الدين المدني في أمريكا

الدين المدني في أمريكا (2).png

روبرت بِلّاه

عزالدين عناية*

يُعالج الكتاب الذي نتولى عرضه مسألة جوهرية في علاقة الدين بالاجتماع ضمن السياق الغربي، وتحديدا ضمن السياق الأمريكي. فلطالما تَركَّز النظر العربي لعلاقة الدين بالسياسة والخيارات الاجتماعية ضمن السياق الأوروبي، وتغاضى عن واقع المكوَّن الديني وحضوره وفاعليته في الأوساط الأمريكية. تعود المسألة بالأساس إلى وقوع النظر العربي السوسيولوجي، والمعرفي بشكل عام، رهين المعايير المتأتية من التجربة الأوروبية، حتى تشكلت معيارية جامدة في فهم مسار العلاقة بالدين. أضحت تلك المعيارية مضلِّلة في الكثير من الأحيان، ولا تكفي لتشكيل رؤية مكتملة عن واقع علاقة الدين بالاجتماع في الغرب. قنع فيها النظر العربي بتاريخية منقوصة في وعي العقل الديني الغربي، تلخّصت في تاريخ إزاحة الدين من الاجتماع، على إثر التحولات التي شهدها الواقع السياسي الأوروبي منذ تفجّر الثورة الفرنسية وما تلاها.

فما الذي يميز التجربة الدينية الأمريكية عن نظيرتها الأوروبية؟ بادئ ذي بدء نشير إلى أنّ التداخل بين الدين والاجتماع، من ناحية الحضور البارز في مختلف الأنشطة الاجتماعية، وبين الدين والسياسة، من ناحية استبطان الخطاب السياسي لمدلولات دينية واضحة، هو شيء مفاجئ للأوروبي حين تطأ أقدامه أرض أمريكا، تصدمه شعارات ولافتات على غرار "يسوع هو الحلّ" أو "الكنيسة هي الخلاص". فذلك الفصل بين الحقول والقطاعات والمؤسسات، الدينية والدنيوية، يتقلّص في الواقع الأمريكي إلى درجة الانتفاء أحيانا.

في هذا الكتاب يحاول عالم الاجتماع الديني روبرت بِلّاه الأستاذ السابق في جامعة بركلاي في كاليفورنا، وصاحب المؤلفات المرجعية في دراسة الظواهر الدينية، الانطلاق من الجذور لفهم أصول "الدين المدني" ضمن السياق الأمريكي. يُبرز الكاتب في مؤلفه المخصَّص للواقع الديني الأمريكي أنّ الأمة الأمريكية منذ حقبة الثورة، آمنت مع الرواد الأوائل، الآباء المؤسسين، بوجود صلة مميزة، بما يشبه الترابط الوثيق بين الأمة ومخزونها الروحي، المتمثل في "إسرائيل القديمة" كما صوّرها الكتاب المقدس. ولذلك نجد إحساسا قويا في المخيال الأمريكي التأسيسي بأنّ أمريكا مصونة ومختارة من طرف العناية الربّانية، بما يماثل الشعب المختار الذي يرِد الحديث عنه في الكتاب المقدس، فهناك تماثل في المسار وتشابه في الأدوار. وتلك الفرادة التي تُشكّلها أمريكا، أو تلك الريادة القِيَمية التي تحوزها، كما تخيّلها الآباء كانت دائمة الحضور في الخطاب السياسي مع سلسلة طويلة من الرؤساء الأمريكان، وتواصلت إلى غاية الرئيس الحالي جو بايدن.

لا ينكر بلّاه أن مقولة "الدين المدني" في أصلها تعود إلى المفكر جان جاك روسو في الفصل الثامن من الكتاب الرابع من "العقد الاجتماعي"، حيث يعرض العقائد المكوِّنة للدين المدني بشكل واضح ومبسّط: وجود الله، الآخرة، الثواب والعقاب، ونفي التعصب الديني. بَيْد أن هذا المفهوم يتّخذ دلالات عميقة في الواقع الاجتماعي الأمريكي ويغدو لصيقا بالمقوّمات الجوهرية التي تقوم عليها الدولة، وأنّ ما عملت التجارب السياسية الأوروبية على تحييده وعزله -نقصد الرصيد الروحي العقدي- يغدو مع التجربة الأمريكية مستلهَما  ومستحضَرا بشكل دائم.

