القيادة الاستثنائية اليومية: كيف تحدث فرقا بعيدا عن اللقب، والدور، والسلطة

القيادة الاستثنائية اليومية.jpg

جيمس كوزيس وبيري بوسنير

فينان نبيل / كاتبة وباحثة مصرية

 

 يتصدر الرؤساء، والوزراء، وقادة الغزوات التاريخية والثورات، والقادة العسكريون، وقادة حركات التغيير العالمية، والمخترعون، والحاصلون على جوائز عالمية قوائم أعظم خمسين قائدًا في العالم، فهل يعني هذا أن الأفراد العاديين لا يصلحون لأن يكونوا قادة؟ هذا ما يجيب عليه المؤلف في كتابه، "القيادة ليست منصبا"، الذي جمع  فيه بيانات من الملايين حول العالم، أكد من خلالها أن هناك قادة في كل مكان، ومجال وتخصص، من الكبار والصغار، والرجال والنساء، من كل عرق وقطاع ثقافي، وأن القادة لا يتواجدون على رؤوس المؤسسات والمنظمات وفي خطوطها الأمامية فحسب، بل هناك قادة خارج المؤسسات الرسمية وعلى كل المستويات المتوسطة والدنيا، وفي المؤسسات الاجتماعية، والنوادي، والأسر. يمكنك أن تحصل على لقب مدير، أو رئيس، ويكون لديك مرؤوسون يقدمون لك التقارير، بينما القيادة أمر لا يكتسب بمكانك داخل مؤسسة ما، إنما تكتسبه من سلوكك وتصرفك، ومن علاقاتك بمن حولك وعلاقتهم بك؛ القيادة ليست نقطة الصفر في المستوى الهرمي، فهي ليست رتبة، أو مركز قوة ونفوذ؛ ففي القاموس تشتق القيادة من "التوجيه" وهو محور القيادة، وتعني إرشاد الآخرين ممن يبحثون عن الإرشاد.  

أجريت دراسة عالمية على أكثر من خمسة وثلاثين ألف شخص، وتم سؤالهم عمن يشكل لهم القدوة في حياتهم، فاختارت الفئة العمرية الأقل من خمسة وعشرين عامًا أحد أفراد الأسرة، يليه المعلم أو المشرف المباشر، بينما اختار من هم فوق خمسة وستين عاما، المشرفين في العمل، وآخرون اختاروا زملاء العمل. شكلت هذه الفئات إجمالاً أكثر من ثلاثة أرباع جميع الردود، ولم تتجاوز الفئة التي اختارت فئات قادة الأعمال، والمجتمع، والزعيم السياسي، والقائد الديني، والممثل أو الفنان، والمهني، والرياضي نسبة 16%. هذا النمط من الاختيار مستقر نسبيًا عبر الجنسين، والمجموعات العرقية، والمستويات التعليمية، والصناعات، والمهن، وحتى المستويات الهرمية.

تأتي أهمية النتائج كونها تشير إلى أن نموذج القيادة للشباب، ليسوا شخصيات عامة؛ إنهم الأشخاص الذين تواصلوا معهم بشكل مباشر؛ فنجوم السينما، أو الرياضيون المحترفون، أو غيرهم من صانعي المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي ليسوا مصدرا للإلهام فيما يتعلق بشأن القيادة، فالشباب يتلمسون القيادة في الآباء، والمعلمين، والمدربين، ويبحثون عنهم كمثال في كيفية الاستجابة في التعامل مع الأزمات، أو المعضلات الأخلاقية،" فالقائد قد لا يكون شخصًا آخر؛ إنه أنت". ومن المرجح أن الاتصال المباشر يكون له تأثير في كيفية اختيار القائد، فقد تكون أنت نموذجا يحتذى به في القيادة لأقرب أشخاص إليك، أكثر مما يكون لشخص في قائمة لأفضل قادة في العالم.

كشفت النتائج أيضاً أنه في مؤسسات العمل قد يكون بين زملاء العمل نموذج يحتذى، أكثر مما تجده في قمة المنظمة من المشرفين، وقد يكون أكثر الأشخاص قدرة على التأثير في رغبتهم في البقاء، أو المغادرة، أو تغيير مسار حياتهم المهنية، وسلوكهم الأخلاقي، وقدرتهم على الأداء في أفضل حالاتهم، وتحفيزهم على المشاركة لخدمة رؤية المنظمة وقيمها.

