التقلبات: العوالم الناشئة والاحتمالات المرغوبة

التقلبات العوالم الناشئة.jpg

جيروم باشي

سعيد بوكرامي

 

ينزع مفهوم الانهيار إلى تسييس القضايا من خلال افتراض مسار فريد لا محيد عنه، وكأنه شيء محتم، وعوضاً عن هذا المفهوم الدوغمائي المبشر بنهاية حتمية للعالم، يقترح الكاتب الفرنسي وعالم الاجتماع جيروم باشي مفهوم التقلبات، مما يفسح المجال أمام النمو غير المُتوقع في عصرنا والدور المركزي للتعبئة السياسية. ستحدث التغيرات وهذا الأمر لا مناص منه، على المدى القصير نسبيًا، على خلفية أزمة تنظيمات الرأسمالية وثغراتها وأخطائها، الناتجة بالتأكيد عن "التناقضات" البيئية التي تجتاح الكوكب، ولكن أيضًا بسبب التوترات الداخلية بين الرأسمالية الأحفورية (المعتمدة على الموارد الطبيعية الباطنية) والرأسمالية التكنولوجية المنحازة نسبياً إلى صناعات بيئية متجددة. على هذا الأساس التحليلي، يرسم الكتاب عدة سيناريوهات، وكلها معقولة تمامًا في هذه المرحلة.

هناك جانب يلفت انتباهنا إليه الكاتب بشكل خاص وهو انفتاح الاحتمالات لمرادفات الانقلابات المجتمعية والحضارية الكبيرة التي من شأنها أن تشركنا في طرق عيش تنزاح عن منطق النظام العالمي الرأسمالي، وتضعنا في مُواجهة أسئلة أساسية: ماذا يمكن أن يكون عليه تنظيم للإنتاج يتخلى عن مركزية المحددات الاقتصادية؟ ما هو مآل سياسة تفضل الحكم الذاتي الشعبي وتفترض الانتقال الجماعي؟ كيف يمكننا إقامة علاقات جديدة مع اللاإنساني الذي يتوقف عن إخراجنا من الترابط بين الكائنات الحية دون حل مفهوم الإنسانية تمامًا؟ وبأي طرق تنمو مثل هذه الاحتمالات؟ هذه كلها أسئلة يحاول جيروم باشي - بعلم استثنائي ووضوح وحرية تفكير – وضع إجابات لها معقولة وموثقة بقدر كبير من الشغف لاكتشاف الحقائق واقتراح الحلول.

شكلت جائحة كوفيد 19 حدثًا انقلابيًا، بالمعنى الدقيق للكلمة، ففتحت ثغرة في وجود الإنسان كما في مجرى الأيام. خلال عدة شهور، توقفت تقريباً معظم الأنشطة البشرية على هذا الكوكب، مما أدى إلى التفكير في إعادة تنظيم مقاييسنا للقيمة والاحتياجات، وتحديد المهم والضروري والفائض عن الحاجة. في المقابل اتضح أنه عكس ذلك، فقد أدى هذا التمزق في ترتيب الأشياء وفي مسارها المعتاد إلى ظهور (أو على الأقل بدا بديهيا) الاحتمالات التي كانت تبدو حتى ذلك الحين خيالية أو غير واقعية أو طوباوية تمامًا. في خضم هذه التقلبات الكثيرون حلموا بالفعل، بهذه المناسبة، بقدوم عالم جديد، "عالم ما بعد..."، أفضل يعيد فيه الإنسان تركيزه على الأساسيات. وهكذا رأينا عدداً من المنابر والهيئات والتنظيمات التي تدعو إلى الاستفادة من هذا التوقف المؤقت للبشرية الذي سمي بالحجر الصحي الكبير لعام 2020 لإعادة تشغيل النظام العالمي، على أساس اجتماعي واقتصادي وبيئي يكون أكثر عدلاً، كما تهيأ لكثيرين أن قطيعة حقيقية آخذة في التشكل مبشرة بدخول الإنسانية إلى حقبة جديدة. لكن بعد عام ونصف العام، علينا أن نعترف بأن عالم الأمس لم يقل كلمته الأخيرة وأننا بدأنا نلاحظ وقبل كل شيء "العودة إلى الوضع الطبيعي" الذي ينادي به الكثيرون، بحيث بدأ وبفارغ الصبر النزوع الجامح للعيش والاستهلاك والتحرك كما كان يحدث من قبل وأكثر. ومع ذلك، سواء أحببنا ذلك أم أبينا، فإن كوفيد 19  قد غيّر العالم. لقد أوصلنا إلى عالم جديد - على مستوى القرن الحادي والعشرين نفسه، كما سيقول البعض - عالم يتميز بالطبع بزيادة عدم الاستقرار وعدم القدرة على التوقّع، ولكن أيضًا بإمكانية ملموسة الآن: رؤية مستقبل يحدث لفائدة عالم الرأسمالية. إن الباب الذي فتحه الوباء أمام عالم يتعافى من تجاوزات الليبرالية الجديدة المدمرة لا يزال مفتوحًا على مصراعيه، ولا ينتظر إلا من يقتحمه. هذا ما يقترحه الكاتب الفرنسي جيروم باشي في هذا الكتاب المثير للاهتمام.

