إستير دوفلو وأبهيجيت بانيرجي
محمد حركات (خبير ومحلل اقتصادي مغربي)
كثيرة هي كتب الاقتصاد السياسي التي تناولت خلال العقدين الأخيرين مجموعة من الطروحات المختلفة حول النمو والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي غير أن كتاب المؤلفين ستير دوفلو وأبهيجيت بانيرجي وإن كان يلتقي مع عدة طروحات في الموضوع فإنه يختلف منهجيا وفكريا وبجرأة كبرى في إثارة مجموعة من القضايا الراهنة الشائكة؛ حيث إنه يصدر في سياق مختلف يتميز بالأزمة الهيكلية للنظام الليبرالي والتي استفحلت بفعل التداعيات العميقة لجائحة كوفيد -19 التي أصابت منظومة الإنتاج العالمية بازدياد الفقر وتمركز الثروات في أيادي الأقلية وتزايد الخطب الشعبوية وتضارب المصالح وهيمنة منظومة التفاهة وأباطرة التكنولوجيا.
لذلك جاء هذا الكتاب لتبني مقاربة منهجية وعلمية جديدة في مواجهة التفاوتات المتفجرة والكوارث السياسية والبيئية التي تهدد من كل حدب وصوب العالم الذي نعيش فيه، غير أن الكاتبين ما فتئا يتزودان بروح الأمل والتفاؤل فهما يعتبران أن لا شيء ضاع إلى الآن، موضحين أنه إذا كانت خيارات السياسة العامة قد قادتنا إلى ما نحن عليه، فلا شيء يمنعنا من التفكير في صنع سياسات أخرى بديلة شريطة أن تنبني على الدقة والصدقية في التشخيص؛ لتبديد الغموض حول مختلف النقاط الخلافية بشأن القضايا الكبرى الملحة مثل الهجرة والتبادل الحر والنمو والتفاوت والبيئة والثورة التكنولوجية وحوكمة الدولة وبناء اقتصاد سياسي نافع.
وأولى مزايا هذا الكتاب أنه يعمل على إحداث قطيعة ابستمولوجية في إثارة النقاش حول موضوع قديم /جديد من حيث منهجية تناوله وواقعية عرضه المبنية على التجربة الميدانية واستقراءات الرأي. وثاني مزاياه أنه يجمع بين زوجين اقتصاديين شابين مفكرين متنوعي الثقافة والبيئة والتفكير، وإن جمعتهما نفس الجامعة .ستير دوفلو، مولودة في 25 أكتوبر 1972 في باريس، وهي اقتصادية ذات جنسية مزدوجة فرنسية أمريكية، وأستاذة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT). حصلت على العديد من الجوائز والأوسمة الأكاديمية، بما في ذلك وسام جون بيتس كلارك John Bates Clark لأفضل اقتصادي أمريكي تحت سن الأربعين، وحاصلة على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2019 مع زوجها أبهيجيت بانيرجي، ومايكل كريمر.وهي ثاني امرأة تنال هذه الجائزة، وهي أيضا أصغر من فاز بها منذ بداية تنظيمها في 1969. كما خوّلتها أعمالها المتميزة في عام 2013 لتعمل بالبيت الأبيض بصفة مستشارة للرئيس باراك أوباما باللجنة الجديدة من أجل التنمية العالمية.
أما زوجها أبهيجيت بانيرجي فهو اقتصادي أمريكي من مواليد 21 فبراير 1961 متجنس مولود في الهند ويعمل كذلك أستاذ الاقتصاد الدولي لمؤسسة فورد (المعنية بتعزيز الديمقراطية والحد من الفقر وتعزيز التفاهم الدولي) في نفس المعهد. وهما الزوجان السادسان اللذان يفوزان معًا بجائزة نوبل في الاقتصاد . وتركز أعمالهما على قضايا الاقتصاد الجزئي في البلدان النامية، بما في ذلك السلوك الأسري والعمل والتعليم وولوج التمويل والصحة وتقييم السياسات العامة ونهجهما الميداني في التخفيف من حدة الفقر. وفي عام 2012 صدر لهما كتاب مشترك تحت عنوان " إعادة التفكير في الفقر".
كما يعد مؤلفهما موضوع المراجعة سابع مؤلف يتم الاستشهاد به بشكل متكرر في مناهج الكلية لدورات الاقتصاد. ولقد أسس الزوجان في عام 2003 بمعية سنديل مولايناتان مختبر التطبيقات العملية لمكافحة الفقر Poverty Action Lab في معهد MIT بهدف تغيير النهج العالمي في مكافحة الفقر. ولقد سمي المختبر في عام 2005 باسم مختبر عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر J-PAL تكريمًا لوالد محمد عبد اللطيف جميل خريج هذا المعهد ومؤسس شركة عبد اللطيف جميل ومؤسسة مجتمع جميل للتنمية الاجتماعية والاقتصادية التي تعتبر من أهم الجهات الداعمة للمختبر.
