جو بايدن والكاثوليكية في الولايات المتحدة

جو بايدن والكاثوليكية.jpg

ماسيمو فاجولي

عزالدين عناية

تمثّل العلاقة بين اللاهوت والسياسة، والترابط بين الساحة القومية والساحة العالمية، أبرز محاور هذا الكتاب المعني بالشأنين الديني والسياسي في أمريكا. فعلى مدى المئتين وثلاثين سنة الأولى من تاريخ الولايات المتحدة، كانت الغالبية العظمى لجمهرة الرؤساء الأمريكيين متكوّنة من أعضاء في الكنائس المسيحية غير الكاثوليكية: الإبيسكوبالية والبريسبيتارية (المشيخية) والميتودية والمعمدانية. وضمن هذا السياق يمثّل جو بايدن الرئيس الكاثوليكي الثاني بعد الرئيس جون كينيدي الذي مرّ على اعتلائه كرسيّ الرئاسة ستون عامًا. فقد أثار انتخاب بايدن تساؤلات سياسية على إثر انتخابه بعد الرئيس السابق دونالد ترمب، وبالمثل أثار تساؤلات بشأن مذهبه الديني. فهناك كثيرون رأوا في بايدن رجلا مُخلّصا ذا مهمّة رسالية من أولوياته معالجة جراح أمريكا التي خلّفها ترمب. ففي كتاب صادر سنة 2005 بعنوان "المؤسّسة" من تأليف ماسيمو فرانكو، يتحدّث فيه عن "الإمبراطوريتين المتوازيتين" حاضرة الفاتيكان وأمريكا. ولكن ذلك التوازن بين الإمبراطوريتين عانى أثناء فترة إدارة ترمب من الخلل وسوء التفاهم، فهناك اختلاف جوهري بين رؤية البابا فرنسيس للعالم ورؤية ترمب "لنحافظ على عظمة أمريكا".

كتاب ماسيمو فاجولي الأستاذ في جامعة فيلانوفا بفيلاديلفيا، يقدّم شرحًا ضافيًا لمعنى انتخاب بايدن الكاثوليكي بالنسبة إلى تاريخ الكاثوليكية الأمريكية، ولِما يمكن أن تتمخّض عنه من آثار في الخيارات السياسية للرئيس. حيث يحاول فاجولي فهم أبعاد السيرة الدينية لبايدن، عبر مشواره السياسي، قَبل اعتلاء كرسي الرئاسة وأثناء تولي هذا المنصب واستشراف ما يمكن أن تسير الأمور نحوه. إذ يشكّل الانتماء للكاثوليكية بالنسبة إلى الرئيس بايدن ثقلا مضاعفا مُقارنة بالانتماء البروتستانتي. والطرافة في الانتماء الديني لبايدن، في المخيال العام الأمريكي، أنّه يمثّل انتماءً لكنيسة لطالما عُدّت الخصم والمناوئ للمشروع الأمريكي. ولم يكن بايدن ثاني رئيس كاثوليكي بعد كينيدي فحسب، بل رابع مرشَّح ضمن كوكبة المرشَّحين الكاثوليك (آل سميث 1928، كنيدي 1961، كيري 2004، بايدن 2021) لتولّي ذلك المنصب السياسي والديني أيضًا، في فترة انتقال دقيقة من تاريخ أمريكا المعاصر ومن تاريخ الكنيسة الكاثوليكية أيضا. والملاحظ أنّ الأربعة الذين ترشحوا للرئاسة عبر تاريخ أمريكا انتموا إلى الحزب الديمقراطي، وجمعيهم تميّزهم جذور كاثوليكية إيرلندية، تلك الكاثوليكية الاجتماعية المنادية بتجاوُز الإخلالات الاجتماعية، عبر الدعوة إلى ترسيخ قِيَم التكافل والتآزر باعتماد الخُلق الإنجيليّ.

إذ تُعتَبر المهمّة الرئاسية الأمريكية مضاعَفة حين يتعلّق الأمر بتولي كاثوليكي منصب الرئاسة، وبما يفوق من ينتمون إلى كنائس أخرى بروتستانتية. فقد أتى انتخاب بايدن في فترة بدت فيها أمريكا في حاجة ماسة إلى ترسيخ التعدّدية الدينية والثقافية، بعد أن تراجع ذلك التمشي التقليدي مع الرئيس الأسبق ترمب. وتتداخل مرحلة الرئيس الأمريكي الجديد مع ما يُعرف بأوضاع "الكاثوليكية المعولمة"، وما تقتضيه من إعادة نظر في ملفات عدّة تستوجب المعالجة ضمن طروحات جديدة، تتخطى المقاربات السياسية والدينية لِما قبل العولمة. صحيح يمكن فهم صعود بايدن الكاثوليكي بمثابة ردّ فعل غاضب على سياسة الرئيس السابق، وبوجه عام على ظاهرة ترمب. ولكن ضمن هذا الباب ثمة مراجعة لأمريكا كمشروع سياسي وأخلاقي في آن، وهو ما يضفي زخما مميزا على صعود الرئيس بايدن في الساحتين الأمريكية والعالمية.

