كوفيد وعالم ما بعد كوفيد: قراءة إسلامية

عالم ما بعد كوفيد.jpg

 تحرير: تي. كيه. إقبال

فيلابوراتو عبد الكبير

 حتى الآن لم يصل العالم إلى بر الأمان من قبضة جائحة كورونا. وموجات الجائحة لا تزال تجتاح جميع مناحي الحياة شرقا وغربا. إن أكثر الوفيات بعد الحرب العالمية الثانية كانت نتيجة لإصابة كوفيد. إن كانت الأولى ترتبت على قتال بين الدول العظمى فقد كانت الثانية بسبب فيروس لا تمتد حياته إلا لحظات قليلة. ظاهرة سيطرت على حياة النسل الإنساني جميعا وبدّلت "الفيزيولوجيا" الخاصة بهم، على نحو لا نجد له مثيلا في التاريخ. لقد أصبحت المعادلة بأن تكون "الإنسان في عالم الفيروس" حيث كانت سابقا "الفيروس في عالم الإنسان". وقد صدرت دراسات كثيرة كما جرت قراءات مختلفة في لغات متعددة تحلل آثار رد فعله الشديد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وهناك أيضاً دراسات لاهوتية وروحانية.

أمّا ميزة هذا الكتاب الذي يحتوي 19 مقالاً فإنه يسعى إلى أن ينظر إلى ظاهرة هذا القرن الخطيرة ودروسها ونتائجها من خلال منظور إسلامي. قلّما نجد أحدًاثا مثل كوفيد هزت حياة المسلمين الدينية والثقافية والاجتماعية. توقفت صلاة الجماعة والجمعة والتراويح في كل مكان، حتى العمرة والحج من خارج المملكة العربية السعودية مُنِعت فترة. ولو أن هذه التجارب ليست الأولى من نوعها إلاّ أن شدتها لم تبلغ دوليا إلى هذا الحد. هذا الكتاب يبحث كيف أن العالم الإسلامي والمجتمعات الإسلامية تفاعلت مع هذه التجربة الفذة. إضافة إلى مقالات باللغة المالايالامية توجد في الكتاب ثلاثة مقالات مترجمة لكل من الكُتاب العرب وضاح خنفر وسامح العودة والدكتور رفيق عبد السلام ومقالة مترجمة عن اللغة الأردية للدكتور سعادة الله الحسيني، أمير الجماعة الإسلامية لعموم الهند. وهذه الأخيرة هي فاتحة الكتاب، وهي أصلاً خطبة ألقاها في مقر الجماعة في نيو دلهي عام 2020 أبريل 11. الحسيني المفكر الإسلامي وصاحب عدد من الكتب القيمة يطرح في خطابه عدة أسئلة عن كوفيد بأبعادها الفلسفية والروحانية. ويُلاحِظ أن كوفيد ليس مجرد وباء يمكن معالجته من خلال تحليل علمي، بل هو مرض يُبرز كثيرا من الأمراض الاجتماعية مثل الظلم والطغيان وعدم المساواة والبذخ وتلويث البيئة. يُذكّر الحسيني المسلمين بأن تفاعل من يمثل الإسلام تجاه كوفيد لن يكونَ سلبياً بل يجب عليهم، مع اتخاذ جميع الوسائل الوقائية، المصارحة للمجتمع الإنساني بالحقائق المرة التي يكشف عنها كوفيد . يؤكد على أن الأسئلة الواجب طرحها على خلفية هذه الجائحة إنما هي عن الأسباب الأخلاقية الخفية خلفها.

