الصين المعاصرة.. في ثماني كلمات

الصين المعاصرة.png

بياتريشي غاليللي

عزالدين عناية*

يجذب حضور الصين في الساحة الدولية انتباهَ العديد من الخبراء والمتابعين، في مسعى لمحاولة فهمِ الظاهرة الصينية في أوجهها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وفي نهضتها المتطورة. وإن تشهد المكتبة العربية نقصًا واضحًا في المجال، فعلى خلاف ذلك يجد المعني بالشأن الصيني وفرة من الأعمال في اللغات الغربية تتابع مجالات شتّى. يندرج كتاب الإيطالية بياتريشي غاليللي ضمن هذا الاهتمام بالصين في الغرب. فالكاتبة علاوة على كونها تدرّس اللغة الصينية والترجمة في جامعة "كا فوسكري" في البندقية، تتركز أبحاثها أيضًا على تحليل الوقائع السوسيولوجية التي تميّز المجتمع الصيني وخصوصا منها الوقائع ذات الصلة بالتحولات السياسية.

تحاول الكاتبة الإحاطة بواقع الصين المعاصرة من خلال ثمانية مفاهيم أساسية، تحصرها في كلمات مفتاحية تعنون بها محاور كتابها وهي: الأمّة، والشعب، والحضارة، والتطور، والازدهار، والانسجام، وروح "الأمّة"، والديمقراطية. وهي عبارة عن مواضيع مترابطة على صلة وطيدة بما تعيشه الصين من تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية، أو لنقل حضارية بوجه عامّ. مبرزة الكاتبة في المقدّمة أنّ هذه العناصر الثمانية التي تحاول من خلالها فهمَ الصين المعاصرة هي مرتكزات ضمن تحوّل دائم. لذلك تحرص الكاتبة على تتبّع هذه التغيرات التي تعيشها الصين، مبرزة في الأثناء أشكال التواصل والقطيعة التي يمليها سياق الحراك الدائم.

تسترعي انتباهنا في الصين الحديثة قضية التنوع العرقيّ التي طالما سبّبت اضطرابات عاصفة، ولذلك حرصت النظم المتعاقبة على تسوية المسألة بطرق شتى وأساليب متنوعة. واللافت أنه لم يمضِ على نحت مصطلح "الأمة الصينية" (زهونغهوا مينزو) أكثر من قرن، وقد أتى ذلك في نطاق تقليد السياقات الغربية إبان بحث الصين عن اجتراح إصلاحات لغرض تحقيق نهضتها. ولو شئنا العودة إلى مفهوم أصيل ضمن الواقع الثقافي الصيني، يُعبّر عن التكتل الحضاري، لقلنا "تيانكسيا" وهو ما يعني حرفيا "كل ما هو تحت السماء"، بما يشير إلى الفضاء الإمبراطوري الذي يُقيم فيه "ابن السماء" أو "المفوَّض السماويّ" (تيانزي). حيث يمثّل الإمبراطور عماد النظام الاجتماعي السياسي لِما يلعبه من دور رابط بين الأرض والسماء. بَيْد أن هذا التفويض السماوي ليس في المطلق، إذ يمكن للسماء أن تعبّر عن سخطها بوسائل شتى: فيضانات، زلازل، كوارث طبيعية وغيرها، فضلا عن الثورات الاجتماعية التي هي بمثابة نُذر من السماء للحاكم الأرضي المنحرف عن المبادئ الخُلقية.