تؤكد النماذج المختارة في القيادة على كافة المستويات، أن "القيادة علاقة" بين أولئك الذين يتطلعون إلى القيادة والذين يختارون اتباعها، بغض النظر عما إذا كانت علاقة رأس برأس، أو علاقة فردية بأطراف. فإذا كنت ستصبح قائدا يريد الآخرون اتباع توجيهاته عن طيب خاطر، يجب أن يكون هناك اتصال بشري يربطك بالآخرين. إن جودة هذه العلاقة هي التي ستحدد على المدى الطويل ما إذا كان الآخرون سيتبعون خطواتك أم لا، وإذا كنت تريد أن  تقود بشكل فعال،  وأن يتبعك الناس على مدار مشروع أو مسار وظيفي، فعليك فهم الصفات  والسلوكيات التي يبحث عنها الناس في القادة الذين سيتبعونهم؛ فالعلاقة بين الناس التي تتميز بالخوف، وعدم الثقة لن تنتج أبدًا أي شيء ذي قيمة دائمة، بينما العلاقة التي تتسم بالاحترام، والثقة المتبادلة ستتغلب على أكبر المحن وتترك إرثًا ذا أهمية. تهتم أي مناقشة للقيادة بديناميات هذه العلاقة، والاستراتيجيات والتكتيكات والمهارات والتقنيات تصبح فارغة دون فهم التطلعات الإنسانية الأساسية التي تربط الناس بقادتهم،والقادة بشعوبهم. الإنسان ليس مضطرا لاختيار أن يكون تابعا لشخص آخر، فما هو نوع الشخص الذي سيستمع إليه، ويأخذ منه النصيحة، ويتأثر به؟ لتكون الشخص الذي يريد الآخرون اتباعه طواعية وبحماس، يتطلب الأمر ضرورة  فهم التوقعات والاستجابة. تم إجراء استطلاعات روتينية على مدار الأربعين عاما الماضية حول القيم والسمات والخصائص الشخصية التي يشير إليها الأشخاص بأنها الأكثر أهمية بالنسبة لهم في الفرد الذي سيتبعونه، فشتان أن تتبع شخصا لأنه يجب عليك ذلك، وبين أن تتبع فردا لأنك تريد ذلك، المفتاح هو،عن "طيب خاطر".

أظهرت استجابات مائة وعشرين ألف شخص على مر السنوات أن الأشخاص يجتازون العديد من الاختبارات الشخصية الأساسية، قبل أن يتم اختيارهم قادة من قِبل أشخاص آخرين، ورغم الاختلافات الديموغرافية، والتنظيمية، أكد أغلب الأفراد أنهم يتبعون الفرد حينما يؤمنون أنه صادق نزيه، وجدير بالثقة، وذو شخصية أخلاقية بنسبة 87% . ظل ما يبحث الناس عنه في قادتهم ثابتا بمرور الوقت على الرغم من القوى المتغيرة باستمرار والتي تؤثر على الاقتصاد، والحياة الاجتماعية. أشار علماء النفس الاجتماعي، وخبراء الاتصالات أن القائد يعتبر "مصدرا" لتقييم مصادر المعلومات. إذا كنت ستطلب من الآخرين أن يتبعوك إلى مستقبل غير مؤكد، في رحلة تواجه  صعوبات، وربما تضحيات، فمن الضروري أن يؤمن الناس بك، يجب أن يكون الناس قادرين على تصديق أنه يمكن الوثوق بكلماتك، وأنك ستفعل ما تقوله، وأنك متحمس حقا للاتجاه الذي تتجه إليه المجموعة، وأن لديك المعرفة والمهارات اللازمة للقيادة. يقود هذا إلى القانون الأول للقيادة، إذا كان الناس لا يؤمنون بالرسول، فلن يصدقوا الرسالة،"المصداقية أساس القيادة".

الممارسات الخمس للقيادة النموذجية 

أجريت دراسات منذ الثمانينيات حول التجارب الشخصية لأفضل قادة لمجموعة من مختلف الجنسيات، والمؤسسات والخلفيات،ومستويات التعليم،من خلال مقابلات مع طلاب الجامعات، وأفراد في العمل، والمديرين المتوسطين في الشركات الكبيرة والصغيرة، والمتطوعين في المجتمع، والمديرين التنفيذيين حول الأوقات التي تفوقوا فيها في القيادة. عند تحليل آلاف من أفضل القصص الشخصية التي تم جمعها، ظهر درسان،الأول، تختلف تفاصيل القصص من شخص لآخر على أساس عدد لا يحصى من العوامل. الدرس الثاني، هو أن تصرفات وسلوكيات القادة عندما تكون في أفضل حالاتها متشابهة أكثر مما هي مختلفة. هناك مجموعة من السلوكيات الشائعة عالميا، وقد صمدت أمام اختبار الزمان والمكان. علاوة على ذلك، أثبت مئات العلماء المستقلين صحة ذلك في دراساتهم الخاصة التي تبحث في الدور المركزي الذي تلعبه القيادة في الرفاهية الشخصية، والإنتاجية التنظيمية، والفعالية، وأن القيادة المثالية موجودة في كل ركن من أركان العالم، وكل مجتمع، ومنظمة، وكل نوع من الأفراد. تم جمع السلوكيات المثلى للقادة في نظام تشغيل قيادي يسمى الممارسات الخمس للقيادة المثالية، وهي نمذجة الطريق، وإلهام رؤية مشتركة، وتحدي العملية، وتمكين الآخرين من العمل، وتشجيع القلب.