أما ثالث مزايا الكتاب فهي تتجلى في سعيه الحثيث إلى تحرير علم الاقتصاد من الأيدولوجية عبر رفع الالتباس والغموض بشأن العديد من المواضيع الشائكة. لذلك فهو يقدم إسهاما علمياً غاية في الأهمية .
يقوم المؤلفان بمرافعة حول الأدوار السياسية والاجتماعية التي ينبغي أن يقوم بها في الأزمنة الصعبة والمناداة إلى بناء علم اقتصادي اجتماعي هائل وعظيم في خدمة البلدان النامية أساسا وباقي بلدان العالم. وللتأسيس لهذا العلم ينبغي للاقتصاديين كباحثين في العلوم الاجتماعية تقديم الوقائع وتأويلها تأويلا صحيحا بغية السعي إلى حسم النقط الخلافية في البرامج والسياسات الحكومية والحزبية وتكريس التفاهم المتبادل في المجتمع، ملاحظين أن ما يزيد الوضع قلقا اليوم هو ضعف مسافة النقاش، حيث يلاحظ نوع من "القبلية" tribalization في الآراء ليس فقط في المجال السياسي ولكن في معظم القضايا المجتمعية والحلول المقترحة بشأنها محملين المسؤولية للاقتصاديين أنفسهم في تشخيص الوقائع وتقديم وتفسير الحقائق والتوسط في حسم الخلافات ومدى قدرتهم على إفشاء قيم الاحترام والتفهم في المجتمع ولكل الأطراف .
لقد تعلم الاقتصاديون أفضل ما يمكنهم فعله، وهو إيمانهم بقضيتهم عبر تشكيكهم في الإجابات اللامعة والاستعداد لتجربة الأفكار والحلول الواقعية والممكنة وأن يكون هدفهم الأمثل هو المساهمة في بناء عالم أكثر إنسانية وإلا فكيف ينبغي جعل الاقتصاد السياسي رائعًا مرة أخرى، ومنسوب الثقة في الاقتصاديين ضعيف عند الرأي العام ؟
في هذا السياق، يخلص المؤلفان إلى أن السياسات الاقتصادية وإن اختلفت تنبني دائما على علم الاقتصاد، سواء منه الجيد أو السيئ / الرديء فالأول يمضي منتصرا على الجهل والأيديولوجيا . أما الثاني فمن خصائصه التحيز في التحليل في تبرير الإعانات والهبات الكبيرة المقدمة إلى الأثرياء والضغط على برامج الرعاية الاجتماعية، والدفاع عن فكرة أن الدولة عاجزة وفاسدة والفقراء كسالى، وهو ما مهد الطريق للمأزق الحالي المتمثل في انفجار عدم المساواة وتوليد الغضب.
الواقع، من المهم، يؤكد الكاتبان، أن يسترشد الاقتصادي في مشاريعه العلمية بطرح الأسئلة الكبرى الهادفة ضمن مقاربة متعددة التخصصات لما يريده البشر وما يشكل الحياة الجيدة. إن التركيز على الدخل (الناتج الإجمالي الداخلي) وحده غالبًا ما يقود أذكى الاقتصاديين وصانعي السياسات إلى المسار الخطأ . ويشدد الكاتبان على أن يتجه النقاش العام في خضم الأزمة والأوقات الصعبة إلى الاعتراف بالرغبة الإنسانية العميقة في الكرامة والتواصل الإنساني، والتعامل معها باعتبارها قضية إنسانية جوهرية وفق مقاربة علمية شاملة، تيسر فهم بعضنا البعض، وتحرير أنفسنا مما يبدو أنه تعارضات مستعصية على الحل. إن إعادة الكرامة الإنسانية إلى مكانتها المركزية الطبيعية، تؤدي بدون شك إلى ضرورة إعادة التفكير العميق والجدي في الأولويات الاقتصادية والطرق الكفيلة بتأمين وحماية مجتمعاتنا وكافة أفرادها من المخاطر المحدقة بهم وتجاوز سوء الفهم حول العديد من القضايا من التصورات حول الهجرة والتبادل الحر والبيئة والتكنولوجيا.