لقد طُرحت مسألة التعددية في الصين بقوة منذ ما يناهز القرن ونصف القرن. فهناك واقع صيني متنوّع: لغوي وعرقي وديني، طَرح مع فترة الصين الحديثة سؤال كيف يمكن التعامل معه؟ ومنذ تأسيس جمهورية الصين بدأ الميل إلى تمكين جماعة الهان من الوصاية على مختلف القوميات الأخرى، وشكّلت عناصر القوة والبطش والإغراء أبرز السبل المعتمَدة. لكن في ظلّ هذا الإجحاف بقيت الصين تعوزها خطة واضحة مع القوميات الأخرى غير الهان. وإن كان المسعى العام مع حزب "غوميندانغ" القومي، قبل سيطرة ماو على السلطة، في "صَيْنَنة" الأقليات ودفعها لتبنّي لغة الأغلبية وعوائدها وفلسفتها. نجحت تلك السياسة إلى حدّ ما، لكنّها لم تسوّ المسألة بشكل نهائي نظرا لاعتمادها الإلزام لا الإقناع في التحول الاجتماعي، كما كان يقودها الحماس "القوموي" أكثر منه القبول والتسليم من الأطراف الأخرى. لم يحصل التطور الكبير في "تسوية" المسألة العرقية سوى مع الحقبة الماوية. ففي العام 1950 جرى تبني سياسة توزيع مكونات المجتمع الصيني إلى إثنيات ضمن صيغة مستلهَمَة من التجربة السوفييتية. تمَّ على إثرها توزيع المجتمع إلى 56 إثنية حضارية وثقافية ودينية. وتقريبا ينتمي عُشُر مجموع الشعب إلى 55 إثنية، وينتسب الباقون إلى أغلبية الهان. في الأثناء نشير إلى أنّ مفهوم التوزيع القومي في الصين، حتى اللحظة الاشتراكية، كان غائبا، فقد كان الأساس المعتمد وهو الشخصية الدينية الثقافية اللغوية بالأساس كمحدّد للتمايز. في حين ضمن التوزيع العرقي المعتمَد مع الحقبة الماوية فقد فازت بعض الانتماءات الدينية كالإسلام بحضور قانوني، وغابت أخرى على غرار الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية، التي بقي حضورها خارج التصنيف المعترف به. سوف تشهد أوضاع الصين الاجتماعية تحوّلًا في العقود اللاحقة، لتواجه تلك التقسيمات الإثنية بعض الارتباك من حيث مواكبة الواقع المتغيّر على مستوى ديني وثقافي، وهو ما سنرى نتائجه في ارتباك العلاقة الراهنة بين حاضرة الفاتيكان وجمهورية الصين الشعبية بشأن موضوع الكنيسة الكاثوليكية.

لقد بقي الشغل الشاغل للصين المعاصرة، على ما ترصد الكاتبة غاليللي، يدور حول تلمّس سُبل النهضة والازدهار. ولذلك تمحورَ الكتاب حول فهم القوة الحضارية التي تميز الصين المعاصرة من خلال معالجة مفاهيم التطور والتقدّم والازدهار وما تستبطنه من دلالات ضمن مسعى الصين لتحقيق ذلك الهدف. تستهلّ الكاتبة حديثها في هذا الموضوع بمقولة تُنْسَب إلى مينشيو، أحد شرّاح كونفشيوس، وتعتبرها تلخّص جوهر الاشتراكية الصينية الحالية، وهي "أنّ العالم ينبني على الدولة، والدولة تنبني على العائلة، والعائلة تنبني على الفرد". وهي بالفعل فحوى الاشتراكية كما تَمثّلها شي جين بينغ، التي تقوم على اثني عشر مبدأ أخلاقيا، يُراد لها أن تقود المجتمع الصيني نحو نهضته المنشودة، والتي تتوزع بدورها على ثلاثة مستويات أخلاقية بين الدولة والعائلة والفرد.

لقد مثّل استنهاضُ الشعب الصيني إيديولوجيا دائمة الحضور ضمن دغدغة الحسّ الوطني العام، وقد شكّل ذلك العنصر التعبويّ النفسي والوطني أحد العناصر الرئيسة في تحفيز المجتمع للسير صوب النهوض والتقدم، وذلك منذ اندلاع حرب الأفيون الأولى ضد إنجلترا وتكبّد الهزيمة ضدّ اليابان. إذ وظفت جمهورية الصين الشعبية في خطابها السياسي عنصر المواجهة للأجنبي، حتى باتت تلك اللحظات الحرجة عنوانا تعبويّا مألوفًا في الأدبيات السياسية الموسومة بـ "قرن الإذلال الوطني". أمسى تحقيق الازدهار مرادفًا لصنع المناعة الحضارية بقصد التوقي من خصوم الخارج. ففي التصور العام ليست الصين حضارة ناشئة بل حضارة تعود إلى ألوف السنين، ولا تقع في قلب العالم فحسب بل في صلب الحضارة أيضا، أو بالعبارة الصينية في جوهر "كل ما يقع تحت السماء" (تيانكسيا). فمنذ حصول ثورة "كسينهاي" وانهيار الإمبراطورية وقيام جمهورية الصين بين 1911 و 1912، مثّلت تلك الأحداث عودة للبحث عن دور حضاري تليد. وهو ما سيتعزّز في مرحلة لاحقة مع ثورة جمهورية الصين الشعبية بقيادة ماو تسي تونغ  بتلمّس نهوض حضاري مفقود، بوصفه السبيل لتحقيق الخلاص الوطني. فمنذ إعلان جمهورية الصين بدا واضحا سلوك طريق النهضة، بعد أن أمسى الشغل الشاغل للطبقة السياسية والنخبة الفكرية.