نمذجة الطريق : يكون القائد نموذجا للطريقة التي يٌمنح بها اللقب، وسلوكه هو ما يكسبه الاحترام، فيعلق أحد القادة "لم استطع إخبار أي شخص بما يجب فعله،كان علي أن أظهره لهم،كان علي أن أكون نموذجا يحتذى به للسلوك الذي أريده من الآخرين؛ فالقادة المثاليون يعلمون أنه إذا كانوا يريدون كسب احترام الناس من حولهم وتحقيق المعايير، يجب أن يكونوا نموذجا للسلوك الذي يتوقعونه من الآخرين.  يفهمون القيم التي يعتزون بها ويوضحونها، يتحدثون بصدق عن المعتقدات التي توجه قراراتهم، وإجراءاتهم، ويأخذون في اعتبارهم أن معتقداتهم ليست الوحيدة المهمة، فالقادة يتحدثون باسم المجموعة، والفريق، المنظمة، والمجتمع. 

استلهام رؤية مشتركة: يصف الناس تجاربهم الشخصية الأفضل في مجال القيادة على أنها أوقات تخيلوا فيها مستقبلًا مثيرًا وذا مغزى لأنفسهم وللآخرين، واستلهام رؤية مشتركة، ثم إبلاغها في شكل إجراءات للفريق، وإشعارهم أن الجميع  بحاجة إلى الالتزام بالرغبة في جعل الرؤية المشتركة حقيقة، كلما زاد تخيل القائد لما هو ممكن، تمكّن من وصف ما قد يخبئه المستقبل للجميع بشكل أكثر وضوحًا. ويجب أن يكون هناك هدف مشترك، يولد لديهم الرغبة في إنشاء شيء لم يبتكره أحد من قبل. كان لدى القادة المتميزين رؤى مستقبلية، وإيمان وثقة مطلقان بأن تلك التطلعات يمكن أن تصبح حقيقة واقعة . 

التحدي العملي، أكدت جميع حالات القيادة أنه لا يمكن تحقيق أفضل أداء في ظل الحفاظ على الأوضاع الراهنة، فقد أكد الجميع أنهم بحاجة دائمة إلى تغيير العمل المعتاد، ومناخه، من خلال إيجاد طرق دائمة للتجربة والتعلم. يعلم القادة أن الأشياء الكبيرة تتم دائما عن طريق القيام بالكثير من الأشياء الصغيرة. القادة في أفضل حالاتهم يخرجون إلى المجهول،ويبحثون باستمرار عن الفرص ويغتنمونها، ويأخذون بزمام المبادرة، ويتطلعون إلى إيجاد طرق مبتكرة لتحسين الأوضاع القائمة. التحدي هو بوتقة العظمة؛ إنه يوفر السياق الذي تتفاعل فيه العقبات مع الرؤية لصنع قيادات غير عادية كل يوم. القادة استباقيون، إلا أنهم ليسوا وحدهم منشئي البرامج أو الخدمات أو العمليات الجديدة، فالابتكار لديهم يأتي من الاستماع أكثر من التحدث. عند التحدي العملي، غالبًا ما تكون مساهمة القائد الأساسية هي الاعتراف بالأفكار الجيدة، ودعم تلك الأفكار، والاستعداد للتحدي للحصول على منتجات وعمليات وخدمات وأنظمة جديدة معتمدة. وجد الكاتب أيضا أنه في أفضل تجارب القيادة الشخصية  أن القادة يخاطرون، ويتعلمون من التجربة باستمرار.  