فمنذ تولي جورج واشنطن منصب الرئاسة (1789)، دأب الرؤساء الأمريكان أثناء التنصيب على اختتام قسم الوفاء للدستور بقولهم "ليكن الرب في عوني"، وإن كان الدستور الأمريكي من أوائل الدساتير الغربية التي حرصت على الفصل بين الكنيسة والدولة، بما يضمن للجميع الحرية الدينية وليس بما يُقصِي الدين من الحياة السياسية. فالعلمانية الأمريكية هي علمانية متعايشة مع الدين وليست علمانية طاردة له، كما نلحظه في اللائكية الفرنسية المتحرِّجة من كل ما هو ديني. ضمن هذا السياق مَثّل مفهوم "أمريكا المتماهية مع إسرائيل" التوراتية عنصرًا قويا في المخيال السياسي الأمريكي على حدّ ما يذهب إليه بِلّاه. ولّد ذلك الإحساس إيمانًا برسالية أمريكا، الحضارية والقِيَمية التي توزعت بين مجمل القيادات السياسية التي تولّت المناصب العليا في الدولة. وبالتالي ثمة حسٌّ شائع بما يشبه "الدَّور النبويّ" و"المهمة الرسالية"، كما يبرز بلاه، تتولاه أمريكا في العالم بوصفها نور الأمم، والمعنية بتصدير تلك النورانية السياسية والحضارية إلى مختلف شعوب العالم. يصف الرئيس أبراهام لينكولن الشعب الأمريكي بالـ "شعب شبه المختار" أو "تقريباً مختار" في أحد خطاباته.

 

وفي هذا الجوّ من الحماس الديني خاض لفيف من الشخصيات العمومية الأمريكية حملاتهم التبشيرية في الخارج، بادعاء حمل رسالة خلاص إلى شعوب العالم بأسره. وعلى سبيل المثال على إثر اجتياح العراق (2003) حلَّ فرانكلين غراهام، ابن المبشر التلفزي المعروف بيللي غراهام، بأرض الرافدين مدّعيا تقديم المعونة المادية والرّوحية للعراقيين. بوصف أمريكا ليست خلاصا سياسيا فحسب، بل هي خلاص روحيّ ودينيّ أراده الرب لعباده. صرّح فرانكلين غراهام قبل مغادرة العراق بأن ما يُطلَق عليه بعملية 'الحرّية للعراق' هي فرصة سانحة لانتشال الغارقين في الظلمة ومدّ يد العون والخلاص لهم، لأنّ أمريكا ملزَمة أخلاقيا للقيام بذلك الدور، بفعل الرسالية التي تحركها والرصيد الخُلقي الذي يحفزها. وليس هذا الحسّ النبويّ الطاغي في الوسط السياسي الأمريكي بالدور الأمريكي ظرفيّا، بل هو جوهري، ولذلك أغلب الكنائس الأمريكية التي تحاول تصدير رؤاها خارج أمريكا تتصرف ضمن هذا المنطق أكان في جنوب القارة الأمريكية أم في أوروبا. فهناك نبرة خلاصية طاغية لديها، ولعلّ ذلك ما بدا جليا أيضا في مطلع القرن الفائت في تعامل أمريكا مع النصف الجنوبي للقارة الأمريكية. بدا السعيُ حينها حثيثًا لتحجيم الوصاية الكاثوليكية والعمل على تقليص هيمنة كنيسة روما على المجال الدينيّ في الشطر الجنوبي للقارة. وأبدت الكنائسُ البروتستانتيةُ الأمريكيةُ حماسةً لنشر الرسالة الدينية الأمريكية ذات الطابع البروتستانتي في المنطقة. وهو توجّهٌ عامّ في أمريكا يرى في الكنائس الأمريكية امتدادًا لليبرالية على المستويين الدينيّ والاقتصاديّ. اندرج تصريح الرئيس الأمريكي تيودور روزفيلت ضمن هذا التمشّي، خلال العام 1912، لمّا أعلن أنّ الخيارات الدينية غير الأمريكية تُشكّل عقبةً أمام تمدّد السياسة الأمريكية جنوب القارّة. وهي في الواقع رؤية مستوحاة من سرديّة رائجة أن المنظور الديني الأمريكي يمثّل السّند القِيَمي والأيديولوجي للرأسمالية والليبرالية، قوامه تلازم مفتَرض بين الأخلاق البروتستانتية وروح المذهب الرأسمالي، وفق القراءة الفيبرية.

