من كبش فداء إلى حمار  وحشي. الديموقراطية العميقة: مقاربة جديدة لصنع القرار  والسيطرة على النزاع

الديمقراطية العميقة.jpg

فاني ماتيوسن

 عبدالرحمن السليمان

أستاذ الترجمة في جامعة لوفان في بلجيكا.


يُعالج هذا الكتاب موضوع "الديموقراطية العميقة"، وهي منهج تربوي حديث نشأ في جنوب إفريقيا وانتشر منها حول العالم. تتمحور فكرة المنهج حول الإنصات إلى صوت الأقلية المُختلف عن صوت الأكثرية، إذ غالبًا ما تنظر المناهج التربوية التقليدية إلى صوت الأقلية على أنه الصوت المُعارض لصوت الأكثرية، فيُرى صاحبه بأنه ذلك الشخص الآخر، الغريب والمشاغب، ويُنبَذ لذلك. أما منهج الديموقراطية العميقة موضوع هذا الكتاب فيرى في هذا الصوت المخالف لصوت الأكثرية مصدرًا من مصادر الحكمة، ويرى أن في داخل كل إنسان حمارًا وحشيًا غنيًا بالخطوط الكثيرة والمتنوعة والفريدة ويترجم هذه الرؤية في الواقع إلى إسهام فريد في الخطاب الاجتماعي. ويتمثل التحدي في هذه الحالة في توحيد التنوع الكبير الموجود في الأصوات البشرية بدون السقوط في تسويات مبتذلة أو مقاربات عملية لتصنيف تلك الأصوات. لذلك يحاول الكتاب تقديم مجموعة من الأفكار والأدوات إلى الآباء والأمهات والمديرين التنفيذيين والموجهين التربويين والمعلمين ومنشطي الشباب والفاعلين الاجتماعيين تمكنهم من تطبيق منهج "الديموقراطية العميقة" هذا أثناء القيام بعملهم التربوي والقيادي والتوجيهي وفي عملية التربية بشكل عام. 

 

طوّرت منهج "الديموقراطية العميقة" سيدة من جنوب إفريقيا تُدعى ميرنا لويس (Myrna Lewis) بمعية زوجها الراحل جريج لويس (Greg Lewis) بهدف التأثير في الآليات الاجتماعية التي تتحكم في مواقف الأفراد والمؤسسات الاجتماعية بشكل عام بهدف توجيهها نحو الأفضل. ونشأت فكرة "الديموقراطية العميقة" عندما طُلِبَ من الزوجين المذكورين عشية انهيار نظام الفصل العنصري (أبارتيد) في جنوب أفريقيا تحويل شركة الكهرباء (إسكوم) من شركة عنصرية مُؤسسة على نظام الفصل العنصري إلى شركة غير عنصرية. واجهت الزوجَيْن أثناء عملية التحويل مشاكلُ واضطراباتٌ عديدة. فمن جهة وجد السكان البيض، الذين تعودوا على مُمارسة سلطتهم المطلقة بدون حدود، أنفسهم وقد خسروا سلطتهم تلك بالجملة. ومن جهة أخرى وجد السكان السود، الذين لم تكن لهم أيَّة سلطة في نظام الفصل العنصري، أنفسهم وقد أصبحوا فجأةً شركاء في السلطة وفي صنع القرار. فقارب الزوجان هذه المشاكل التي نشأت نتيجة لتلك التغيرات من خلال دمج منهج علم النفس الموجه نحو العمليات (Proces Oriented Psychology) الذي يشمل العلاج والعمل ضمن المؤسسات والمجموعات الاجتماعية من جهة، ويُمكّن المديرين ورؤساء الأقسام والأشخاص العاملين من ذلك المنهج والمعارف المتعلقة به من جهة أخرى.

 