لكن لماذا هذا الذعر من المهاجرين ؟
يقر الكاتبان أن التحذير العنصري يظل مدفوعًا بالخوف من اختلاط الأجناس وأسطورة النقاء لا تصغي للحقائق. ومقابل ذلك يجني الغرب فوائد جمة من عائدات الهجرة . كما يتحدث الاقتصاديون عن مكاسب وفوائد التجارة في خلق الثروة، استنادا إلى واحدة من أقدم النظريات المتجذرة في مبادئ الاقتصاد السياسي التقليدي،كما أوضح ذلك ديفيد ريكاردوDavid Ricardo، منذ قرنين من الزمن في فرضيات الميزة النسبية Comparative Advantageفي التبادل التجاري.
لكن ما القول عندما تصبح الصين قادرة على إنتاج كل السلع وبكمية وفيرة مقارنة مع الآخرين؟ ألا توجد هناك مخاطر إغراق جميع الأسواق بمنتجاتها دون ترك أي شيء لتصنيعه للآخرين؟
إن اللافت للنظر أن ما حدث لتوزيع الدخل في السنوات التالية كان دائمًا يسير في الاتجاه المعاكس لما قد يوحي به منطق Stolper-Samuelson. فقد تراجعت أجور العمال ذوي المهارات المتدنية؛ نظرًا لأن المشكلة الرئيسية في التجارة هي أنها تخلق العديد من الخاسرين أكثر مما تقترحه النظرية المعنية .
ومن مميزات الإسهامات العلمية للكاتبين دعوتهما إلى بناء اقتصاد سياسي للتفضيل والرغبات والحاجات Likes, Wants, and Needs من خلال الدعوة إلى توسيع نطاق هذا العلم للقدرة على التمييز ما بين مفاهيم جديدة أصبحت تغزو المعاملات الاقتصادية والاجتماعية عبر العالم في وقت أصبح العرق هو العنصر الأساسي للقادة الشعبويين في الولايات المتحدة وأوروبا. لسوء الحظ، يلاحظ الكاتبان أن الاقتصاد التقليدي غير مجهز لمساعدتنا بالإحاطة بهذا الموضوع هنا والآن للمناقشة والتداول حول حدود ومعيقات النمو الاقتصادي وآلام وتداعيات عدم المساواة عبر اكتساب وتملك الأفكار المفيدة حول كيفية الخروج من هذه الفوضى العارمة.
لذلك يرى المؤلفان أنه ينبغي للاقتصاد السياسي الانخراط مباشرة في آراء الناس، من أجل إعادة ترسيخ مصداقية الحوار العام حول السياسة والاقتصاد في محاولة القيام بما يتطلبه الأمر لتهدئة الغضب والحرمان الذي يشعر به الكثيرون، حول الهجرة والكرامة والتجارة والتكنولوجيا ومستقبل النمو وأسباب عدم المساواة وتحدي تغير المناخ ومفارقات حوكمة الدولة في خضم الأزمة والجائحة مع الاعتراف بأن الأمر لن يكون سهلاً ولا سريعًا. مادام أنه من المستحيل اليوم الحديث عن النمو وعدم المساواة والبيئة دون التفكير في الاحتياجات والرغبات، وبالتالي التفضيلات.
هناك اعتقاد اليوم راسخ عند الاقتصاديين لتبني سياسة اقتصادية على مقياس رفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلد، على غرار تلك اللحظة المحورية التي سادت بعد الحرب الكونية الثانية إلى منتصف السبعينات من القرن الماضي أو ما يطلق عليها بالثلاثينيات المجيدة The Glorious Thirty .
غير أنه على الرغم من الجهود الجبارة لأجيال من الاقتصاديين، لا تزال الآليات العميقة للنمو الاقتصادي المستمر بعد هذه الحقبة بعيدة المنال . ولا أحد يعرف ما إذا كان النمو سيتعافى مرة أخرى، أو ما الذي يجب فعله لزيادة احتمالية حدوثه. النبأ السار هو أن لدينا أشياء يجب القيام بها في هذه الأثناء ؛ هناك الكثير مما يمكن للدول الفقيرة والغنية على السواء فعله للتخلص من أفظع ممارسات التبذير للموارد التي هي رهن إشارتها والتي من شأنها تحقيق أكبر نسبة مهمة وبشكل دائم وأن تحسن رفاهية مواطنيها بشكل ملموس.