جائحة مثل كوفيد حرّمت علينا مؤًقتا المرافق الحياتية تلقي علينا دروسا بالغة تفيد بأن حاجات الإنسان محدودة. وقد قال الغاندي إن ما يحتاج إليه كل واحد منِّا متوفر على المعمورة بالكفاية غير أن شره الإنسان لا يشبع بما فيها. وينقل الحسيني هنا آية من القرآن تصدق قول الغاندي: "كلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين" (7 : 31). إن الاستهلاك قد تجاوز كل الحدود. هذا الشره هو الذي يجعل الخلل في توازن الاقتصاد، وهو الذي يُسبِّب الكوارث البيئية والظلم والقمع. إن كنا مستعدين لأن نتعوّد على عدم الإسراف يمكننا حل كثير من مشاكلنا. وقد ظلمنا الطبيعة إلى أقصى حد. نتيجة لجنوننا في ترف الحياة كنا ننهب الطبيعة حتى غدت المياه والهواء والبيئة كلها مسمومة. وقد صدرت تقارير عن دراسات تفيد بأن السبب الرئيسي وراء كوفيد هو الخلل الذي وقع في توازن البيئة. أثبتت تلك الدراسات أن هذه الفيروسات كثيرا ما تخرج من بقعات ساخنة من التنوع البيولوجي. ومن أهم أسبابها كثرة التصنيعي وفقدان توازن البيئة: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" (القرآن 30 : 41) 

الكاتب الفلسطيني سامح العودة أيضاً يتفق مع أفكار الحسيني الأساسية ولكن في أسلوب مختلف. هل يستطيع كورونا أن يعيد مركزية الدين في القضاء على الخوف؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه سامح العودة في مقاله مؤكدا على أن الحداثة التي أعلنت القضاء على الخوف بعد إنقاذ الإنسان من "سراب" العقائد الدينية إنما عملت على أن تنتج مخاوف جديدة. على خلفية المخاوف والهواجس التي خلفها كوفيد يحاول سامح العودة أن يُثبت أن الإنسان يحتاج إلى مساند قوية تتجاوز حدود العالم المادي والعناصر الميتافيزيقية لتحقيق الأمن والأمان في حياته. وينقل هنا قول المفكر الأوربي الذي اعتنق الإسلام غاي إيتون: " يصعب على من صبَّ كل اهتمامه على الواقع الظاهري لهذا العالم أن يتقبل حقيقة أن هذا الواقع قد يختفي في أية لحظة مثل نفثة دخان، وسوف يحدث هذا في لحظة ما". فكما يقول عالم الاجتماع أسعد وطفة: "لقد جاء كورونا ليهز كثيرا من المسلمات المعرفية الجديدة والأساطير الفكرية القديمة، فأيقظ الإنسانية من غفوتها العنيفة الضاربة في الاستسلام للطمأنينة الحضارية الجارفة." هذه اليقظة أو الصدمة أسقطت "الطروحات الأسطورية لنزعة ما بعد الإنسانية التي ترى في عالم الإنسان القادم ومستقبله الجديد صرحاً للخلود الإنساني الحافل بالمعجزات الحضارية والمدهشات التكنولوجية التي تعتمل في قلب الحضارة المعرفية والثورة الرقمية المعاصرة".

ويفحص الدكتور رفيق عبد السلام، أحد قياديي حزب النهضة التونسي، دور الدولة في عالم ما بعد كوفيد. يشير الكاتب إلى فشل هتاف الليبرالية الجديدة التي كانت تطالب بتقليل دور الحكومة في عملية التنمية في جميع المجالات من التربية والصحة والخدمات العامة حتى يتم تفويض هذه المجالات إلى شركات خاصة احتكارية. منذ ثلاثة عقود كانت الحكومات في أوربا وأمريكا تتراجع تدريجياً عن مجالات مثل الصحة العامة والتربية والقطاع العام، والخصخصة كانت على قدم وساق حتى في الهند. كان الدافع وراء هذا أنه سيساعد على تقليل تكاليف الحكومات وتسهيل إدارة الأعمال. ولكن كورونا، كما يقول رفيق عبد السلام، أثبت أن لدور الحكومة أهمية خاصة في رعاية الصحة العامة، مشيرا إلى ما حدث من تدخل الحكومات عند انهيار البنوك عام 2008، ويقول إن هذا ليس بشيء جديد. وكارثة كوفيد أثبتت بطلان الفكرة الليبرالية التي تفيد بأن اقتصاد السوق الحر في حالة سقوطه سيتم تصحيح مساره بنفسه باستخدام أدواته الخاصة بدون أي تدخل من جانب الحكومات.