يتكون هذا الكتاب من جزءين صدرا في كتابين مختلفين. يتكون الجزء الأول من الشق النظري، بينما يحتوي الجزء الثاني على الشق التطبيقي. ويتكون الجزء النظري من مقدمة وسبعة فصول، تسبقها توطئة بقلم ميرنا لويس تطرح فيها الإشكالية الرئيسة للكتاب وتنطلق فيها من القول: "تشهد الإنسانية اليوم في زمن العولمة مرحلة انتقالية يواجهُنا في أثنائها تراجعُ العدالة الاجتماعية وكذلك تنوع الثقافات والخلفيات والأفكار. ونجد أنفسنا، في حالات كثيرة، مضطرين إلى الاختيار بين نقيضين – مع أو ضد – في القضايا السياسية والاجتماعية وعلى الصعيدين الدولي والمحلي".  وتنطلق فكرة الكتاب الرئيسة من الاعتراف بهذا التنوع اعترافًا كليًا وعدم الهروب أمام التحديات التي تنتج عن التنوع الثقافي والفكراني. ولأن الإنسان يتجنب الخلافات والنزاعات بطبعه "فإنه" والحالة هذه "يميل إلى الانسحاب عند الخلاف لتفادي الصدام، مما يُؤدي إلى انتهاء العلاقة" التي تفادينا الصدام من أجل ديمومتها، "وكذلك إلى نوع من الاستغراب بحيث يحدث تباعد تلقائي فينتج عن ذلك استمرار آليات التعامل القديمة ومنها تسلط الواحد على الآخر واضطهاده إياه". ومن شأن ذلك أن يرسّخ قوالب العلاقات البدائية الضامرة في الثقافة أو في المؤسسات بشكل عام. "لذلك ينبغي البحث عن أشكال جديدة من التواصل من أجل تفادي الصدام واستمرارية الارتباط بين المكونات المختلفة للإنسانية على المستوى العالمي والمستوى المحلي". وتضيف بأن الكتاب يقدم منهجًا يتيح للناس على اختلافهم وتنوعهم مساحات يستطيعون أن يعبروا من خلالها عن أفكارهم المختلفة. تُمكّن هذه المساحات كل طرف من الأطراف من اكتساب حكمة جماعية عميقة يفيدون منها جميعًا، "ذلك أن الهدية الضامرة في كل نزاع هي تلك الحكمة الجماعية التي تترجم نفسها إلى حلول متجددة تتقبلها مجموعة ما من الناس". وهكذا تنشأ نماذج جديدة في سياق المسؤولية ومُمارستها.

وتتمحور فكرة الديموقراطية العميقة كما يطرحها المؤسسان حول تحقيق الحيوية والاندماج والحركية والفعالية في المجتمع. فالحيوية الاجتماعية ضرورة "كي لا يستحيل المجتمع ومؤسساته جمادًا يعجز عن تأدية دوره بحيوية في عالم شديد التغيّر والتطوّر". والاندماج بدوره ضرورة ملحة "كي لا يعجز الضعفاء اقتصاديًا واجتماعيًا عن اللحاق بركب المجتمع السريع الحركة". والحركية لازمة "من أجل لَحلَحة الأمور عندما تصل إلى طريق مسدودة وتُمكّن الأفراد الذين يعانون من عدم القدرة على التواصل من صيرورتهم مشاركين فاعلين" في النشاط الاقتصادي والاجتماعي. كما تساعد الديموقراطية العميقة على "الرفع من الأداء المؤسساتي على الصعيدين النوعي والكمي". وهذا يُلاحظ في مجالات كثيرة "ومنها الاجتماعات العملية التي تصبح قصيرة الأمد عالية الفعالية". فالديموقراطية العميقة تنطلق من مبدأ التعاون مع جميع الأطياف المكونة للمجتمع أو المؤسسة أو المجموعة "مما يمكننا من استرداد بُعد التعاون الذي أضعناه في حياتنا" بسبب طغيان الفلسفة الفردانية عليها. فالفلسفة المعمول بها هنا هي "أنا موجود لأننا موجودون" وذلك في جدل صريح مع أحد منطلقات الفكر الغربي المؤسس على الفردانية كما عبَّر عنه رينيه ديكارت في مقولته الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود". كما تحاول هذه الفلسفة أن تتجاوز إشكالية الـمَحْوَرَة داخل المجتمع أو المؤسسة أو المجموعة من خلال إحلال الـ "نحن" بدلاً من "نحن وَهُم" السائدة الآن "والانطلاق من مبدأ تعاوني" يتكون من خمس قواعد رئيسة يتكون منها منهج الديموقراطية العميقة تهدف إلى البحث عن صوت الأقلية المخالف وأخذه بعين الاعتبار عند اتخاذ القرار النهائي بحيث يكون القرار جامعًا مانعًا يعبر عن جميع الآراء والأفكار الموجودة في المجتمع أو المؤسسة أو المجموعة.

القاعدة الأولى: "اجمع كل الآراء والأفكار والمنطلقات". اجمع كل الآراء من خلال دعوة الجميع لإبداء آرائهم أو أفكارهم والتعبير عن منطلقاتهم، "بما في ذلك الآراء والأفكار والمنطلقات التي هي على النقيض من آرائك وأفكارك ومنطلقاتك" الشخصية. وهذا يتطلب منك أن تتحرّر من كل الأحكام المسبقة. "وهذا التحرر من الأحكام المسبقة لا يحول دون التعبير عن رأيك الشخصي" عندما يكون لك رأي شخصي في المسألة المطروحة، "ولكن بطريقة يرى مخالفك في الرأي فيها أنك عبَّرتَ عنها بدون إقحام مرجعيتك الفكرانية ومنطلقاتك ورغباتك الشخصية في عملية التعبير عن رأيك" بحيث يكون رأيك موضوعيًا. كما أن الاهتمام بآراء الآخرين وأفكارهم ومنطلقاتهم، مهما كانت مغايرة، وأخذ جميع المنطلقات بعين الاعتبار "بطريقة منفتحة ومحايدة"، عاملان مهمان لتحقيق الموضوعية المنشودة أيضًا من هذه القاعدة.  

