كتاب جماعي تحت إشراف: سفين بيرنيكر وأمي فلاوري وتوماس جروندمان
محمد الشيخ
دأب الكاتب النمساوي الشهير ميزيل على السخرية من ظاهرة تنامي "التقليعات الفلسفية" وتناسلها الغزير كالفطر، بترديد القول: "لكل مرسم دراسي جديد موضة/بدعة فلسفية مستحدثة". وبالفعل، قد يميل القارئ الذي يتناهى إلى سمعه مبحث فلسفي جديد بات يسمى "إبستمولوجيا [علم معرفة] الأخبار الزائفة" إلى التمثل بهذا القول المأثور. لكن، دعنا ننظر إلى الوجه المنير من القمر لا إلى وجهه الكالح، فنتذكر آنها أن مباحث الفلسفة منذ أن كانت الفلسفة فلسفة لم تبق أبد الدهر هي هي، بل تطورت في أطوار، وأننا صرنا إلى مباحث لم يعهد لها القدماء وجودا، ولا سمع عنها الوسطويون أخبارا، ولا خطرت على بال المحدثين بدءًا.
وما كان هذا المبحث الجديد الذي يعالجه كتابنا هذا بِدْعًا من ذلك. وقد أملته ضرورة العصر الذي نحن شاهدون عليه، والذي بات كاذب الأنباء فيه مضاهٍ، بله بازّ لصحيح الأخبار؛ لا سيما في زمن الوباء هذا الذي نعيشه. ومبحث "إبستمولوجيا الأخبار الزائفة" هذا يدخل في صلب ما سماه المشرفون على الكتاب باسم: "أمراض المعرفة الإبستمولوجية"؛ أي تلك الأعطاب التي تصيب طرائق اكتساب المعرفة وتحصيل مضامينها وبيان أوجه انتشارها. ذلك أنه بما أن لسائر الأمور البشرية وجها سليما ووجها سقيما، فما كانت سبل تحصيل المعرفة وطرائق انتشارها عن هذين الوجهين بمبعد؛ لا سيما في "عصر الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي والتقاطب السياسي". وقد باتت هذه الأعراض المَرَضية تدعو إلى ضرب من تكييف "الإبستمولوجيا الاجتماعية" ـ أي المبحث الناظر في العلاقة بين المعرفة والمجتمع ـ مع واقع انتشار الأخبار الزائفة على نحو بات يشكل خطرا على المعلومة الصحيحة.
وبغاية تجديد النظر في هذا المجال وتحوير مجال الإبستمولولجيا الاجتماعية حتى يتوافق مع الوضع الجديد ـ وكأني بها كانت لأصحاب الكتاب نبوءة ألمحية ألمعية بالمستقبل القريب ـ كان قد ائتلف نحو ثلاثين متدخلا من أهل الاختصاص في ميادين علم الاجتماع والفلسفة والقانون (يونيو 2018)، في مؤتمر استضافه مركز كولونيا (ألمانيا) للإبستمولوجيا المعاصرة والتقليد الكانطي، تحت رعاية مؤسسة ألسكندر هامبولت، كما أضيفت إلى مداخلاتهم لاحقا مداخلات أخرى من مختلف المنظورات والآفاق، للنظر في مبحث "إبستمولوجيا الأخبار الزائفة" الذي يختص بالنظر في ثلاثة أسئلة: 1- سؤال الماهية: ما الأخبار الزائفة؟ 2- سؤال اللِّمِيَّة: لِمَ تنتشر الأخبار الزائفة انتشار النار في الهشيم؟ وما هي الآليات التي تسرّع إنتاج الأخبار الزائفة وتيسر انتشارها؟ 3- سؤال الأيية: أَيُّ علاجات متوفرة ترياقا فعالا ضد الأخبار الزائفة؟ وتلك كانت هي الأسئلة التي تسعى أبواب هذا الكتاب إلى الإجابة عنها.
ما الأخبار الزائفة؟
ينطلق أصحاب هذا الكتاب من القناعة التالية: "الأخبار شأن مهم"، والديمقراطية بحاجة إلى أخبار مستقلة مبنية على وقائع بغاية توفير صوت لقطاع عريض من الناس، وبهدف مراقبة صاحب النفوذ والسلطة، وبغرض إطلاع أعضاء المجتمع على ما يروج فيه. فالأخبار تفيد هنا باعتبارها آلية من آليات المحاسبة الديمقراطية، وتنشئة المواطنين على المواقف والقيم الديمقراطية. وعندما تتوفر ثمة معايير معرفية (إبستمولوجية) للأخبار، فإن من شأن المواطنين أن يقتدروا على التصويت وهم على بَيِّنَة من أمرهم، وأن يُحمِّلوا المسؤولية إلى الرسميين، وأن يدعموا على نحو أفضل العمليات والقيم الديمقراطية.