يصف آدم سميت تلك الأدوات بالأيادي الخفية. يأمل الكاتب في استرداد الحكومات دورها السابق في خدماتها العامة بعد أن يطوي كوفيد بساطه من خريطة الوجود، ويرى أن هذه العودة ستكون في اتجاه صحيح بعد مرحلة تم فيها تفويض وسائل حياة الناس إلى رحمة السوق الحر ومنطقه في الأرباح والخسائر. ويَعُدّ هذا إحدى فضائل كوفيد. ولكن تجب الحيطة والحذر في مصير تلك العودة حتى لا تتبلور إلى نزعة استبدادية وإفراط في استخدام السلطة. وإلى تفاصيل هذه الإفراط السلطوي يشير الدكتور تاج آلوفاي في مقاله المعنون بـ"كوفيد ومخالفات حقوق الحريات عامة" بإلقاء الضوء على محاولة كثير من الحكومات للتغلغل إلى سرية عامة الناس وخاصةً استخدام السلطات الأمنية في الهند قوّة مفرطة في قمع الاحتجاجات التي جرت ضد القوانين الجديدة الظالمة في حقوق الجنسية. 

 

ما هي التغييرات الدراماتيكية التي أتى بها كوفيد في الأُسر المسلمة؟ هذا هو الموضوع في مقال حسنى ممتاز، المقال الوحيد الذي كتبته امرأة في هذه المجموعة. تقدم حسنى، الباحثة في الجامعة الإسلامية في ماليزيا، هذه التغييرات في أسلوب سلس يجذب إليه القراء. ومقال صمد كوناكافو بعنوان "فيروس العنصرية ضد المسلمين" كما يوحي العنوان نفسه يدور حول الكراهية التي أنتجتها جهات متطرفة في الهند ضد المسلمين على خلفية جائحة كورونا، مثل الشائعات التي اتهمت جماعة التبليغ بسبب انتشار الوباء في عاصمة دلهي. 

الكاتب صالح النظامي الفوناني في مقاله يفتح لنا صفحات الأوئبة من التاريخ الإسلامي ويشرح كيف أن المسلمين تفاعلوا مع تلك الأزمة في قديم الزمان بينما يناقش أس. أم. زين الدين في مقاله التعليمات الإسلامية في معالجة الصحة العامة ودور المستشفيات التي أقامها المسلمون في القرون الماضية في تطبيق الوسائل الوقائية في مقاومة الأوئبة. أما رحمة الله المغربي فنقلا عما حدث من إغلاق المساجد وتوقف الحج في التاريخ ييناقش الإستراتيجيات التي اتخذتها الدول الإسلامية المختلفة تجاه كوفيد 19. ونقرأ في مقال "الطبعية تساؤل والعدل إجابة" لـ تي. محمد فيلام أجوبةً تنبثق من العقائد الإسلامية لما يطرح الملحدون من الأسئلة في زمن كوفيد. يؤكد الكاتب على أن المذهب الطبيعي الذي يتبناه الملحدون الجدد إنما هو طبعة جديدة من الشرك وأن فكرة الإسلام عن الله والطبيعة مختلفة تماما عن فكرة الملحدين في هذا الصدد. ويعرض الكاتب جُميْل في مقاله "ثمة حياة حتى في مرحلة ما بعد كوفيد" الموقف الذي يجب على المسلمين أن يتخذوه بناءً على وجهة نظر القرآن حين يواجهون الكوارث الطبيعية والأوبئة .  