 

القاعدة الثانية: "ابحث بطريقة فعّالة عن البديل". تظهر، أثناء البحث عن الآراء والأفكار والمنطلقات المختلفة بعض المقترحات بصورة عفوية. تقتضي النزعة القائمة في طرق العمل التقليدية "أن تتبلور هذه الآراء لتصبح مقترحات تؤخذ بعين الحسبان عند اتخاذ القرار النهائي".  لكن الديموقراطية العميقة لا تستسيغ هذه الطريقة "وتطلب منك أن تبحث بطريقة فعّالة وبصراحة عن الرأي الآخر الذي يشكل البديل المنشود".  

القاعدة الثالثة: "انشر البديل". تجنَّب أثناء التعبير عن الرأي الآخر وتقديم المقترح أن تطرح سؤالاً على الجمع مثل "من منكم يتعرف على نفسه من خلال هذا المقترح" لأن من شأن ذلك أن يجعل ذلك الشخص وحيدًا داخل المجموعة. ذلك لأن الواقع يعلمنا أن من يأتي بفكرة جديدة أو مقترح جديد "قد يصبح عرضةً للتهكم والتغامز والنظرات المريبة" وتعليقات مثل "عادت حليمة لعادتها القديمة" أو مثل "كنا شارفنا على الانتهاء من العمل لولا هذا المقترح" الذي سيطيل أمد الاجتماع. فإذا ظهرت بعض المقترحات نتيجة لتوظيف هذه النقاط الثلاث واستنفاذها بطريقة فعالة فيمكن هنا طرح هذه المقترحات على جميع أعضاء المجموعة للنظر فيها والتصويت عليها. إذا كانت نتيجة التصويت بالإجماع فينبغي في هذه الحالة تنفيذ ما قُرِّرَ بالإجماع. "وإذا كانت نتيجة التصويت منقسمة فيجب عليك الرجوع إلى القاعدة الأولى والطلب من كل أحد أن يعبَّر من جديد عن رأيه وأن يصيغ فكرته أو مقترحه بدقة وصراحة متناهيتين وأن يحشد الآخرين لفكرته حتى يُكتب لها القبول لدى أكثرية أعضاء المجموعة فتكتسب فكرته القيمة وترتقي إلى مصافّ الخيارات الأخرى". عندما تتحقق هذه العملية ويحصل الرأي المخالف على أكثرية، "ننتقل إلى القاعدة الرابعة".          

القاعدة الرابعة: "أضف حكمة الأقلية". نبحث بتطبيق هذه القاعدة عن الأشخاص الذين خسروا أصواتهم في رهان التصويت. نعترف لهم أولاً بأن الخسارة ليست أمرًا إيجابيًا. ثم نستفسر منهم عن مقترحاتهم اللازمة لاعتماد قرار الأكثرية. "وهكذا تستطيع إضافة حكمة الأقلية إلى قرار الأكثرية". ثم تضاف مقترحات الأقلية إلى قرار الأكثرية وتعرض على المجموعة  للتصويت من جديد. "إذا لم نحصل على تصويت بالأكثرية بعد ثلاث محاولات فإن هذا الإخفاق يعني أنَّ ثمة شيئًا في الباطن يحول دون تحقيق الإجماع. إنه شيء مهم لكنه لا يُعبَّر عنه بالكلام بل بعرقلة عملية الحصول على الإجماع". وغالبًا ما يكون لذلك علاقة بالعواطف والمعضلات الضامرة والتناقضات الكامنة في الباطن. "في هذه الحالة ننتقل إلى القاعدة الخامسة".

القاعدة الخامسة: "غُص إلى الأعماق". تؤدي العواطف دورًا مهمًا في هذه القاعدة. "فبعد توصيف ما يجري داخل المجموعة باقتضاب، نطلب من أعضاء المجموعة أن يبوحوا جميعًا بالأشياء الضامرة الموجودة في الباطن والتي تحول دون تحقيق الإجماع". وثمة في الديموقراطية العميقة بعض التقنيات التي توظف من أجل استخراج التناقضات الضامرة بطريقة آمنة ومناقشتها والحصول على حلول مناسبة بشأنها. "من هذه التقنيات: تقنية المحادثة المسماة برمي السهام الـمُرَيَّشَة".