والحال أن القيمة المعرفية للأخبار مرتهنة، بالأولى، بالحقيقة. إذ من شأن الأخبار الجيدة أن تكون دقيقة وموثوقة، وأن تصدر عن جهة معروفة ومسؤولة. على أن الكثير من الأخبار التي يتم إمطارنا بها يوميا لا تتوفر فيها هذه السمة: إذ ما كانت ذات قيمة من الناحية المعرفية ـ الإبستمولوجية ـ فلا هي دقيقة، ولا هي موثوقة، ولا هي مَعْزُوَّةٌ إلى جهة معروفة ومسؤولة. ذلك أن بيئتنا الإعلامية باتت "ملوثة" بالأخبار غير الدقيقة، بل الزائفة، بله المضللة. إذ ثمة الكثير من "أشباه الأخبار" ولا "أخبار" التي أمست رائجة، على نحو ما حدث في حملة أمريكا الانتخابية لعام 2016، وقد انتشرت لكسب المال أو لتضليل الجمهور. والأمر نفسه حدث في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي. أكثر من هذا، أهلت وسائط الاتصال الاجتماعية الحديثة، شأن فايسبوك، الأخبار غير الموثوقة ونظريات مؤامرة للبروز بحسبانها أدوات سياسية مهيمنة ...
كل هذا يدعو إلى التساؤل عما إذا كان سيل الأخبار غير الموثوقة الذي يغمرنا اليوم ظاهرة مستجدة أم قديمة. ومهما يكن من أمر، حتى لو أن لم تكن هذه الظاهرة بالجديدة كل الجدة، فإن تكنولوجيا الإعلام جعلت أمر انتشار الأخبار الزائفة يستفحل. وهناك عوامل عدة ساهمت في استفحال التهديد الذي تشكله الأخبار غير الموثوقة: أولا؛ ما قاد إليه الإنترنت من دَمَقْرَطَةِ إنتاج الأخبار؛ بحيث أمسى بإمكان أي كان من أفناء الناس أن ينشئ قناة إخبارية خاصة به. ولا حسيب ولا رقيب. ثانيها؛ في غياب المراقبة الفعلية، فإن مما طم الوادي على القرى أن نسبة المتتبعين صارت معيارا للأخبار وليست القيمة المعرفية لما تنشره هذه القنوات. ثالثها؛ تنشر هذه الوسائل ـ نظير تويتر ـ الأخبار على نحو أبعد مدى وأسرع انتشارا وأعمق تأثيرا مما تفعله وسائل بث الأخبار الصحيحة والموثوقة والأصيلة. رابعها؛ بات ثمة استهداف لجمهور مقصود وحصري (من حيث اهتماماته) بأنباء بعينها، وذلك بغاية خلق "جمهور معزول مخصوص" يعيش في "قوقعات" شعاره: لنا أخبارنا ولكم أخباركم. خامسها؛ على الرغم من أن ظاهر العصر الرقمي يدل على أنه عصر تعدد، فإن باطنه يشي عن أن التعدد فيه مفقود: ثمة وكالات بعينها وخدمات بذاتها تتحكم في نشر الأخبار نفسها بمسميات مختلفة. وأخيرا؛ هناك أفول للصحافة المحترفة تلقاء صعود ملفت للنظر للصحافة الهاوية ...
هذا ويطلق أصحاب الكتاب اسم "الأخبار الزائفة" على كل حالات الأخبار التي لا تستجيب، من الناحية المعرفية، إلى معايير النبأ الحق أو الموثوق به، والتي تفسد الأخبار وتلوثها. على أن ثمة العديد ممن اعترضوا على استعمال هذا المفهوم بِتِعِلَّةِ أنه معتل لسانيا؛ إذ الأصل ألا يطلق على الخبر الزائف اسم "خبر"، وإلا كان ثمة تناقض في الألفاظ. فهو تعبير دال على قلق في العبارة. ومن ثمة يلزم طرحه من الخطاب الأكاديمي. ويرد أصحاب الكتاب بأن العديد من المفاهيم وإن اعتراها ضرب من اللبس، فإن هذا لم يمنع من استخدامها أكاديميا؛ شأن ألفاظ "القاتل" و"المحتال" و"الكاذب" التي تحمل دلالة حكم قيمة؛ إذ لا يكون القاتل قاتلا ولا المحال محتالا ولا الكاذب كاذبا حتى يدان الإدانة النهائية ... فلماذا يستثنى مفهوم "الأخبار الزائفة" الدال على الأخبار المظنونة والمضللة حتى وإن استعمل أحيانا استعمالا سجاليا ودعائيا؟ ومهما يكن من أمر، فإن هذا الاعتراض لا يمنع من ضرورة الاعتقاد بأن عبارة "الأخبار الزائفة" صارت وسوف تظل التعبير الأكثر تداولا للدلالة على ظاهرة متنامية من التشاطر العمومي للمعلومة/الخبر غير الموثوقة أو المضللة.