إذ يلاحظ المتابع للشأن الأمريكي إبّان فترة الانتخابات جعْل بايدن من إيمانه الكاثوليكي عنصرًا بارزا في حملته الانتخابية لدى عرْض مشروعه السياسي، كما بيّن مرّة أخرى أنّ للكاثوليكية في الولايات المتحدة دورًا وحضورا في المشروع الأمريكي، وهو مشروع مركّب سياسي ومدني واجتماعي وثقافي. لكن ذلك الطرح يواجهه تساؤل عميق: فيما يتمثّل جوهر الإشكال الديني بين الكاثوليكية والبروتستانتية في أمريكا؟ ما من شك أنّ الفضاء الديني الأمريكي قد نشأ كفضاء حرّ وعلى تضادّ مع الفضاء الموجَّه في الغرب، اختاره المسيحيون الأمريكان كخيار تمرد يقف على نقيض "البابوية" في روما.

وصحيح شهدت العقود الأخيرة في أمريكا نوعًا من المصالحة مع الشخصية الكاثوليكية بوجه عام، حيث ظهر بايدن مع كمالا هاريس على غلاف "التايم" بوصفه شخصية العام، وقد سبق أن ظهر كينيدي سنة 1961، وظهر البابا يوحنا الثالث والعشرون سنة 1963، وظهر يوحنا بولس الثاني سنة 1994، وظهر البابا فرنسيس سنة 2013؛ ولكن هذا القبول لا يعني تسوية نهائية وتامة وإنما سيرا في طريق المصالحة المنشودة. ويعود المؤرخ البروتستانتي مارك نول في تفسيره لجذور الخلاف إلى أنّ "الغالبية العظمى من البروتستانت الأمريكان، كانت الكاثوليكية تبدو لديهم غريبة عن القيم السياسية الحقيقية وفي تضارب مع جوهر المسيحية" وذلك إلى حدود أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي.

كان التناقض حاصلًا بين الواقع الأمريكي والكنيسة الكاثوليكية جرّاء عدم القبول بالدمقْرَطَة المطروحة في الوسط الأمريكي، وبشأن آليات تسيير الكنيسة. وإلى حدود أواسط القرن العشرين كان الشعور المناهض للكاثوليكية جليا في الولايات المتحدة، وكان يُنْظر للقادم من الثقافة الكاثوليكية بعين الريبة، ولم يشهد هذا النفور تراجعا سوى بعد ظهور جملة من العوامل بدأت تتبلور منذ الحرب العالمية الثانية: مثل انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني، وظهور الحرب الباردة، واصطفاف الفاتيكان الجلي مع خيارات المعسكر الغربي. وبالمقابل تراجعت استراتيجية الكنيسة منذ العام 1908 لتغدوَ أمريكا ليست أرض تبشير بالكاثوليكية ضمن استراتيجيات "الكوريا الرومانية" (أعلى الهيئات السلطوية للكرسي الرسولي) وضمن "مؤسسة البروبغاندا فيدس" (هيئة التبشير العليا التابعة لحاضرة الفاتيكان). ولم تعرف العلاقات الأمريكية الفاتيكانية مستوى متطورا سوى مع العام 1984، رغم أن الفاتيكان يقف على مسافة من سياسة الدفاع الأمريكية ومن سياستها الخارجية. ورغم أن بعض الملفات لا زالت تحرج السياسي الأمريكي، على غرار التخوف من الهجرة المتأتية من جنوب القارة، التي غالبا ما اتخذت لونا دينيا كاثوليكيا، حيث أنّ التقديرات ترشّح الكنيسة الكاثوليكية لتكون أكبر كنيسة في أمريكا في القرن الواحد والعشرين، رغم النسق المتزايد لهجران الكنيسة. ولو شئنا تلخيص تاريخ العلاقات الأمريكية الفاتيكانية المعاصرة وتاريخ الثقافة والسياسة بين الطرفين لقلنا هو تاريخ متراوح بين الاقتراب والابتعاد.