فالدين المدني بهذا الاعتبار والمنظور هو رؤية داخلية ملاصقة للخيارات السياسية، باحثة عن التمدد في الخارج. وعلى هذا الأساس يتساءل مقدّم كتاب روبرت بِلّاه في ترجمته الإيطالية، الأستاذ جوفاني فيلورامو، قائلاً: إذا ما كان القرن العشرون هو قرن الأيديولوجيات العقائدية الصلبة والمتصلّبة، مثل النازية والفاشية والشيوعية، فهل سيكون القرن الواحد والعشرون هو قرن الدين المدني بما يقتضيه من ليونة في الزمن المعولَم؟ صحيح انختم القرن العشرون وانطبع مطلع القرن الواحد والعشرون بعودة الأصوليات، ولكن هناك أيضاً تطلّع في العالم نحو مؤتلف جامع يراود المُؤمنين في أديان شتّى، بدأ يملي بحثاً عن صيغة دينية منفتحة وجامعة في آن.

وما يلاحَظ اليوم، كما يرصد روبرت بِلّاه، أنّ التقسيمات التقليدية بين العلمانيين والمتديّنين، ضمن تكتلات صلبة وصارمة قد أضحت رخوة. فالحدود بين الطرفين، وبين الشقّين التقليديين، قد بدأ يفقد دلالاته الأولية، ليحلّ محلّه ضرْبٌ من التداخل والتشارك والتحالف. تأتي إعادة توزيع الأدوار وإعادة صياغة التعريفات ملائمة لحقبة الدين المدني. فليس العلمانيون كتلة جامدة، وبالمثل ليس أنصار التوجهات الدينية كتلًا جامدة، فكلاهما يبحث عن حلفاء وعن أنصار جدد لن يجدهم سوى في الشقّ المقابل. ومنذ خمسينيات القرن الفائت كان اللاهوتي هانس أورس فون بالتاسار (ت. 1988) يتحدث عن هدم الجدران الفاصلة بين الشقّين، بما يعني فعلًا الانفتاح المتبادل والتحاور لغرض التعايش.

 

يشدّد بلّاه على معطى الدين المدني في أمريكا بوصفه أحد الأبعاد السوسيولوجية التي ينبغي دراسة أثرها في الاجتماع، وينطلق من محطّة محورية في التاريخ السياسي الأمريكي، من خطاب التنصيب الذي ألقاه الرئيس جون كينيدي في يناير 1961، المتضمّن لدلالة دينية مدنية قوية. حيث استهل الرئيس خطابه بقوله: "... لذلك أقسمت أمامكم وأمام الرب العظيم وفق الصيغة المألوفة التي دأب عليها الآباء منذ ما يناهز القرنين... إنّ حقوق الإنسان لا تتأتى من سخاء الدولة بل من عطاء الرب". ويختتم كينيدي خطابه قائلا: "على هذه الأرض ينبغي أن يكون فعل الرب، الذي هو بشكل ما فعلنا". وهو تعبير بليغ عن أنّ الدين المدني ضمن السياق الأمريكي يحضر في استبطان ذلك البعد القداسي المتخيَّل في الفعل السياسي، لكن تبقى الخصوصية الأمريكية، وبخلاف ما هو معهود في قارة أوروبا العتيقة، وهي الحرية المتروكة للكنائس والنِّحل والتجمعات الدينية المعبّرة عن معتقداتها المتنوعة ورؤاها المتباينة. ففي النظرية السياسية الأمريكية تستمدّ السيادة مشروعيتها من الشعب، حينًا بشكل ضمني وآخر بشكل عَلني، ولكن السيادة العليا تعود بمصدريتها إلى الرب، وهو مفاد المقولة الأمريكية الشهيرة "في الله نثق".

نجد الرئيس توماس جيفرسون في خطاب التنصيب أيضًا (مارس 1801) يعبّر بوضوح عن مفهوم "الأرض الموعودة" و"الشعب المختار" ضمن السياق الأمريكي قائلاً: "لقد قاد الربّ شعبه إلى تأسيس شكل جديد من النظام الاجتماعي سيكون نورا لكلّ الأمم". وتتعاظم هذه الاختيارية في المخيال السياسي الأمريكي كما يخلص بلّاه من خلال اعتبار "إعلان الاستقلال" و"الدستور" و"حقوق الإنسان" بمثابة التعاليم المُقدسة. نجد هذا الاستبطان الديني للرسالية الأمريكية أيضًا في تمثّل الرئيس جورج واشنطن على غرار النبي موسى الذي اختاره الربّ ليقود شعبه نحو أرض التحقق وليخلّص قومه من رهن العبودية.