ما الآليات التي تسرِّع إنتاج الأخبار الزائفة وتساهم في انتشارها؟
يجيب أصحاب الكتاب بأنَّ ثمة عوامل ثلاثة: 1- سمات تكنولوجيا التواصل. 2- الحيثيات الاجتماعية. 3- الإيديولوجيات الإبستيمية. من جهة أولى، ثمة منصات الأنترنت، شأن جوجل وياهو، التي تصنف الأنباء عبر خوارزميات مشغلات البحث. وفيها يختلط الغث بالسمين. بلا حسيب، وبلا رقيب. بل يتم ذلك أحيانا على حساب الصحيح. وهي آليات تكرس المعهود أحيانا والمألوف وما يطلبه الجمهور. ثم إن هناك وسائط التواصل، مثيل فايسبوك وتويتر، التي لا تترك وقتا للمتصفح حتى يشكل رأيا نقديا؛ بحيث يحدث التباس في فعل تشاطر الأنباء نفسه: أهو دعوة إلى الانتباه والحذر أم شهادة عليه وتصديق؟ ومن جهة ثانية؛ هناك الحيثيات الاجتماعية؛ إذ الناس ينتمون إلى بيئات تتميز باستقطاب شديد: جماعات هوية متقوقعة، درجة عالية من القلق والتوتر، إحساس قدري بفقد السيطرة على ما يجري، ميل إلى القول بأنه لا يوجد في القنافذ أملس إذ كل الأخبار سواسية. وتكون الضحية آنذاك هي الأخبار الصادرة عن "العدو السياسي" وعن "النخب" وعن "الجهات الرسمية" وعن "الحكومة" أو "المؤسسة" والتي يتم سحب الثقة منها. وتتكفل روح التداول الجمعي الحصري ونظريات المؤامرة بما ينبغي أن يعد من الأخبار موثوقا وما لا. وهو الأمر الذي قد يفرض طوقا وعزلة على مستهلكين بحيث يحرمهم من تصحيح ما تلقوه من زائف الأخبار. وثمة، من جهة ثالثة، ما يسميه مؤلفو الكتاب باسم "الإيديولوجيات الإبستيمية" التي تقدم المعايير التي تنظم أي أجزاء من الحجة يتوجب اعتبارها اعتبارا جادا وأي نوع ينبغي تجاهله. وفي هذا الأمر عدم مراعاة لا لمنح فرص متكافئة لكل الشهادات والتصديقات ولا للتسامح الفكري مع المخالِف بالإقبال على الآراء المبايِنة ومنحها تكافؤا في الاعتبار.
ما هي العلاجات المتوفرة ترياقا ضد الأخبار الزائفة؟
على فرض أن الأخبار ملوثة كلها بالمزيف، ما الذي يتعين فعله لحماية الفرد المستهلك من الوثوق بها عند تكوينه لرأيه؟ ثمة ثلاثة إجراءات: 1- يمكن تمرين المتلقي على التمييز بين الحقيقة والشبهة. وهو أمر مرتبط بالتفكير النقدي وبأدبيات الإعلام وبالمقدرة على اكتشاف التدليس. 2- يمكن توعية منتجي الأخبار ومذيعيها بإظهار المزيد من المسؤولية عما يقومون به. 3- يمكن فرض تشريعات وتنظيمات من لدن الحكومة ومن لدن المنتجين أنفسهم تتعلق بآداب نشر الأخبار.
بنية الكتاب وبحوثه الأساسية
تأسيسا على تلك الأسئلة الثلاثة، التي تشكل صلب إبستمولوجيا الأخبار الزائفة أو علم معرفة الأخبار وبيان قيمتها المعرفية، تبوب الكتاب ثلاثة أبواب: دار الباب الأول على سؤال الماهية: ما الأنباء الزائفة؟ وعلى عوالقه شأن نظرية المؤامرة. وناقش الباب الثاني مختلف الممارسات التي تنشأ عنها الأخبار الزائفة أو تنتشر بدءا منها. وتم تخصيص الباب الثالث للترياقات الممكنة ضد الأخبار الزائفة.
