الفلسفة والقانون الدولي.. مدخل نقدي

الفلسفة والقانون الدولي.png

ديفيد ليفكوفيتش

محمد الشيخ

لم يقيض لمبحث فلسفة الحق والقانون أن يزدهر، منذ تأسيسه في القرنين الثامن والتاسع عشر، مثلما هو مزدهر في أيامنا هذه؛ إذ التآليف فيه بالمئات والمجلات والنشرات حوله بالعشرات ... ولَئِنْ كان الاهتمام الأول، في هذا المبحث، قد دار على قوانين كل أمة أمة، فإن قوانين الأمم باتت تشكل اليوم أحد أهم مناحي بحث فلسفة القانون. وفي هذا الكتاب، يفحص أستاذ الفلسفة بجامعة ريتشموند، والمؤسس المنسق لبرنامج "الفلسفة والاقتصاد والسياسة" بهذه الجامعة، والأستاذ الزائر بجامعة برينستون، وبالأكاديمية البحرية بجامعة سنغافورة القومية، ديفيد ليفكوفيتش، القضايا الجوهرية التي تطرحها فلسفة القانون بخاصة والفلسفة السياسية بعامة؛ وذلك من خلال تفكير نقدي يقظ في أمر القانون الدولي. 

ومؤلف الكتاب يبدأ من حيث البداية ـ أن يكون المرء "جذريا" إنما معناه أن يعتبر الأمور من "جذرها" ـ وجذر الأمور إنما هو السؤال: ترى، هل القانون الدولي قانون حقا؟ وقبل هذا وذاك، ما الذي يجعل من القانون الدولي قانونا؟ وهل وجود هذا القانون رهين بالتنفيذ القسري له، أم بمؤسسات شأن المحاكم الدولية، أم بالوفاء بمطلب حكم القانون؟ أم بمدى مطابقته للمعايير الخلقية؟ ثمة من يشكك في القانون الدولي، وثمة من يرتاب في أمره، وثمة من يحتار في شأنه؛ والنتيجة المترتبة عن ذلك طرح التساؤل العريض الطويل: أفهل يمكن يا ترى الدفاع، من الوجهة الأخلاقية، عن القانون الدولي؟ 

يعلن المؤلف أن غرضه الأول، من هذا الكتاب، إنما هو أن يوفر للقارئ المهتم مدخلا مجديا إلى بعض أهم القضايا المطروحة في فلسفة القانون والسياسة، والدعوة إلى ممارسة الحكامة العالمية التي يشير إليها الجميع باسم القانون الدولي. كما يتغيى هذا الكتاب أن يحيط النظر بالنقاشات الدائرة اليوم على طبيعة حقوق الإنسان وأسسها، وعلى التسويغ الأخلاقي لقانون الحرب، وعلى مفهوم الجريمة ضد الإنسانية، وعلى الأساس الأخلاقي للتحكيم الدولي، وعلى مدى عدالة القانون التجاري الدولي ..

هذا ويتكون هذا الكتاب من مدخل وعشرة فصول دارت على مُنظِّرين للقانون الدولي إثباتا وتشكيكا (الفصول الثلاثة الأولى: جون أوستين (1790-1859) صاحب النزعة الوضعية التي ترى في نهاية الأمر أن الأصل في القوانين الوقائع الاجتماعية لا الماينبغيات الخلقية، وأن ما من قانون إلا وهو مفروض من طرف العاهل؛ ومن ثمَّة سعيه إلى الفصل بين القوانين الوضعية والمبادئ الخلقية، وهربرت ليونيل أدولفوس هارت (1907-1992) صاحب المدرسة الوضعية التحليلية في القانون، ورونالد دووركين (1931-2013) صاحب كتاب "أخذ الحقوق مأخذ الجد"، المتأثر بهارت والناقد له في آن، مفند الوضعية المؤمن بالتآثر بين الحق والأخلاق، وعلى قضايا في القانون الدولي (الفصل الرابع: أفهل ثمة حكم دولي للقانون؟ الفصل الخامس: حكم القانون الدولي؟ الفصل السادس: مشروعية القانون الدولي، الفصل السابع: قانون حقوق الإنسان الدولي: مفاهيم حقوق الإنسان وأسسها، الفصل الثامن: قانون الحرب وعلاقته بآداب الحرب، الفصل التاسع: القانون الجنائي الدولي: الجرائم ضد الإنسانية والقضاء الدولي، الفصل العاشر: القانون الدولي والانشقاق، الفصل الأخير: القانون التجاري الدولي: التجارة الحرة والتجارة العادلة والتجارة في الخيرات المنهوبة)؛ فضلاً عن ببليوغرافيا وكشاف بالأعلام والاصطلاحات ... 