  

وتضيف الكاتبة بأن توظيف هذه القواعد الخمس يؤدي بطبيعة الحال إلى مساءلة النماذج المستعملة الآن. تقول: "تعني هذه المساءلة للنماذج المستعملة خسارة لتلك الراحة التي نشعر بها في أثناء مقاربتنا للأشياء بطريقة تقليدية". من ذلك:  "الاعتماد المطلق على العقل عند مقاربة الأشياء"، بينما تقترح الديموقراطية العميقة منح مساحة للعاطفة إلى جانب العقل وأخذ لغة الجسد وعالم المشاعر والأحلام بعين الاعتبار. وكذلك مساءلة "السعي الحثيث والمطلق نحو تحقيق الانسجام" في كل شيء، بينما ترى الديموقراطية العميقة في بذرة الخلاف آلية للنمو والتطور! ويعني هذا حسب الكاتبة عدم تفادي الخلاف بالسكوت عنه بل "الاعتراف بوجوده والترحيب به بهدف معالجته وحله" وفق منهج الديموقراطية العميقة وقواعده الخمس. وترى الكاتبة في هذا السياق أن الاعتراف بالخلاف والنزاع ليس شيئًا مألوفًا بل هو أمر مخيف للكثيرين لذلك يتفادى كثير من الناس الخلاف بتجاهله. من ثمة أهمية منهج الديموقراطية العميقة "التي تخلق مساحة آمنة تمكن الجميع من استيعاب أشد الخلافات حدةً". كما يؤدي توظيف هذه القواعد الخمس "إلى مساءلة نظرتنا الثابتة إلى الإنسان باعتباره ذئبًا أو كائنًا أنانيًا في جوهره". وترى الكاتبة أن هذه النظرة إلى الإنسان المعاصر غير صحيحة كليًا وأنها – أي النظرة – مما ورثناه عن نظرية النشوء والارتقاء لداروين. تقول: "إن هذه النظرة صحيحة جزئيًا لأن الإنسان ورث في مخه وعقله الباطني أربعة ثوابت عن مراحل طفولته التاريخية يحتاج إليها من أجل البقاء والاستمرار وهي القتال والهروب والغذاء والإنجاب". وتضيف بأن الإنسان أكثر من أن يُختزل في هذه الثوابت الأربعة فحسب. "فلقد طورنا نحن البشر طاقة لا تفنى من أجل خير الآخرين، يمكن أن نسميها الشعور بأحزان الآخرين والتألم لآلامهم". وتضيف بأن هذه الطاقة التي تجعلنا نشعر مع أخينا الإنسان فنقاسمه أحزانه وهمومه، تستحيلُ في منهج الديموقراطية العميقة إيثارًا يدعو إلى التعامل مع الخلاف بروح الإيثار والتسامح. "وتُعدّ هذه الطاقة واحدة من أهم منطلقات الديموقراطية العميقة وأدواتها".             

  الكتاب – بشقيه النظري والتطبيقي – مادة جديدة مؤسسة على حكم إنسانية عامة وقيم مرتبطة بجوهر الإنسان تبلورت لتصبح منهجًا قابلًا للتطبيق في سياق خلافي شديد في جنوب إفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري فيها يرى أن كل صوت في المجتمع أو المؤسسة أو المجموعة أو حتى العائلة – مهما كان مخالفًا أو حتى شاذًا – إنما هو صوتٌ مهم ينبغي الإصغاء إليه ودمج صاحبه في المنظومة العامة بعد أخذ رأيه بعين الاعتبار بطريقة حقيقة لا مجازية. ونقترح ترجمته إلى العربية لأهميته ولخلو المكتبة العربية من كتاب مثله خصوصًا في زمن تكثر النزاعات فيه في العالم العربي لأسباب كثيرة منها التنوع الإثني والمذهبي والفكراني وانحسار المساحة المتاحة لاحتواء تلك النزاعات الناتجة عن هذا التنوع.     

 

الكتاب:

العنوان: "من كبش فداء إلى حمار وحشي. الديموقراطية العميقة: مقاربة جديدة لصنع القرار والسيطرة على النزاع".

الكاتب:  فاني ماتيوسن (Fanny Matheusen)

الناشر:  دار بيلكمانز برو – كالمتهاوت، بلجيكا 

اللغة: الهولندية

عدد الصفحات:  221 صفحة (الجزء النظري) و223 صفحة (الجزء التطبيقي).

سنة النشر:  2020

أخبار ذات صلة