فهدٌ أسود: قصة حياة رءوبين أبرجيل

فهد أسود.jpg

تمار فيرتا- زهافي

أحمد أشقر

تعتبر السيرة الذاتية مصدراً هاماً من مصادر التأريخ والتاريخ، لأنَّ معاصري وصنّاع الأحداث التاريخية هم أفضل كُتّابها وشُرّاحها، والكتاب الذي بين أيدينا هو واحد من هذه المصادر الغائبة عادة ضمن الأدبيات العربيّة التي قلما تنقل ما يُحيط بإسرائيل ويجري فيها من أحداث داخلية، ولا يعتبرها علم التأريخ والاجتماع العربيّين والسياسيين ذات أهمية كبرى.

يعتبر (رءوبين) أو (روبين)- كما يناديه معارفه والناس- واحدا من أهم مؤسسي وقيادات حركة الفهود السود التي نظمّت احتجاجات اليهود الشرقيين ضدّ سياسة دولة إسرائيل الأشكنازية في سنة 1971. والكتاب المشار إليه يتحدث عن سيرة (روبين) ومواقفه بدقة بالغة في قالب أدبي يشبه الروايات التسجيليّة. وسأقوم بعرضه عن طريق تحقيبه إلى فترات ومحطات تاريخية مختلفة يبرز فيها الصراع الإثني في (إسرائيل) مُعلقاً عليها وشارحاً لها بناء على معرفتي بهذا الصراع الذي اطلعت على أدبياته منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي.

 

(دي. دي. تي) في حيفا

يتذكر الطفل (روبين) المولود في الرباط سنة 1946 حياة مستقرة دون توترات مع جيرانه العرب، حيث كان والده يعمل في صيانة بيوت الفرنسيين، إضافة لكونه من رواد الحفلات التي كانت تقيمها زهرة الفاسيّة، مطربة يهودية كانت تغني في قصر الملك محمد الخامس. وعرف صدفة أن عمته (أستاريا)، عضوة في حركة صهيونية سريّة رتبت أمر هجرة العائلة (واليهود) إلى فلسطين. وتم نقلهم سرّاً من الرباط إلى الجزائر، وفيها التقى لأول مرة بمندوبي الوكالة اليهودية الذين تحدثوا مع والده "بقلّة أدب". دام الانتظار في الجزائر أكثر من سنة (ص 9- 39). وفيما بعد في (إسرائيل) ستتحول زهرة الفاسيّة إلى رمز مركزي في أدب اليهود المغاربة، تحديداً عند الشاعر (إيريز بيطون) الذي تعرف عليه (روبين) في خضم احتجاجات حركة "الفهود السود".

ومن الجزائر تم نقلهم إلى (تولوز) بفرنسا لجلبهم فيما بعد إلى "الأرض المقدسة". وهناك جاءت فلّاحة فرنسيّة عرضت على اليهوديات العمل معها في قطاف الأرضي شوكي. رفضت النساء إلا والدة (روبين) قائلة "يجب شراء أحذية وملابس للأبناء". ورغم معارضة زوجها، بدأت (أم روبين) بالعمل خارج المنزل لأول مرة في حياتها (ص 40- 46). ما حدث لـ(أم روبين) في (تولوز) مقدمة لما سيحدث لجميع المهاجرات الشرقيات في فلسطين. مع الوقت تحوّل المصطلح: "مَرُّكِّويّة"، أي امرأة مغربية (وضيعة)، إلى شتيمة بين العرب واليهود في فلسطين.

تم نقلهم من (تولوز) إلى ميناء (مارسيه)، وبعدها إلى ميناء حيفا. قبل نزولهم من الباخرة ارتدت عائلة (روبين) ملابس العيد. لكن فرحتهم بالوصول إلى "التراب المقدس" لم تدم سوى لحظات داهمهم بعدها رجلان يلبسان ملابس بيضاء ورشّوهما بمادة بيضاء. كان ذلك في أيار سنة 1950 (ص 47- 51). فيما بعد عَرَف المهاجرون اليهود أن هذه المادة عبارة عن مبيد حشرات يدعى (دي. دي. تي)، سيتحول فيما بعد إلى علامة على احتقار الصهيونيّة الأشكنازية لليهود الشرقيين.