تمكين الآخرين: يُمكّن القادة الآخرين من تمثيل أنفسهم، فالأحلام الكبرى لا تصبح حقائق من خلال تصرفات الفرد. القادة في أفضل حالاتهم الشخصية، أظهروا تقديرهم لهذه الحقيقة بعبارات مثل: "كان من الضروري مراعاة وجهات نظر كل شخص والتأكد من أن القرارات اتخذها الفريق وليس القرارات الفردية ". المفتاح هو بناء العلاقات مع الأشخاص المطلوبين لمساعدتنا في تحقيق ذلك، ومنحهم المساحة لعرض وأداء عملهم". القيادة جهد جماعي، وليست أداءً منفردًا، ولعمل أشياء غير عادية  في المنظمات، يفخر القادة المثاليون بتعزيز التعاون من خلال بناء مناخ من الثقة وتسهيل العلاقات. يراعون احتياجات ومصالح الآخرين، إنهم يجمعون الناس معًا، ويخلقون جوَّا يفهم فيه الناس أن لديهم مصيرًا مشتركًا. 

تشجيع القلب:عندما يثق الناس بك، فإنهم يكونون أكثر استعدادا لتحمل المخاطر،وإجراء التغييرات، والحفاظ على الزخم الدافع للأمام، فيأتي تشجيع قلوبهم من أجل الصعود إلى قمة أي مسعى جديد مهما كان مليئا بالتحديات،وشاقا،ومنحدرا. وليس من المستبعد أن يصاب الناس بالإرهاق والإحباط، وخيبة الأمل. أشار القادة في أفضل تجاربهم الشخصية في القيادة إلى أنه يتعين عليهم تشجيع قلب أولئك الذين كانوا يعملون معهم خاصة عندما بدأوا يميلون إلى الاستسلام،فأكدوا أن "عليك أن تُظهر للناس أنك تهتم بهم كأشخاص وكيف أنهم قادرون على فعل الكثير مما يعتقدون ". يعد التشجيع والمديح هما أفضل الهدايا؛ لأن الناس بحاجة إلى الحصول عليها. يجب أن يشعرهم بالرعاية الحقيقية سواء في إيماءات درامية،أو أفعال بسيطة ترفع معنوياتهم وتحفزهم وتحافظ على حماسهم. إن إظهار التقدير للتميز الفردي ومساهمات الآخرين جزء أصيل من عمل القائد على مر السنوات. هناك الآلاف من الأمثلة على التقدير الفردي والاحتفال الجماعي، إنما تشجيع القلوب لا يتعلق بتنظيم الاحتفالات وتوزيع الجوائز لخلق شعور مصطنع من الصداقة الحميمة. الأمر يتعلق بخلق روح جماعية؛ إذ يُعد تشجيع الفريق أمرًا ذا قيمة لأنه يعزّز بشكل واضح ما هو مهم ويظهر تقديرك للإجراءات التي تدعم قيم الفريق، سواء أكان السعي لرفع معايير الجودة، أو التعافي من الكوارث، أو إجراء تغيير جذري من أي نوع، عندما تتم الاحتفالات والطقوس بأصالة ومن القلب، فإنك تبني إحساسًا قويًا بالهوية الجماعية وروح المجتمع .

لا تمثل ممارسات القيادة الخمس السابقة أيديولوجية، أو نظرية حول القيادة بقدر ما توفر نظام تشغيل لما تعنيه "ممارسة القيادة لإحداث فرق". الانخراط في أي من السلوكيات المرتبطة بالممارسات الخمس لا تتطلب شخصية معينة، أو خصائص ديموغرافية محددة، أو درجات تعليمية متقدمة. ربما لا تعتقد أنه يمكنك ممارسة القيادة ولا ترى نفسك كقائد ؛ بينما أنت تقود بالفعل، فعند تحليل الشخصية القيادية الأفضل، أكدت التجارب أن القيادة  مجموعة من السلوكيات والأفعال متاحة للجميع، القيادة ليست صفة صوفية، أو حكرا  لفئة خاصة من الأشخاص الكاريزمايين، إنها ليست جينًا أو صفة في الحمض النووي لقلة مباركة، إنها ليست سمة شخصية واحدة، أو موهبة فطرية خاصة يمتلكها بعض الناس ولا يمتلكها البعض الآخر، ليست قوة فردية؛ القيادة هي مجموعة من السلوكيات والأفعال المتاحة للجميع، فقد تكون قمت بدور القائد بالفعل دون أن تقصد، ربما لا تقود بشكل متكرر بما فيه الكفاية، لكنك تقود. 

 

عنوان الكتاب: القيادة الاستثنائية اليومية: كيف تحدث فرقا بعيدا عن اللقب، والدور، والسلطة.

المؤلف: جيمس . م. كوزيس وبيري . ز. بوسنير

الناشر: New Jersey : The Leadership Challenge

سنة النشر: 2021 

اللغة: الإنجليزية

أخبار ذات صلة