ومن هذا المأتى مثَّلَ تَنكّب سُبل الازدهار (فوكيانغ) هاجسا لصيقا بإيديولوجيا الدولة الصينية في عهد ماو ومع القيادات السياسية اللاحقة، وإن اتخذ هذا المسار نهجا اشتراكيا مع التغيير الجديد. أضحى الخطاب السياسي الرسمي متمحورا حول مشاغل جديدة أداتها الحزب، بعد أن قاوم المعتدي الخارجي الياباني ولاحق الفاسدين في الداخل من أنصار التوجه "الوطني" الذين وجدوا ملجأ في الانسحاب إلى تايوان. وما انفكّ هذان الحافزان موظّفيْنِ في البروباغندا الحزبية الراهنة. وقد لاقى النهج الثوري صدى في سنوات الثورة الأولى مع تماهي الصين مع قضايا العالم الثالث، ولا سيما مع تشكّل ما يشبه الجبهة التي ضمّت دول جنوب العالم الباحثة عن الاستقلال والتحرر من الهيمنة الغربية. وهو ما جعل الصين في ذلك العهد تطمح إلى تولي قيادة عالم الجنوب نحو الازدهار والتحرّر بعيدا عن الاستغلال الغربي. ازداد ذلك التحفز منذ أن شهدت الصين شيئًا من التباعد مع النهج الاشتراكي السوفييتي، لذلك مثّل مفهوم "الفوكيانغ" (الازدهار) في أواخر عهد ماو تجاوزًا للقوى العظمى المهيمنة على العالم، المتمثلة في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، على مستوى الإنتاج الصناعي وفي الآن نفسه العمل على بناء مجتمع اشتراكي عادل ومنصف، وهو ما كانت تطمح إليه بقوة للفوز بقيادة العالم الثالث صوب نهج التطور المنشود.

لكن ما إن حلّت حقبة دينغ شياو بينغ حتى شهدت الأجندة السياسية الصينية شيئا من التحوير، لم يغب عنها التطلع لبلوغ الازدهار المأمول. بدا اعتماد خط التصنيع الغربي جليا دون الانحراف قيد أنملة عن الهدف الاشتراكي، وإن برز ملفّ الديمقراطية وحقوق الإنسان محرجا ومقلقا. وما إن خطت الصين نحو الألفية الثالثة حتى وجدت نفسها تضاهي الدول الغربية وربما تفوق بعضها، من حيث معدلات الناتج القومي الخام، وعلى هذا الأساس دخلت نادي منظمة التجارة العالمية باقتدار حتى غدت تُصنّف ثاني قوة اقتصادية في العالم.

حاولت الصين المتطلّعة إلى بناء نهضتها الغائبة توظيف مختلف عناصر القوة الناعمة، مقتنعة أن القوة الجارحة وحدها لا تفي بتحقيق ذلك الطموح. وفي مسعى لتهدئة الهلع العالمي من الخطر الأصفر، الذي تؤججه الدعاية الغربية، عملت الصين على إنشاء ما أمكن من المراكز الثقافية المعروفة باسم المعهد الكونفشيوشي في الجامعات الغربية. تعمل ضمن مهمة رئيسة متمثلة في نشر اللغة والآداب والثقافة الصينية والعرض المسالم للروح الصينية، بما يساعد على تمتين عرى التواصل بين الصين ومختلف دول العالم. تراجع الحديث عن الخطر الأصفر في الإعلام الغربي بعد أن أمسى حضور الصين واقعا ملموسا في الحياة الاقتصادية لعديد البلدان. والملاحظ في سياسة الصين، على ما ترصد الكاتبة غاليللي، أنها تتغاير بحسب الفضاءات الحضارية. فمن جانب تسعى الصين لمنافسة الكبار المتحكمين باقتصاد العالم ولتكون المحاوِر الندّي لأمريكا وأوروبا؛ ومن جانب آخر تتبنى قضايا عالم الجنوب وتسعى لتكون صوت كتلة معتبَرة في السياسة الدولية. أكسبت هذه السياسة المزدوجة الصين حضورًا ونفوذًا بين الطرفين. وعلى ما تُلخّص به الكاتبة المسار الصيني، تذهب إلى أنّ الصين مع ماو تسي تونغ قد قامت على ساقيها، ومع دينغ شياو بينغ عزّزت من مقومات ازدهارها، لتبلغ مع شي جين بينغ مستوى القوة والمناعة. ولذلك تشهد الصين في الوقت الحالي تحوّلا من بلد كبير (داغوو) إلى بلد منيع (كيانغو).