 

في المصرارة

تم شحن العائلة من ميناء حيفا إلى مستعمرة (برديس حانه) إلى الجنوب من حيفا، وإسكانهم في معسكر مؤقت يدعى (معبراه). هناك صُدم المهاجرون من تدني مستويات العيش، والسكن والخدمات العامة إلى درجة "رغبة بعضهم بالتقيؤ"، فالأرض المقدسة بدت لهم "جهنم". اضطر الرجال للعمل في المياومات الشاقة التي لم يعهدوها في المغرب بما فيهم (أبو روبين) الذي بدأ يعمل بتعبيد الطرق. من (المعبراه) تم "تهريب" العائلة إلى حيّ المصرارة في القدس وتوطينهم في بيوت اللاجئين العرب. حينها علّق (روبين) متسائلاً: "في البداية هربنا من المغاربة، بعدها من الجزائريين، بعد ذلك من الفرنسيين والآن من اليهود الإسرائيليين... هل كلهم أعداؤنا؟ ماذا فعلنا لهم؟". أفرغتهم الشاحنة في المصرارة أمام منزل لعائلة عربيّة تم طردها أثناء حرب 1948، وسرعان ما فهموا أن المصرارة عبارة عن مركز دفاع عن مركز المدينة [الأشكنازي]. فيها أُسكنت العائلة في غرفة واحدة ببيت مكون من طابقين أُسكنت فيه عدة عائلات. في هذه المرحلة، اضطر الطفل (روبين) ابن السابعة لبيع طوابع البريد التي جمعها في المغرب وشراء بعض الكتب خبأها في زاوية ببيت عربيّ مهجور. وعندما اكتشف مدير مدرسته "مكتبة" (روبين) ضربه لأنه اعتقد أنه سرق الكتب. هرب (روبين) من المدرسة ولم يعد إليها. في المصرارة تم جزّ شعره ورَهَمت الممرضة رأسه بمادة حارقة ضد الحزاز "أكثر إيلاما من لسعة مليون نحلة"، ثم قام "سفاحون" ووضعوا رأسه داخل قبعة (ص 52- 74). هنا بدأ (روبين) والشرقيون يدركون أن جنة الصهيونية الموعودة في فلسطين تحولت إلى "جهنم". وأُضيفت قضية رهم رؤوسهم بمادة ضد الحزاز إلى حادثة رشّهّم بالـ(دي. دي. تي) في حيفا. كان بقاؤهم في المصرارة 4- 5 سنوات عبارة عن تثبيت حالهم ومكانتهم في السُّلم الاجتماعي الاقتصادي تحت مستوى الأشكناز. فيما بعد أسكنتهم الدولة في أحياء ومستعمرات ثابتة في جنوب شرق وشمال فلسطين كي يكونوا بمواجهة دائمة مع العرب- كما سنرى لاحقاً.

"

مثلما عاملونا هناك... [في ألمانيا النازيّة"]

اضطر (روبين) ووالدته للعمل في بيوت أغنياء الأشكناز، الذين نظروا إليهما بعين الشكّ والريبة. ولم يمكنهما الأجر الضئيل الذي تقاضياه من شراء طعام كافٍ للأسرة، لذا كان ينام أفرادها جياعاً. كان مولعاً بقراءة (تشارلز ديكينز) الذي تحدث عن الفقر في لندن أواسط القرن التاسع عشر. حين بلغ (روبين) الثانية عشرة من عمره، كان يعمل في كل شيء ممكن أن يُربح فلساً لمساعدة العائلة. نتيجة لاعتقالاته المتكررة تم إرساله إلى العاملة الاجتماعية (ليئه هولتسر) التي كتبت أنها ستفعل كل ما في وسعها كي لا يتم إدخاله إلى سجن الفتيان الجنائيين. (هولتسر)، الناجية من المحرقة النازيّة، تعاطفت مع (روبين) وكشفت له أنها عوملت مثله في ألمانيا النازية، وكتبت في ملفه ما يلي: "إذا واصلتُ الحديث مع ر. أبرجيل سأتمكن من كتابة بحث قيّم ينفي ادعاءات عميد كليّة التربية في الجامعة. أنا متأكدة أنه لم يتحدث مع فتى ممن يكتب عنهم. أنا متأكدة أنه لم يسمعهم. لم يُصغِ لهم. لم يولدوا أقل ذكاءً ونجاحاً من الأولاد الآخرين. هناك من اهتم لجعلهم هكذا". وقالت ذات مرة: "نعاملُ [الدولة] القادمين من الدول العربية مثلما عاملونا هناك... [في ألمانيا النازية]. عندما تيقنت أخته الكبرى (أوديت) أن بقاءَ أخيها في المصرارة واعتقالاته المتكررة من قبل الشرطة ستؤدي به إلى السجن وعالم الإجرام، تم إرساله إلى (كيبوتس) ليحظى برعاية أفضل (ص 94- 164). هذه المحطات وإن كانت مكثفة فإنها هي التي صاغت وعي (روبين) إلى يومنا الراهن، وأفهمته أن دولة إسرائيل مكونة من الأسياد الأشكناز والعبيد الشرقيين، ومن أجل القضاء على هذه الوضعية يجب على الشرقيين أن يخوضوا صراعهم ضد الأشكناز.