 

أغراض الكتاب

في مدخل الكتاب، يشير المؤلف إلى أنه يسعى إلى خدمة أغراض ثلاثة: الغرض الأول غرض عام يتمثل في إيناس القارئ بأهم الأسئلة التي تُطرح في فلسفة القانون، والتي تدخل في صلب الفحص الفلسفي لطبيعة القانون ولمعياريته: ترى، ما القانون؟ وما الذي يميزه بوسمه ممارسة اجتماعية معيارية عن سائر الممارسات الاجتماعية الأخرى؟ وما الذي يجعل عبارة شأن "يتوفر هذا المجتمع على نظام شرعي (قانوني)" عبارة محقة أو عبارة مبطلة؟ وهل وجود القانون رهين بالقسر الذي يمارس باسمه، أم بنوع المؤسسات، أم بالمحاكم، أم بالامتثال إلى بعض القواعد الإجرائية أو الجوهرية، أم بمعايير أخلاقية؟ ولماذا يا ترى؟ وما طبيعة هذا الارتهان؟ وما الذي يكونه القانون في جماعة معينة أو في حالة بعينها؟ وما هي شروط صدق عبارات نظير هذه: "فعلك هذا انتهاك للقانون" أو هذه: "لاحق لك في منح هذا الكتاب"؟ وهل من الواجب طاعة القانون لا لشيء إلا لأنه القانون؟ وكيف نميز بين القانون واللاقانون؟ والحال أن من شأن تدبر هذه الأسئلة ونظيرها كثير تدبرا فلسفيا أن نقاد إلى التفكير في القانون القومي الخاص بنا، على أن التفكير الفلسفي يتعين عليه أن يقودنا إلى مراجعة اعتقادنا بأن دولتنا تملك نظاما قانونيا حقا. ذلك أن ألفتنا بنظام قانوني معين عادة ما تحجب عنا بعض الحدود؛ إذ تجعلنا هي لا نميز بين سمات القانون بعامة والسمات الخصوصية المتعلقة بنظام قانوني بعينه. كما تجعل، بالتبع، من العسير طرح أسئلة من نوع آخر؛ لا سيما لمن لا أنسة له بما يجري في العالم وبتنظيماته القانونية. ومن هنا تنجلي أهمية الكتاب في فتح نقاش كوني، لا قومي، حول القانون؛ أي في طرح مسألة القانون لا في إطار قانون قومي، وإنما في سياق قانون كوني؛ بحيث يضيف بعد المقارنة إلى البحث في طبيعة القانون ومعياريته. 

الغرض الثاني: إيلاف القراء مع الأعمال الحديثة التي أنجزها فلاسفة القانون والسياسة في شأن القضايا التصورية والخلقية الخاصة بمجال القانون الدولي. مثلا، حين النظر الفلسفي النقدي في قانون حقوق الإنسان الدولي، كيف يتعين علينا أن نفهم مفهوم "حقوق الإنسان"؟ وقس على ذلك مفهوم "الجريمة ضد الإنسانية"، و"قانون الحرب". إذ تساءل الفلاسفة المعاصرون عما إذا أمكن تسويغ هذا القانون من الناحية الأخلاقية، وعن التجارة الدولية: هل يتوجب على القانون الدولي أن يشجع التجارة الحرة أم التجارة المنصفة؟ وعما إذا كان غياب نظام قانوني دولي للإنفصال المعلن من طرف واحد يدل على خلل أخلاقي في ممارستنا للحكامة العالمية؟ 

الغرض الثالث: تحقيق تقدم في النقاش الدائر على جملة المواضيع المتطرق إليها بين دفتي هذا الكتاب.  

 

مبنى الكتاب ومعناه

لا يخفي المؤلف أنه ينتصر في هذا الكتاب إلى أنظار هارت في القانون الدولي ضد قراءات أخرى لفلاسفة قانون ومنظرين للقانون الدولي معاصرين، كما يقدم قراءة لفلسفة دووركين في القانون الدولي من شأنها ـ في زعم المؤلف ـ أن تكسبه مناعة ضد مختلف الردود عليه. فضلا عن أنه يوفر حججاً جديدة للنقاشات الدائرة على الفهم الخاص لمعنى "الجريمة ضد البشرية"، وللأسس الأخلاقية للقضاء الدولي، وللعلاقة بين الأخلاق وقانون الحرب، وللتسويغ الأخلاقي للقانون الدولي المتعلق بانفصال طرف انفصالا أحادي الجانب. والكتاب برمته دائر على شقين: شق متعلق بالنقاش حول مشروعية القانون الدولي، والشكوك المبررة حول هذه المشروعية. والشق الثاني دائر على فحص فلسفي معاصر لأنظمة قوانين دولية معينة (قانون حقوق الإنسان، قانون الحرب، قانون التجارة، قانون الانفصال ...) 