في الواقع الأمريكي أملت حاجة الدين المدني، كما يرى بلّاه، المشاغل المشتركة، فالدين وببساطة يقوم على تجربة باطنية ذاتية، ولكن انشغالات عامة تطبعه أيضًا، تعبّر فيها مضامينه عن قِيم مشتركة وخيارات جامعة. فوفق المنظور الأمريكي الدين والأخلاق هما دعامة ضرورية لمجمل التوجهات والأعراف التي تقود إلى الفَلَاح السياسي، وأن أمريكا مَدينة في جانب كبير من وحدتها وريادتها إلى عامل الدين، وهو ما عبّر عنه الحسّ الوطني، أو لنقل الضمير الجمعي، بإقرار يوم خاص ضمن الروزنامة الوطنية كعيد للشكر تعبيرا عن تلك الصلة الوثيقة بين المجتمع الأمريكي ومخزونه الروحي. فما من شك أنّ فكرة الدين قد لعبت دورًا بنّاء في فكر الآباء المؤسسين، حتى وإن انطبع الفهم الديني بخاصيات اقتضت في اللاحق تهذيبا، ليغدو الدين أكثر إنسانية ويحدّ من غلواء التمركز حول الكنيسة البيضاء. وعلى سبيل الذكر موضوع "إسرائيل الأمريكية"، أي الاستبطان للتجربة التوراتية، جرى توظيفه في العديد من المناسبات عبر التاريخ الأمريكي لتبرير السلوك المشين أيضاً الذي سلكه الأمريكان مع الهنود الحمر، وهذا التمثّل جرى استغلاله في المغامرات الإمبريالية في مطلع القرن التاسع عشر أيضا.

من جانب آخر لاحظ بلّاه أنّ الدين في أمريكا، وإلى غاية القرن التاسع عشر، كان متميزا بطابع حركي، أخلاقي، اجتماعي، ولم ينحصر في مستوى تأملي أو لاهوتي، ولم ينصبغ بصبغة روحانية مثالية. وهو ما يتوافق فيه بلّاه مع أليكسيس دو توكفيل الذي رأى أنّ دين الكنيسة الأمريكية هو بمثابة المؤسسة السياسية التي تسهم بشكل حاسم في دعم أسس الجمهورية الديمقراطية بين الأمريكان، بما توفّره من دعم أخلاقي في خضمّ التحول السياسي الدائم. والواقع أنّ هذه الفكرة قد راجت لدى كثير ممن قاربوا الواقع الديني الأمريكي وعملوا على مقارنته بالواقع الأوروبي. يتحدث هنري بارجي -سنة 1902- عن دين الكنيسة الأمريكية بما يشبه "القصيدة الحضارية". إذ تبرز التجربة التاريخية للدين في أمريكا أنّ الكنائس لم تقف في وجه الثورة الأمريكية، ولم تعارض إرساء المؤسسات الديمقراطية في مراحل حاسمة من تاريخ البلد. وحين أُثير اعتراض بعض العناصر التابعة للكنائس عن مَأْسَسة الحرية الدينية، قبلت الغالبية العظمى بالنتيجة النهائية دون حنين إلى النظام القديم. والملاحظ في الدين المدني الأمريكي أنّه لم يتميز بالعداء السافر للدولة، ولم يميزه جدل واسع مع العلمانية، وبخلاف ذلك كانت الكنيسة الكاثوليكية شديدة الخصومة مع الثورة الفرنسية ومناوئة لخيارات سياسة الدولة في الاجتماع.

 

ما يخلص إليه روبرت بلّاه في كتابه أنّ مجمل ثيمات الدين المدني ضمن الطرح الأمريكي تتخفى وراءها نماذج أصلية توراتية، تتمثّل في "الخروج" و"الشعب المختار" و"أرض الميعاد"، و"أورشليم الجديدة"، و"الموت الأضحوي" و"البعث" وغيرها، ولعلّها من الأسباب التي تفسر الترابط الوثيق بين أمريكا وإسرائيل اليوم.

 

الكتاب: الدين المدني في أمريكا.

تأليف: روبرت بِلّاه.

الناشر: مورشلليانا (بريشيا-إيطاليا) "باللغة الإيطالية".

سنة النشر: 2021.

عدد الصفحات: 111 ص.

أخبار ذات صلة