 

عصيان وادي الصليب

في (8. 7. 1959) اندلعت مظاهرات من قبل مهاجرين يهود أسكنتهم إسرائيل في حيّ وادي الصليب العربي بحيفا، احتجاجاً على البؤس والجوع. سرعان ما انتشرت وتوسعت إلى مناطق أخرى، وفي المصرارة اندلعت مواجهات مع الشرطة لم تكن بمستوى عنف وادي الصليب، كان (روبين) أحد محركيها (ص 165- 169). نتيجة لهذا العصيان قامت الدولة ببعض الإصلاحات لحالهم، الذي لا يزال يشكل المحطة الأولى من محطات الصراع الإثني في إسرائيل.

 

حركة الفهود السود

بعد عدوان حزيران 1967 واحتلال القدس سارع (روبين) لزيارة صديقه القديم إسماعيل بيتوني الذي افتتح فيما بعد هو وعائلته ثلاثة مقاهٍ فأصبح زبوناً دائماً عندهم، وسرعان ما دخل عامل آخر على الصراع الأشكنازي- الشرقي، وهو العمال العرب الذين بدأ المشغلون الأشكناز يستخدمونهم بأجر أقل من أجر اليهودي الشرقي. عندما تزوج (روبين) من (رينا) سكنا في تخشيبة بالمصرارة فساعده إسماعيل بماله وعمل أصدقاؤه بفتح بسطة تعتاش منها عائلته. بعد ثلاث سنوات بدأت الدولة ببيع بيوت المصرارة العربية للمقاولين وتجار العقارات اليهود فطردت عشرات العائلات الشرقية منها. فهم (روبين) وأمثاله أن مصيرهم الطرد من المصرارة التي انطلقت منها أول مظاهرة احتجاج للفهود السود في (3. 3. 1971) قالت عنها الشرطة أن هذه الاحتجاجات ستوحد أحياء ومستعمرات الفقر في الدولة، وهذا ما حصل. كان (روبين) أحد منظميها وعضو وفد الحركة الذي اجتمع برئيسة الحكومة (جولدا مئير)، التي وصفتهم بأنهم "مش لطفاء" فأصبح هذا الوصف ماثلاً في الأدبيات عن الفهود السود. وفي (8. 5. 1971) اندلعت موجة احتجاجات ثانية شاركت فيها مجاميع أخرى تضامناً معهم. واجهت الشرطة هذه الأحداث مثل عصيان وادي الصليب بالقمع والاعتقالات ومطاردة النشطاء. وبسبب الجوع قامت مجموعات من الفهود السود بـ"سرقة" الحليب والخبز من الحوانيت والمخابز لتوزيعها على الجياع من الشرقيين (ص 170- 245). بعد هذه الاحتجاجات عملت الدولة على بعض الإصلاحات إلا أنها لم تكن كافية لأن الفروقات بين الأشكناز والشرقيين باتت بنيوّية. في بحثه "ليسوا فاشلين بل مُفشلين: الشرقيون والأشكناز في إسرائيل"- تحليل اجتماعي ومحادثات مع نشطاء وناشطات، 1981 يؤكد الباحث (شلومو سفيرسكي)، أن في إسرائيل ثلاثة مسارات منفصلة تحددها بُنية لا يمكن اختراقها تبدأ من الأسفل: العرب، ثم الشرقيون، والأشكناز الذين يسيطرون على الثروات.

 

محاولة القضاء على (روبين)

بعد تلك الأحداث عاش (روبين) "سبع سنوات سِمان". تبعتها "السبع العجاف" بعدما اعتقلته الشرطة (وثلاثة من إخوته، حيث قضت المحكمة بسجنهم عدة سنوات). وبالنتيجة تم إبعاده إلى حيفا لمدة سنة، فخرج من هذه التجربة محطماً يرتاب منه كل من يراه من الشرقيين ومدمناً على المخدرات فُطِم عنها أثناء رحلة علاج بفرنسا. ولا يزال يعيش في القدس، حيث يحاضر عن النضال الشرقي ويساعد أصدقاءه بحلّ مشاكلهم اليومية (ص 246- 271). استخدمت الدولة ضدهم سلاح الملفات الجنائية لغالبيّة أبناء الجيلين الأول والثاني منهم، مما حرمهم من الاندماج والعمل في مؤسساتها.