فحوى القسم الأول من الكتاب: 

يخصص المؤلف القسم الأول من الكتاب (من الفصل الأول إلى الفصل السادس) إلى مناقشة مسألة مشروعية القانون الدولي: ترى، هل القانون الدولي حقاً قانون؟ وكما كان قد لاحظ ذلك هارت في مدخل كتابه الشهير "مفهوم القانون"، فإن من شأن من يطرح هذا السؤال ألا ينوي إنكار وجود ممارسة اجتماعية عادة ما تدعى "قانونا دوليا"، وإنما من أمره أن يود أن يعرف ما إذا كانت هذه الممارسة تملك خواص تضمن أنها "قانون". من شأن أولئك الذين يتساءلون عما إذا كان القانون الدولي حقا قانون، أو ينفون ذلك بمنتهى البساطة، أن يفعلوا ذلك في إطار حجة عملية تتعلق بما إذا كان على دولة معينة أن تُفَعِّله. إحدى القضايا التي يطرحها هذا الأمر مسألة التنفيذ القسري لهذا القانون. وينظر المؤلف في صورتين لهذا الادعاء: الأول وُجد عند فيلسوف القانون جون أوستين الذي قام بتوصيف القانون على أنه ما يأمر به العاهل، أو بعبارة هارت نفسه: "أوامر تدعمها تهديدات". والثاني يعالج نوع التنفيذ الذي وُجد في الدولة الحديثة باعتباره الشرط الضروري لوجود القانون. ويوفر الموقفان معا أساسا مناسبا للنزعة المتشككة في القانون الدولي. على أن المؤلف يرفض هذين الموقفين معا. ويعيد النظر في تقديم هارت بوسمه من المتشككين في القانون الدولي، ويراجع هذه الفكرة على أساس أنها قائمة على قراءة فاسدة. ذلك أن هارت لا ينكر أن يكون القانون الدولي قانونا، وإنما ينكر أن يكون نظاما شرعيا. ويخصص المؤلف فصلا لنقد دووركين لهارت وللوضعية المنطقية بعامة التي هي المذهب الذي يرى أن وجود القوانين إنما من شأنه أن يؤوب، في نهاية المطاف، إلى الوقائع الاجتماعية وليس بالضرورة إلى الاستحقاقات الخلقية. ويتمثل البديل الذي يطرحه دووركين في أن القانون الدولي إنما هو نظام قانوني شرعي حق وأصيل. وينتقل المؤلف إلى فحص مسألة حكم القانون، بما في ذلك مختلف المرويات عن العناصر التي يتضمنها وقيمة الحكم وفق هذا المثال، ثم يأتي إلى مختلف أسس مساءلة وجود حكم دولي للقانون. ويعطف على ذلك التناول بفحص مفهوم المشروعية وصلته بواجب أخلاقي هو واجب طاعة القانون. ويعتبر هنا أربعة أسس لمشروعية القانون الدولي: 1- إكساب الذوات الخاضعة للقانون مهارة التصرف كما لو كانت لها دواعي محقة في تصرفها. 2- موافقة هذه الذوات 3- اعتبارات تتعلق بالقبول بقواعد اللعبة. 3- المرجعيات الديمقراطية للقانون الدولي. 

محتوى القسم الثاني من الكتاب: 

بعد أن دار القسم الأول من هذا الكتاب على النزعة الشكوكية في أمر القانون الدولي وفي شأن مشروعيته، ها هو يدور القسم الثاني على بحوث فلسفية خاصة في أمر أنظمة قانونية بعينها: نظيمة حقوق الإنسان، قانون الحرب، الجريمة ضد الإنسانية، إعلان الانفصال من طرف واحد، قانون التجارة الدولية. 