بينما كان يعتقد كثيرون أن كوفيد يعتبر مرضاً للأزمة النظامية للرأسمالية، فإنَّ الكاتب يعتبره أحد أعراضها، إذ يستكشف باشي العوالم الناشئة والإمكانيات المرغوبة التي تنطوي عليها كل هذه التقلبات التي نشهدها حاليًا. بعبارة أخرى، يتخذ من كوفيد – 19 ذريعة من أجل استكشاف، من زاوية نظر متجددة، الموضوعات المفضلة لديه والتي تناولها بالفعل في كتبه السابقة، بما في ذلك كتابه الملهم "وداعا للرأسمالية المنشور في عام 2014. لذلك يقترح علينا، انطلاقا من مفهوم التقلبات، تحليلا لعصرنا ومستقبله يختلف جذريا عن الخطابات الكارثية المسيسة لمفهوم الانهيار.

 

في الفصل الأول بعنوان "تأثير فيروس كورونا"، حاول أيضًا انتقاد فكرة الانهيار مبرزا أن المسارات الحالية لـ "النظام العالمي الرأسمالي"تميل نحو مسألة التسريع في كل المجالات (مثل التحول الرقمي للعمل بمختلف أنواعه)، وتحفيز الانعكاسات (مثل نقل بعض الأنشطة الإنتاجية)، أو قلب الأوضاع (مثل تعزيز دور الدولة) أو التقلبات (مثل الالتزام بالانتقال الطاقي على حساب النفط). كما أنه حرص على وضع هذه التقلبات في إطار أكثر عمومية وأعمق لرأسمالية تعيش أزمة هيكلية. ومع ذلك، يقول الكاتب إنه لا يجب أن نقع ضحية أطروحة علماء الانهيار، الذين ينتقدون العلم، وتسييس القضاء على التلوث (إذا كان النظام قد انهار، فلماذا يستمر النضال ضده؟) أو حتى استخدام مفهوم التاريخ الحتمي. في مواجهة هذا "السرد الفريد والقاتل"، من المهم على العكس أن نؤمن بـ"تعدّد السيناريوهات". وهذا ما سيسمح لباشي، بأن يلجأ إلى مفهوم "الجمعي المترع بالريبة " لـ "التقلبات" وإلى نظيرتها فكرة "الأزمة الهيكلية"، "التي تتميز باقتران متزايد للأعطال". وهكذا، داخل النظام الرأسمالي العالمي، تستمر الصعوبات في التراكم، مما يؤدي إلى انهيار جزئي ومحلي، في المجالين الاقتصادي والبيئي. هناك الكثير من الظواهر الزلزالية الصغيرة التي تضعف هيكل النظام الرأسمالي وتجعله يزداد هشاشة كل يوم، ولكنه لن يصل إلى انهيار عام، وإنما سيخضع  لتقلبات كبيرة. الشيء المهم هنا، بالنسبة للكاتب، هو الإصرار على تعدد السيناريوهات المحتملة وعدم اليقين في الفترات الزمنية، مع ملاحظة أن "ردود الفعل المناهضة للنظام مثل تقلبات ما بعد الرأسمالية تكتسب فرصا في مجال الاحتمالات". يناقش الفصل الثاني  إغلاق الاقتصاد العالمي والمحلي في ربيع 2020، ويقدمه كمثال جيد على هذا النوع من التقلبات. لقد فتح الباب بالفعل أمام مراجعة الأنشطة الاقتصادية التي قد يكون من غير المرغوب فيها عدم إعادة إطلاقها في نهاية أزمة الوباء، خاصة تلك الموجودة في الأصل (إزالة الغابات، الطيران الدولي، إلخ). وبالتدريج، بدأ يطرح السؤال ذاته عن حتمية النمو كمحرك للتراكم المتجدد لرأس المال. بعد التعرض لانخفاض قسريّ في النمو، لماذا لا يحدد عجز في النمو يكون اختياريا؟ يعطي فرصة لتوازن النمو من خلال إدراج أنشطة اقتصادية موازية. يلاحظ باشي، على وجه الخصوص، أن جزءًا كبيرًا من النشاط الاقتصادي يعمل فقط من أجل الحفاظ على منطق تقييم القيمة وبالتالي النظام الرأسمالي نفسه. لكن تفكيك النظام الإنتاجي لن يكون سوى الخطوة الأولى في عالم ما بعد الرأسمالية. ثم يطرح السؤال عما يجب إنتاجه وكيف يمكن القيام بهذه الاختيارات، لأن تحول الاقتصاد هو أيضًا فرصة لتجديد السياسة. وهنا يستخدم الكاتب مفهوم العيش الكريم للتعبير عن التحول من القانون الكمي، قانون الاقتصاد، إلى قانون الكيف، الذي يقع في صميم مصالح الأحياء.