 

عرب ضد العرب

لا تزال الصهيونية تدعي إقامة دولة إسرائيل وطناً لكل يهود العالم. لذا يُطرح السؤال: لماذا لا تزال الدولة الأشكنازية تعاملهم على هذا النحو؟

بات واضحاً من مذكرات رواد الصهيونية وإسرائيل أن "اليهود العرب"- كما يسمونهم- لم يكونوا في الحسابات الصهيونية قبل محرقة اليهود في الحرب العالميّة الثانية. لكن بعدها تم استجلابهم على عجل دون استعداد وإعداد مسبقين. وحتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي تم التعبير عن هذه الحالة بنوادر شعبيّة مثل: أحضروا العراقيين كقطع غيار للغربيين، والمغاربة للعراقيين، واليمنيين للعراقيين، والأثيوبيين لليمنيين.

 

تم توطين اليهود الشرقيين في المناطق المحاذية لأحياء عرب 48 في القدس ويافا واللد والرملة، والمستعمرات المحاذية لقطاع غزة في الجنوب، وغور الأردن والجليل الأعلى. ويوضح أحد أبرز منظري الفهود السود (كوخافي شيميش) السبب بقوله: "يشكل الشرقيون رافعة معادية للعرب. إذا كان الجزء الأكبر من ميزانية الدولة موجهاً إلى الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني والدول العربيّة، فمن الواضح أن الكثير من أبناء الشبيبة وسكان الضواحي [اليهود الشرقيين] سيحاولون الاندماج في المؤسسة الأمنيّة. وبالفعل، يخدم الكثير من الشرقيين في الجيش والشرطة كضبّاط أو في الخدمة الدائمة في الشرطة، وفي مصلحة السجون و'المؤسسات الأمنيّة'. من يتابع هذا الملف يمكنه ملاحظة ما يلي: في الستينيات كان اليهود الشرقيون في منطقة مستعمرات غور الأردن هدفاً لعمليات الفدائيين الذين تسللوا من الأردن، وفي الثمانينيات- التسعينيات هدف المقاومة من لبنان في الجليل الأعلى، وبعد الانسحاب من غزة سنة 2005 تحولوا إلى هدف صواريخ المقاومة من غزة. بدا هذا أكثر وضوحاً في المواجهة الأخيرة (10- 21 أيار 2021) عندما كثفت المقاومة قصف مستوطنات جنوب فلسطين بالصواريخ الأمر الذي اعتبره المحللون الإسرائيليون أكثر النقاط ضعفاً في الجبهة الداخلية للكيان.

تقول الباحثة اليهودية العراقية (حبيبة شوحط) أن العرب هم الضحايا المركزيون للنكبة وأن اليهود الشرقيين هم الضحايا الثانويون لها. قمعتهم الصهيونية الأشكنازية فأقصت اليهود العرب منها، من خلال القضاء على الثقافة الشرقية اليهودية. وهنا يُطرح سؤال: لماذا لم يتفق العرب والشرقيون على نضال مشترك ضد المؤسسة الأشكنازية؟

في سبعينيات القرن الماضي أوكلت (م. ت. ف) ملف اليهود الشرقيين إلى محمود عبّاس (أبو مازن) الذي أصبح فيما بعد، رئيس السلطة الفلسطينيّة، وفقط! أما عرب 48 فقد سيطر الحزب الشيوعي الإسرائيلي على ضبط إيقاعهم السياسي (النضالي)، الذي اعتبر الصراع طبقيّاً وليس إثنيّاً. فيما بعد ضمّ إلى قائمته الانتخابية بعض الشرقيين، وفقط! (روبين) شخصيّاً غاضب جداً على القيادات العربية لأنها لم تتجاوز القيادة اليهودية الأشكنازية في الحزب الشيوعي، وفي الذكرى الستين للنكبة، سنة 2008، أصدر بياناً طالب فيه إعادة اللاجئين العرب إلى فلسطين، وإعادة المجلوبين اليهود الشرقيين إلى أوطانهم العربية، عندها سيعود اليهود الأشكناز إلى أوطانهم، ونبقى نحن العرب واليهود العرب في البلاد لبناء حياة جديدة- كما يؤكد دائماً.

 

الكتاب: فهدٌ أسود: قصة حياة رءوبين أبرجيل

الكاتبة: تمار فيرتا- زهافي

دار النشر: الكيبوتس الموحد

سنة النشر: 2020

عدد الصفحات: 27 صفحة في العبريّة

أخبار ذات صلة