بقيت فلسفة التطور المتقدّم تقوم على الإيمان بأن التطوّر هو ظاهرة طبيعية لا تعرف التوقف، وأن من يحول دونها محكوم عليه بالانهزام لا محالة. ومن هذا الباب تطلعت الصين إلى إيجاد رؤية تجمع بين التقدم والتطور في آن، وهو الشكل الذي نظرت به إلى ماضيها ومستقبلها. لقد ترسّخ مفهوم النهضة الصينية في العهد الماوي من خلال التعويل على الذات وعلى الإمكانيات الذاتية في خوض ملحمة النهوض. وهو ما تمثّل في النظر للعمل كونه ليس سلعة تباع بمقابل، بل هو حق وواجب، وهو ما تطور في فترة ما بعد ماو بوصفه حالة للتطور والازدهار.

وما إن وَلجت الصين الألفية الثالثة حتى رفعت شعار "التطور هو الحقيقة الوحيدة الصلبة"، بمعنى أن التطور هو السند الرئيس للاستقرار الاجتماعي، وهدفت من وراء ذلك إلى بلوغ مرحلة "التطور النوعي" وهو ما تعيشه في الظرف الراهن الذي ترنو فيه إلى بلوغ مراتب عليا في التصنيع الاستراتيجي في قطاعات الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، وصناعة الأدوية البيو.

لم تُبعد تلك الإنجازات الباهرة الصين عن خطها الاشتراكي المعهود. صاغ دينغ شياو بينغ فحوى التمايز بين الرأسمالية والاشتراكية قائلا: "لا يتلخص الاختلاف الجوهري بين الاشتراكية والرأسمالية في الأهمية التي تُولَى إلى التخطيط أو إلى قوى السوق. فالاقتصاد التخطيطي ليس اشتراكية، لأنّ الرأسمالية بدورها لها مخططاتها، وليس اقتصاد السوق فحوى الرأسمالية، لأن الاقتصاد الاشتراكي بدوره له أسواقه أيضا، فالتخطيط والسوق كلاهما وسيلتان اقتصاديتان لا غير. إن جوهر الاشتراكية يتمثل في تحرير القوى المنتجة وتطويرها، وإلغاء الاستغلال والاستقطاب لبلوغ الازدهار العمومي". ولكن هذا الازدهار ضمن المنظور الصيني، كما تبيّنُ غاليللي، أساسه "الانسجام"، والانسجام هو مصطلح ضارب في القدم في الثقافة الصينية ويعود إلى بدايات الكونفشيوسية. جرت استعادة المصطلح في الخطاب السياسي الصيني مع العشرية الأخيرة من خلال الدعوة إلى المجتمع المنسجم (هيكسي شيهوي) أي المجتمع القائم على الديمقراطية والحقوق. ويتطور هذا الانسجام وفق المنظور الصيني ليبلغ مستوى متقدما بغرض تحقيق التآلف بين الإنسان وسائر مكونات الطبيعة وهو ما يهدف إلى خلق حضارة إيكولوجية.

سنة 2012 رفع الحزب الشيوعي الصيني شعار خمسة منجزات حضارية في منجز واحد، والمراد بها المنجز الاقتصادي، والمنجز الثقافي، والمنجز السياسي، والمنجز الاجتماعي وفي الأخير المنجز الإيكولوجي. تُعتَبر هذه العناصر ملخّص المسار الحضاري الصيني الهادف إلى بلوغ "الحضارة الروحية" جنب "الحضارة المادية"، وذلك كردّ ضمني على المفهوم الغربي ذي البعد الواحد.

 

الكتاب: الصين المعاصرة في ثماني كلمات

تأليف: بياتريشي غاليللي.

الناشر: إيل مولينو (مدينة بولونيا-إيطاليا) "باللغة الإيطالية".

سنة النشر: 2021.

عدد الصفحات: 191 ص.

أخبار ذات صلة