في جانب آخر يبرز ماسيمو فاجولي أنّ من مظاهر الخصام المترسّخ بين الولايات المتحدة والفاتيكان ما يعود إلى ما يُعرف بقرارات "الصلابو" لبيوس التاسع 1864، الذي تضمّن إدانة مضمرة للحداثة والديمقراطية الأمريكية، وكذلك للفصل بين الدولة والكنيسة. وتطالعنا كذلك إدانة النهج الأمريكي في رسالة "Testem Benevolentiae" 1899 والمعروفة بـ "الهرطقة الأمريكية"، الصادرة عن البابا ليون الثالث عشر. فلا ننسى أنّ الكاثوليكية في أمريكا، طيلة القرن التاسع عشر، كانت تعيش على وقع الرعب الذي عاشته مع الثورة الفرنسية.

ما من شكّ أن مراجعات حصلت في الأوساط الكاثوليكية بشأن النظر إلى النموذج السياسي المجتمعي في أمريكا. وقد ساهم مجمع الفاتيكان الثاني في إخراج الكاثوليك من القبو الذين انحشروا فيه، تعزّز ذلك الصلح بين الكاثوليكية والديمقراطية الأمريكية مع صدور الدستور الرعائي "Gaudium et Spes" (الكنيسة في عالم اليوم/ "فرح ورجاء")، وكذلك مع إعلان "الكرامة الإنسانية" (Dignitatis Humanae) بشأن الحرية الدينية أثناء انعقاد مجمع الفاتيكان. ساهم كلّ ذلك في إخراج السياسيّين الأمريكان الكاثوليك من دائرة الظل، ويسّر حضورهم في الفضاء العمومي، ومن هذا الجانب شكّل انتخاب بايدن تطوّرا في مصالحة تاريخ الكاثوليكية الأمريكية والبحث عن تلاؤم بين الكنيسة والديمقراطية الأمريكية التعددية.

وعلى ما يرصد الكاتب ماسيمو فاجولي، صحيح بايدن كاثوليكي ورع، ولكنّه كاثوليكي متحرّر من النمط التقليدي. فعلى سبيل المثال يقف مع التغييرات التي تمسّ الشأن الأسري ذات الصلة بمسألة الإجهاض، حتى وإن كان من المواظبين على حضور القداس يوم الأحد. وهو ما جعل مناوئيه من الكاثوليك المحافظين يلوّحون بحجب "الكومونيون" (الاندماج في الجسد الكنسي) عنه، بوصفه متنكرا لمبادئ الكاثوليكية. وتاريخيا ينتمي بايدن (من مواليد 1942) إلى "الكاثوليكية الأمريكية البيضاء" التي تحمل وزر خطايا الميز العرقي وحروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وجنوب القارة الأمريكية.

إذ يبقى بايدن ليس خريج مدارس النخبة الكاثوليكية، ولا مدارس النخبة البروتستانية، بل هو خريج المدارس الشعبية، وهو يجسّد نوعاً من الكاثوليكية التقليدية الورعة والمحافظة والواقعية في آن. فغالبا ما تحدّث في حملته عن المعركة من أجل روح أمريكا. وبشكل عام تُبرز ملامح سيرة بايدن أنّه مسيحي ورع ولكنه ليس محافظا أو تقليديا، أو لنقل هو كاثوليكي "ناضج". وأمّا في الحياة العامة، فهو يعكس فكرة أن السياسة هي مهنة نبيلة، وهي شكل من أشكال الخدمة ورسالة علمانية. ولذلك يؤمن بايدن أنّ الحياة العامة ليست مسرحا، وأن الدين ليس مجموعة ضوابط جامدة.

يصادفنا في الواقع  الأمريكي حضور واسع للدين ضمن ما يُعرف بصياغة "الدين المدني"، وبما يفوق ما نجده في أوروبا، وهي خاصية لازمت التكون السياسي للدولة الأمريكية منذ عهود النشأة الأولى مع الآباء المؤسّسين. ذلك أن الصيغة الأمريكية للدين هي صيغة عملية بالأساس تستمدّ جوهرانيتها من منظور ذرائعي نفعي، وجدَ في ما يُعرف بتحرير السوق الدينية حافزا ودافعا. لذلك كثيرا ما يفاجَأُ الأوروبيون بدوْر الدين وحجم تأثيره في الفضاء العمومي في الولايات المتحدة. ويبلغ هذا العنصر مستوى لافتا كلّما اقتربنا من دائرة العمل السياسي. فعلى خلاف التقليد الأوروبي السائد في التعامل مع الدين، كجانب خصوصي خفيّ، يحضر في التقليد الأمريكي بوجه جليّ. وعلى هذا الأساس نصادف في أوساط الدارسين الغربيين انشغالا بالهوية الدينية للدولة، يفوق ما نجده في الأوساط الأوروبية.