وهكذا، تنصب عناية المؤلف على نقاش حديث يدور بين مدرستين فلسفيتين قانونيتين وسياسيتين حول طبيعة حقوق الإنسان وأسس هذه الحقوق. إذ يذهب من يسميهم باسم "المنظرين الأرثدوكسيين" إلى أن حقوق الإنسان إنما هي حقوق أخلاقية معنوية تملكها سائر الكائنات البشرية لا لشيء اللهم إلا لفضل كونها من البشر. هذا بينما يروح أولئك الذين يسمهم بوسم "منظري الممارسة السياسية"، بالضد من ذلك، إلى أن حقوق الإنسان إنما تشكل عناصر مكونة في محاولة تسعى إلى إعادة النظر في سيادة الدولة وفي النظام السياسي الدولي الذي تُقدم ضمنه. ويفحص المؤلف فحصا نقديا محاولات هؤلاء البرهنة على محدودية ووجاهة مرويات حقوق الإنسان الأرثدوكسية القائمة على التسويغ الخلقي لممارسة حقوق الإنسان دوليا. وينتهي إلى اعتبار الدور الذي يلزم أن تلعبه المبادئ الخلقية الموضوعية داخل هذه الممارسة. ويقوّم المؤلف أربع مرويات عن الصلة بين الأخلاق وقانون الحرب، وانعكاسات كل واحدة منها على أمرين: تكافؤ المتحاربين وحرمة محاربة غير المحاربين أو المدنيين. ويشير إلى دفاع أحد منظري الحرب العادلة، ميخائيل فالتزر، عن هذين الأمرين على أساس أنهما يعكسان مضمون آداب حرب حقة. وبالضد، يذهب مراجعو مذهب الحرب العادلة ـ من أمثال ماكمهان وهاك ورودان ـ إلى أنه بالتزامه بتكافؤ المتحاربين وبحرمة غير المحاربين، فإنَّ قانون الحرب لا يعبر عن مضمون آداب الحرب الحقة. وبينما يحاج رودان بأنه يتوجب أن يتم إصلاح قانون الحرب بحيث يعكس آداب حرب مراجَعة، فإن ماكمهان وهاك يدافعان عن قانون حرب ينهض على فكرة أنه يتوجب على المتحاربين أن يبلوا بلاء حسنا في التصرف تصرفا أخلاقيا إِنْ هم اتبعوا القانون القائم أكثر مما إذا هم سعوا إلى إتباع قانون الحرب المراجَع. أما شو وديل فيرفضان الادعاء الذي يتشاطره كل المنظرين المشار إليهم والقائل بأنه يتعين على قانون الحرب أن يسعى إلى الحد ما أمكن من انتهاك حقوق الأفراد. وبالبدل، يذهبان إلى الدفاع عن فكرة أنه يتوجب على هذا القانون أن يخدم فكرة الهدف الإنساني المتمثل في تقليص الأضرار التي تلحقها الحرب. وبالجملة، يمكن تسويغ التزام قانون الحرب بتكافؤ المتحاربين وحرمة غير المحاربين تسويغا أخلاقيا. 

ثم يعالج المؤلف مسألة الجريمة ضد البشرية وتسويغ القضاء الدولي محاكمة من يقترف مثل هذه الجريمة. ترى، ما الذي يعنيه ارتكاب جريمة ضد البشرية؟ وما طبيعة هذه الجريمة؟ وما الذي يميزها عن سواها؟ يعالج المؤلف معالجة نقدية التحليلات المتدافعة المتعلقة بمفهوم "الجريمة ضد البشرية". ثم يعتبر مقاربتين تسوّغان متابعة مقترفي الجريمة ضد البشرية: الأولى تقيمها على أسس المخاطر التي تشكلها هذه الجريمة على سائر البشر، بينما تدعو الثانية إلى جماعة أخلاقية وسياسية كونية تجعل مقترفي هذه الجريمة مسؤولين عن أفعالهم أمام المحاكم التي تتصرف لصالح البشرية جمعاء. 

وينتقل المؤلف إلى مناقشة مسألة الانفصال من طرف واحد: ما الذي يعنيه الانفصال؟ وما منزلته في القانون الدولي؟ فيناقش مختلف الاجابات عن هذين السؤالين. ويعالج بالأولى مسألة ما إذا كان الانفصال يستند إلى حق أخلاقي. وبالثاني، أي الأقاليم يحق لأصحابها إعلان حق الانفصال؟ ويبحث القواعد الأخلاقية التي يمكن أن تسوّغ الانفصال من طرف واحد، والحيثيات الواقعية التي تدعو الفاعلين إلى القيام بذلك. 

 

وأخيرا، ينظر المؤلف في التسويغ الخلقي لبعض القواعد القانونية التي تحكم التجارة الدولية. ترى، أي المعايير الخلقية يتوجب إعمالها في التقويم النقدي لهذه القواعد؟ وما هي اقتراحات إصلاحها؟ ويفحص هنا عدة مستويات خلقية باعثة على التجارة الحرة، شأن التخفيف من الفقر، ويعرض عدة حجج للدفاع عن محاذير وشروط التجارة واستثناءاتها؛ بما في ذلك إباحة التحيز إلى أهل الوطن، وحق أولئك الذين يساهمون في جعل التجارة الدولية ممكنة في تقاسم منصف للأرباح التي تذرها؛ فضلاً عن مناقشة ما إذا كان يجوز أخلاقيا استيراد البترول وغيره من الموارد الطبيعية واستهلاكه من بلدان يحكمها طغاة؛ بما يؤدي إلى انتهاك القانون الدولي، ويساهم، بالتالي، في تفاقم ظاهرة التجارة في الخيرات المنهوبة. 

 

عنوان الكتاب: الفلسفة والقانون الدولي.. مدخل نقدي

اسم المؤلف: ديفيد ليفكوفيتش

دار النشر : مطابع جامعة كامبريدج

سنة النشر: 2020

أخبار ذات صلة