يناقش في الفصل الثالث التنظيم السياسي المدرج في صميم إعادة هيكلة النشاط البشري، بحيث تطرق لمبادئ إعادة التوطين والإدارة البلدية، والتي طرحت من خلال مبادرات المساعدة المتبادلة التي ظهرت على المستوى المحلي أثناء الوباء، كمثال لإظهار ما يمكن أن يتشكل منه الوجود الجماعي حول قضايا الإنتاج، ولكن أيضًا من السياسة غير الحكومية، حيث يضمن التنظيم الذاتي والاستقلال الجماعي وبذلك يتخذ العيش الكريم المذكور أعلاه شكل وجود جماعي، أي نمط العيش المشترك الذي "يمتلك من حيث الجوهر الإحساس بالمشترك" ويفتح الطريق لعلاقة متماسكة للتعايش بين الكائنات الحية وحماية البيئات المحيطة. وبالتالي فهذه التقلبات الأنثروبولوجية حقيقية تتشكل خلف الاحتمالات التي أتاحتها الأزمة الهيكلية للرأسمالية المعولمة التي كرس لها الكاتب الفصل الرابع.

 

هناك الكثير من الدراسات والمفاهيم التي بُني حولها العالم الحديث لكن لم يعد بإمكانها التفكير في المستقبل أو حتى أن تعيش الحاضر بشكل ملائم. هذا هو الحال بشكل خاص مع المذهب الطبيعي، الذي درس جيدًا من طرف "ديكولا"، وكذلك مذهب الفردية، ولكن أيضًا مذهب الشمولية. هذه المفاهيم الثلاثة التي تنظم المجتمعات الغربية المعاصرة قد أدت بها إلى مأزق بيئي وسياسي. لذلك يجب التخلي عنها لصالح إصلاح وجودي وأنثروبولوجي عميق يضمن تعزيز أنواع أخرى من العلاقات بين البشر وغير البشر، ولكن أيضًا بين البشر أنفسهم. لأن الخروج من الرأسمالية يعني الخروج من هذه الحداثة التي كانت قائمة على هذه المفاهيم الرائدة ولكنها الآن عفا عليها الزمن. إن الاعتراف بالترابط بين الكائنات والأفراد على حد سواء، ولكن أيضًا بتفردهم، يدعونا بالفعل إلى تعديل تمثيلنا للاستقلالية وكذلك تمثيلنا للكونية، والتي لم تعد قادرة على استهداف الفرد ولكن يجب أن تدافع عن التعددية. بهذه الطريقة، سيكون من الممكن تغيير نظرتنا إلى العالم وإلى حياتنا، وبالتالي ممارساتنا الإنتاجية الاستنزافية والمدمرة. 