حاول المؤلف الإتيان على تاريخ الكاثوليكية في أمريكا والتحولات التي مرت بها مع المهاجرين الأوائل، ثم عرّج على الإسهام العملي للكاثوليك في الواقع السياسي الأمريكي من خلال متابعة السيرة الدينية السياسية لبعض الشخصيات الفاعلة في الحياة السياسية الأمريكية. وبموجب أن الطابع الديني العام السائد في أمريكا هو طابع ذو خلفية بروتستانتية، فقد شكّل الخيار الكاثوليكي نشازا وأقلية، وأحيانا خصما ونقيضا لتوجّه عام. وصحيح حدثَ ظهور للكاثوليكية منذ فترة الرئيس الراحل كينيدي، لكن ذلك الظهور بقي شكليا ولم يتحوّل إلى ظهور فعلي مؤثر. فقد واصل كينيدي التردد على القدّاس بشكل منتظم، ولكنّه غيّر بعض مواقفه، مثل تحوير قانون تمويل المدارس الكاثوليكية وإغفال فرضية ممثّلية دبلوماسية في الفاتيكان، وذلك خشية اتهامه بمحاباة الكنيسة الكاثوليكية. يذكر المؤلف فاجولي أن العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وحاضرة الفاتيكان لم ترتق إلى أعلى مستوياتها سوى في العام 1984، وظلّت طيلة دورة كينيدي ثابتة في موقفها من حاضرة الفاتيكان.

وضمن هذا الإطار العام مثّل الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن حدَثًا دينيًّا استثنائيًّا في تاريخ الرئاسة الأمريكية، بوصفه ثاني رئيس كاثوليكي بعد سلفه جون كينيدي. فهو لا ينتمي إلى خطّ ديني بروتسانتي تقليدي، بل إلى كنيسة غالبا ما صُنِّفت بوصفها مغتربة ومعادية للمشروع الأمريكيّ، لاسيما وأنّ تاريخ مناهَضة الكاثوليكية في الولايات المتحدة هو تاريخ حافل بالخلافات وإلى غاية النصف الأول من القرن العشرين، كما يحوصل فاجولي.

وعلى حدّ رصد الكاتب، ثمة عنصر خِلافي يطبع علاقة أمريكا بالكنيسة الكاثوليكية، فهناك إرث ثقيل من الخصومة مع الحداثة يرهق عملية المصالحة بين العلمانية الغربية والكنيسة بوجه عام. وكما يرصد المؤلّف، بعد الحرب العالمية الثانية فقط أضحت الكاثوليكية، في المخيال السياسي الأمريكي، تضاهي البروتستانتية واليهودية، من ناحية المواقف السياسية والاجتماعية والأخلاقية. بَيْد أنّ عدم الثقة بالكاثوليك تواصل في الواقع حتى بعد 1945، رغم التحالف المتين الذي أملاه العداء للشيوعية وأوضاع الحرب الباردة.

وفي تتبّع التمشّي الديني للرئيس الكاثوليكي الراحل جون كينيدي، يُبرز الأستاذ فاجولي أنّ الكاثوليكية قد اتّسمت معه بطابع خصوصي أكثر منه بطابع عمومي، وذلك على خلاف ما هو مألوف في الولايات المتحدة، إذ بدا منطويا ومنزويا ضمن حدود السلوك، وتراجعت تلك المسحة التدخلية في الشأنين الاجتماعي والسياسي. كان واقع الأقلية يفرض على الكاثوليكية ألا توغل في إبداء خياراتها المعهودة في الواقع الأوروبي التقليدي، وكانت الكتلة الإيرلندية الكاثوليكية التأسيسية داخل الواقع التأسيسي الأمريكي، برغم صلابتها ومتانتها، لا تكفي لاتخاذ مواقف جذرية صلبة. فقد كان المهاجر القادم من جنوب أوروبا، ذو الخلفية الكاثوليكية، لا يشكل سندا يُعوَّل عليه.

 

الكتاب: جو بايدن والكاثوليكية في الولايات المتحدة

المؤلف: ماسيمو فاجولي.

الناشر: سكولِه (إيطاليا) "باللغة الإيطالية".

سنة النشر: 2021.

عدد الصفحات: 208 ص.

أخبار ذات صلة