 يرى الإعلامي وضاح خنفر في الأزمات العالمية عناصر تُسرِع حركة التاريخ في اتجاهات ثلاثة: أولا أنها تحفز الناس على اعتناق حلول استثنائية للتعامل مع الخطر الداهم؛ فتُزوِّد المجتمعات بالطاقة اللازمة للخروج من إلف العادة إلى ماهو غير مألوف، لا على مستوى السلوك فحسب بل على مستوى الاعتقاد والفكر أيضا. وثانيا أن الأزمات تطيح بالنظم الهرمة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وتدفع إلى الأمام بمنظومات أخرى واعدة بتجاوز الأزمة، فالأزمة فرصة للإطاحة بالقديم الهرم وولادة الجديد الفتي، بشرط أن يكون القديم قد اشتهر بين الناس فشله، وأن يكون الجديد قادرا على بث الأمل في النفوس. ثالثا أن الأزمات تُسرِع تغيير موازين القوة الدولية، فتُعزِّز اتجاهات استراتيجية وإن كانت ضعيفة كامنة، وتُضعِف أخرى وإن كانت قوية ظاهرة. ويضرب هنا مثالين. أولهما طاعون جستنيان (541-542) قبل ولادة النبي بثلاثين عاما. وقد زلزل العالم وأوهن كلا من الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية اقتصاديا وسكانيا بحيث اختلت موازين القوة الدولية مما ترتب على انهيار القطبين الدوليين على أيدي الفاتحين المسلمين. والمثال الثاني هو الطاعون الكبير (1346- 1351) الذي أفنى قرابة ربع سكان الأرض ولكن استفاقت أوربا بعده من عصور الظلام البالية وانهار في إثرها نظام الإقطاع المستبد وبدأ المفكرون البحث عن مناهج في الاقتصاد والاجتماع أكثر عدلا ومساواة، كانت تعد بداية النهضة الأوربية.

ويرى الكاتب أن النظام العالمي الذي اهتز تحت وطأة كورونا أمريكي بامتياز. ويُصدِّق رؤيته سقوط ترامب في الانتخابات الأخيرة. أما العولمة الأمريكية فيرى الكاتب أن دورها لا ينتهي إلى الأبد، مشيرا إلى ركنيها الأساسيين من الاقتصادي والتقني، ويقول إن جانبها الاقتصادي قد يتراجع بسبب كورونا إلّا أن التكنولوجيا ستواصل الدفع بالعولمة إلى الأمام، ولذلك فالعولمة ستستمر ولكن بوتيرة مختلفة وبقيادة متعددة الأقطاب.

 

ماذا ستكون التأثيرات البارزة لكورونا في المستقبل؟ يلقي الكاتب الضوء على أربعة تأثيرات. أولها إبطاؤ العولمة الاقتصادية. ستسارع الشركات والدول إلى امتلاك بنى تحتية ذاتية بتقليل اعتمادها على الأسواق العالمية، لا سيما في المنتجات الحيوية، وبالطبع فإن أرباح الشركات سوف تقلل. ثانيها أن العالم سيتجه نحو الانكفاء بدلا من الانفتاح. لن يقف الانكفاء عند حدود الاقتصاد بل سيتعداه إلى تعزيز نزعات قومية وعنصرية. وثالثها أن الزعامة الأمريكية للعالم ستتراجع. رابعها أن النظام الدولي سيتشكل بذي قطبية مرنة بحيث سيقوده قطبان رئيسان هما الصين وأمريكا. وسيستفيد من تنافسهما لاعبون إقليميون مثل تركيا وإيران. هل ستكون العولمة القادمة صينية؟

يرى الكاتب أن الصين قد تحقق صعودا اقتصاديا، إلا أنها لن تحتل المكانة التي تحتلها أمريكا على المسرح العالمي، فعزلة الصين الثقافية، وارتفاع الفجوة بين الساحل المتطور والداخل الصيني الفقير، ودكتاتورية الحزب الواحد، وسياسة التحكم المركزي، والانغلاق الإعلامي لن تكون مفيدة في بناء منظومة عالمية تكون الصين مركزها. وقد شهدنا الحالة المأسوية التي تعرضت لها حقوق الأقليات في الصين وخاصة بطشها بالمسلمين الإيغور. عالم ما بعد كورونا في نظر الكاتب ليس عادلا ولا آمنا، لكنه سيدفع حتماً نحو بديل أكثر عدلا ولو بعد حين؛ لأن التاريخ خير شاهد على أن الخير لن يموت، قد يتراجع لبعض الوقت، ولكن طغيان الشر سيكون خير محفز للنهوض.

 

عنوان الكتاب: كوفيد وعالم ما بعد كوفيد: قراءة إسلامية

تحرير: تي. كيه. أم. إقبال، عدد الصفحات:190 

اللغة: مالايالام: سنة النشر: 2020 

الناشر: دار النشر الإسلامي، كوزيكود، كيرالا 

أخبار ذات صلة