لهذا السبب يقترح الكاتب، في الفصل الخامس والأخير، "محاولة ربط انفتاح احتمالات ما بعد الرأسمالية بالوضع الحالي والنضالات التي تمارس اليوم". من هذه "الفرضية الإستراتيجية في أوقات الأزمات"، يبدأ باشي بنزع فتيل المعارضة بين ثورة كبرى في مكان ما وبين مقاومة في جزيرة صغيرة. من خلال الرفع من قيمة المساحات المحررة واشتداد المواجهة مع عالم الاقتصاد، يعتبر الكاتب أن الخطوات الصغيرة هي أضمن طريق نحو ثورة اجتماعية واقتصادية وسياسية وأنثروبولوجية من فرض حالة الطوارئ المناخية، ولكن أيضًا يجب أن تكون النضالات اجتماعية وسياسية للحد فقط من توحش الرأسمالية. من المهم بالفعل تنمية جميع المبادرات الفردية أو الجماعية "لتجريد رأسمالنا"، أي "التخفيف من قيود عالم الاقتصاد واجتراح طرق أخرى للوجود والعيش". هذه المبادرات هي التي يسميها باشي بالمساحات المحررة، هي مساحات للمعارك أكثر مما هي مساحات للتجريب. هذه المساحات تحمل الكثير من الآمال والإمكانيات، لأنها بالنسبة للكاتب هي الأسس وإذا تضاعفت، سيكون من الممكن قلب العالم الرأسمالي وإعادة بناء عالم جديد. بفضل تراكم تجارب ما بعد الرأسمالية السابقة واشتداد المواجهة مع العالم الاقتصادي والسياسي الحالي، سيتحقق التحول نحو عالم بديل.

يقوم باشي بتحليل ذكي ل"فنون العيش ما بعد الرأسمالية" التي تؤشر على احتمالية انفصال جذري عن العالم الحديث، والذي لن يحدث من تلقاء نفسه، ولا بدون صدامات، كما هو الحال مع العالم من قبل - كما يمكننا أن نرى مع حالة الطوارئ المناخية – الذي سيبذل قصارى جهده لمواصلة عمله كالمعتاد حتى النهاية. إن أفضل طريقة هي الاستعداد لهذا العالم الجديد اعتبارًا من الآن من خلال صقل جميع انحرافات التقلبات الممكنة، ومعها الديناميكية الهشة للكائنات الحية. لأن "الانهيار ليس مؤكداً أكثر مما كان التحرر مضموناً بالأمس. لكن ردود الفعل المضادة للنظام مثل التقلبات ما بعد الرأسمالية تكتسب أهمية  كبيرة في مجال الاحتمالات، وتَعِدُ بتغيرات جذرية على المدى المتوسطّ.

 إن عمل جيروم باشي، إذا لم يكن دليلًا معرفيا بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو مع ذلك معيار للاختيار في خضم هذه المغامرة البشرية الملتبسة، كما يعتبر استنتاجات مفيدة لفهم متجدد لوجودنا الفردي والجماعي وإدراك أعمق لتجربتنا على كوكب بات غير قادر على تحمل أن نواصل أنشطتنا العنيفة وكأن شيئًا لم يحدث، ولن يحدث.

 

الكتاب: التقلبات. عوالم ناشئة واحتمالات مرغوبة.

المؤلف: جيروم باشي

الناشر: دار لاديكوفيرت. فرنسا

سنة النشر: 2021

عدد الصفحات: 256ص

اللغة:اللغة الفرنسية

أخبار ذات صلة