من أهم بحوث الباب الأول بحث ورد تحت عنوان: "الحديث عن الأخبار الزائفة: تحديات وأبعاد" ذهب فيه صاحباه إلى أن الأخبار الزائفة هي تلك التي تفتقد إلى الحقية وإلى المصداقية. وقد عددا سبعة أبعاد تشكل جزءا من ظاهرة الأخبار الزائفة، ودعيا إلى إقامة معايير واضحة للحد منها، وإلى إصلاح ما أفسدته بإقامة معايير جوانية لفحص الأنباء وإذاعتها. أما البحث الثاني، "أخبار حسنة، أخبار سيئة، أخبار زائفة"، فقد راح صاحبه إلى أن "الأخبار الزائفة" ما كانت "أخبارا" على الحقيقة، ولا افتقدت هي إلى المصداقية فحسب، وإنما هي أخبار لا تستجيب إلى مطلب أن تكون تتقصد نقل أخبار دقيقة من الصنف الموثوق به. فالوصف "زائفة" يشير إلى قصدها التضليلي البيِّن. وقد دعا صاحب البحث إلى إنشاء مؤسسات ديمقراطية لتدبير أمر الأخبار الزائفة وفضحها، كما ذهب إلى ضرورة تطوير فضائل فكرية أو ذهنية لمقاومة هذا الجنس من الأخبار، وأن من شأن النزاهة الفكرية أن تعمل على كشفها الكشف. وفي بحثه "الأخبار الزائفة عن الأخبار الزائفة" ذهب المؤلف إلى أن استعمال المفهوم قد يكون مغرضا، بحيث قد يستعمله السياسيون من أصحاب النفوذ ضد خصومهم، بغاية تسفيه الخلاف الديمقراطي.
وفي بحوث الباب الثاني تم فحص آليات الأخبار الزائفة. وفي بحث مهم من هذا الباب تم فحص مسألة نظرية المؤامرة وإنكار نتائج العلم باستعمال منهج ظاهره علمي وباطنه لا يمت للعلم بأية صلة، في تحايل على العلم بشبيه العلم وما هو بعلم.
وقد أفردت مباحث الباب الثالث لهبَّة فحص كيفية تحسين وضعنا النقدي أمام هجمة الأخبار الزائفة. إذ نحن المسؤولون عن المخاطر المعرفية التي نكون عرضة لها عندما ننشر الأخبار التي تلقيناها عن طريق الإنترنت. وهنا يذهب بحث إلى التساؤل: كيف لشخص يحظى بالثقة من الناحية المعرفية أن يقاوم مخاطر حمله، حتى من دون وعي منه، لأخبار زائفة والمساهمة في إشاعتها، وذلك بما أنه بات من الصعب بمكان تبين أمرها بعد أن تشابهت الأنباء علينا؟ أم كيف يتعين عليه أن يتبين مسالك تشاطر الخبر المهم مع الغير تشاطرا آمنا، والحذر من الخبر الزائف ووضعه في ثلاجة؟ وفي نفس السياق يذهب بحث آخر إلى التفكير في وضع الأفراد وهم في بحر خضم من الأخبار الزائفة وقد تعيّن عليهم ضمان بيئة خبرية صحية للجميع؛ لا سيما ونحن نركب نفس السفينة وفي غرقها غرقنا. ويتمثل الجواب على هذا الإعضال في كلمة واحدة: التضامن. ذلك أن علينا أن نتضامن حتى نجعل النبأ الطيب يطرد النبأ الخبيث، تماما مثلما يحدث في حديقة. ومن بين هذه الطرائق طريقة الإعراض عن الأخبار. إذ تعد آلية الامتناع عن مطالعة الأخبار، في رأي أحد الباحثين، آلية فعالة في مقاومة الأخبار الضارة المضللة؛ فلنا ما يبرر التجاهل مؤقتا للأخبار، شريطة أن نكون قد وجدنا أنفسنا في خضم بيئة أخبار زائفة أو على الأقل نحسب ذلك، وقد عسر علينا تمييز الغث من الأخبار من السمين. ويكون في الحالين معا يقود استهلاكنا للأخبار إلى تكوين آراء فاسدة واعتقادات باطلة تمنعنا من بلوغ الأخبار الصحيحة. وهو الموقف الذي يتعارض مع رأي باحثة أخرى ترى أن الأخبار مهمة؛ بحيث لا يمكن الامتناع عنها ولو كانت البيئة موبوءة، كما يتناقض مع رأي باحثة أخرى تذهب إلى أن الآخرين مسؤوليتنا، وأن لنا دورا في شبكة الأخبار. ومهما تصرفت الأحوال، فإنَّ الباحثين يدعون إلى تشجيع تكوين شبكة أخبار تكون سليمة لا سقيمة وصحيحة لا مرضية.
عنوان الكتاب إبستمولوجيا الأخبار الزائفة
كتاب جماعي تحت إشراف: سفين بيرنيكر وأمي فلاوري وتوماس جروندمان
دار النشر مطابع جامعة أوكسفورد
سنة النشر 2021