يبدو من المستحيل التفكير في النمو الاقتصادي دون مواجهة آثاره الفورية. العلماء يقرون أنه على مدى المائة عام القادمة سوف تصبح الأرض أكثر دفئا وستكون تكاليف تغير المناخ مختلفة تمامًا إذا ارتفعت درجة حرارة الكوكب بمقدار 1.5 درجة مئوية أو 2 ٪ أو أكثر. وفقًا لتقرير اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) لشهر أكتوبر 2018، عند 1.5 ٪، ستختفي 70 ٪ من الشعاب المرجانيةCoral reefs . عند درجتين مئويتين، 99٪ سيكون عدد الأشخاص المتأثرين بشكل مباشر بارتفاع مستوى سطح البحر وتحويل الأراضي الصالحة للزراعة إلى صحراء مختلفًا تمامًا في ظل السيناريوهين. الإجماع العلمي الساحق هو أن النشاط البشري مسؤول عن تغير المناخ، والطريقة الوحيدة للبقاء على مسار تجنب الكارثة هي تقليل انبعاثات الكربون . بموجب اتفاقية باريس لعام 2015، حددت الدول هدفًا للحد من الحرارة إلى حد 2 ٪، مع هدف أكثر طموحًا يبلغ 1.5 ٪ استنادًا إلى الأدلة العلمية، وكما خلص التقرير إلى أنه من أجل الحد من الحرارة في نسبة 2 ٪، يجب خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (CO2e) بنسبة 25٪،بحلول عام 2030،مقارنة بمستوى عام 2010 والانتقال إلى الصفر عام 2070 . وللوصول إلى 1.5 ٪ يجب أن تنخفض انبعاثات ثاني الأكسيد بنسبة 45 ٪ بحلول عام 2030 وإلى الصفر سنة 2050. ويرى الكاتبان أن تغير المناخ غير عادل إلى حد كبير حيث يتم توليد الانبعاثات في البلدان الغنية لكن الجزء الأكبر من التكلفة يحدث في البلدان الفقيرة. الشيء الذي يجعل المشكلة مستعصية على الحل، بالنظر إلى أن أولئك الذين يجب عليهم حلها ليس لديهم دافع قوي وإرادة حقيقية للقيام بذلك؟ هل هناك بعض الأمل؟
التطور المتزايد للروبوتات والتقدم الاصطناعي ولّد قلقًا كبيرًا في مختلف الأوساط الاقتصادية والسياسية والفكرية بشأن تداعيات الثورة التكنولوجية في تضخم عدم هيمنة الكبار وأباطرة تقنيات الإعلام والتواصل.
والملاحظ أن هيمنة "الشركات المتميزة" والتي تحقق أرباحا خيالية،حتى في وقت الأزمات والأوبئة أدت إلى خفض حصة الإيرادات المخصصة لدفع الأجور، وتميل إلى توزيع الأرباح على المساهمين بدل توجيهها لتحفيز العاملين. وهذا الوضع يثير اليأس والغضب وردود فعل عنيفة في المجتمع ليس فقط ضد التجارة، ولكن أيضًا ضد المنظومة الحالية والنخب بفعل غياب بلورة سياسة اقتصادية اجتماعية فعالة واضحة المعالم من شأنها أن تساعد الناس على تجاوز الأزمات والحفاظ على الكرامة للأفراد والجماعات.
ويرى الكاتبان أن التدخل الحكومي ضروري في عالم تسوده التفاوتات الصاروخية و"الفائز يستحوذ على كل شيء"، بالطبع يمكن استخدام الضرائب لكبح عدم المساواة في توزيع الدخل والثروة. لكن ذلك غير كاف، ومن المرجح أن يتطلب الأمر بلورة سياسة اجتماعية مبتكرة ومبدعة بموارد جديدة لتفادي تآكل شرعية الدولة، ويظل هوس الفساد جزءا من جذور التشكك في الدولة .
ومن الإسهامات المميزة للكاتبين تركيزهما الدائم على حماية كرامة المواطنين في الأوقات العصيبة عبر مساءلة ورصد البعد النفسي للفقراء وأشكال الرعاية والمساعدات النقدية . ولعل هذا التوتر القائم بين النقد والرعاية يجب أن يكون أحد الاهتمامات المركزية في تصميم السياسة الاجتماعية. إن الهدف من السياسة الاجتماعية، في الأوقات العصيبة يكمن في مدى القدرة على مساعدة الناس على امتصاص الصدمات التي تؤثر على أنفسهم. لسوء الحظ لا تزال الحماية الاجتماعية يكتنفها الغموض وعدم الجرأة اللازمة حيث يحاول الكثير من السياسيين إخفاء ازدرائهم للفقراء والمحرومين. حتى مع حدوث تحول في الموقف، ستتطلب الحماية إعادة تفكير عميق وتوسيع مساحة الخيال.
الكتاب : علم اقتصاد جيد للأوقات العصيبة
تأليف : إستير دوفلو وأبهيجيت بانيرجي (نوبل في الاقتصاد،2019)
الناشر : دار ساوي - باريس
اللغة : فرنسية
سنة النشر : 2020
عدد الصفحات :544 صفحة
