة، وظيفة التطور التقني واستبدال المعلومات المجزأة بالمعرفة، استعادة الوعي الذاتي بين الإنسان والطبيعة ومن ثم العودة مرة أخرى إلى الاقتصاد "الأخلاقي" كمسألة مركزية لمواجهة مواسم التغيير الجديدة حتى تلك الناجمة عن الوباء الذي نعيش معه منذ عام 2020.

 

نحن في خضم ثورة رقمية تولدت عند غزو الفضاء، وما نراه اليوم هو نتيجة موجة جديدة وكبيرة من الابتكارات التكنولوجية التي لا يمكننا التغاضي عنها. الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال، ظهر كتابع لغزو المريخ؛ لأن التكنولوجيا هي الوحيدة التي يمكن أن تسمح للإنسان بالوصول إلى الهدف.

الابتكار التكنولوجي أهم متغير في تطور التاريخ جنبًا إلى جنب مع الثقافة الإنسانية، إذا كانت هذه الثقافة لا تمتلك التكنولوجيا فهي مدفع بدون ذخيرة، وإذا لم تكن التكنولوجيا لديها الثقافة الإنسانية فهي قنبلة ذرية تنتج إشعاعات خطيرة. هذه الموجة من الابتكارات هي القادرة على تغيير العالم كما فعلت الثورة الصناعية لكن لا يوجد وعي بهذا حتى في الطبقة السياسية.

 

العنوان:  في تاريخ العالم: الدول، الأسواق والحروب

المؤلف: جوليو سابيللي

دار النشر: غويريني وشركاؤهم

بلد الاصدار: إيطاليا

لغة الكتاب: الايطالية

تاريخ الاصدار: كانون ثاني/يناير 2021

عدد الصفحات: 288

أخبار ذات صلة