ما وراء المواجهة: العولمة والقوميون واستياؤهم

ما وراء المواجهة.jpg

فيل مولان

محمد السالمي

في الأيام القليلة الماضية، حذرت الصين قادة مجموعة السبع من أن الأيام التي قررت فيها مجموعة صغيرة من الدول تحديد مصير العالم قد ولت منذ زمن بعيد. وتأتي هذه التصريحات، في الوقت الذي يسعى فيه القادة، إلى موقف موحد بشأن الصين الصاعدة. هذه التوترات لم تكن الأولى، حيث برزت توترات جوهرية على الصعيد العالمي والتي تؤجج الصدام بين الكيانات الاقتصادية الكبرى خلال العقدين الماضيين. وقد أظهرت التقاطعات في المواجهات استياء دوليًا أقوى من أي وقت مضى سواء بين دعاة العولمة السياسيين أو القوميين أو بين مؤيدي النظام الدولي القائم على القواعد والمؤسسات أو أنصار الحماية العلنية للتجارة. ولاريب أن ردود الفعل في التعامل مع  جائحة كوفيد-١٩ أدى إلى تصعيد التوترات الموجودة مسبقًا بين الولايات المتحدة والصين وبين الدول الغربية المختلفة. 

يرسم فيل مولان في هذا الكتاب "ما وراء المواجهة: العولمة والقوميون واستياؤهم"، مفهومًا جديدًا يتجاوز المواجهات الخطيرة، ويدعو لبناء مستقبل من التعاون الدولي المفتوح القائم على المشاركة الشعبية داخل الدول القومية. يطرح الكتاب تقييمًا واضحًا للفرص والتحديات للمواضيع الجيوسياسية الكبرى في عصرنا، كما يعيد تقييم نظريات العولمة، ويستبعد الطابع الرومانسي في التدويل الاقتصادي الذي تقوم عليه.

يملك فيل مولان خبرة طويلة في الأدوار الاستشارية في الأعمال التجارية الدولية. وتتناول أعماله البحثية التقاطعات بين الاقتصاد والسياسة، وقد حصد الكتاب على استحسان النقاد، وتم تضمينه في قائمة الفايننشال تايمز لأفضل الكُتب لعام 2020.  

يحذر مولان في كتابه من خطر تصاعد التوترات العالمية، حيث يحدد المصادر الأساسية للصراع ويقدم رؤية متفائلة وتطلعية من خلال تحليل تاريخي للأحداث. يبحث الجزء الأول من الكتاب في إنشاء النظام الدولي القائم على القواعد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويكشف عن عيوبه الكامنة فيه، ويوضح كيف أصبح الآن مصدرًا للصراع بدلاً من الاستقرار. أما الجزء الثاني فهو مكرس لفضح الخرافات حول التجارة والاتفاقيات التجارية، لا سيما دور التجارة في الديناميكية الاقتصادية وكيف يمكن تعديل مسارها مرة أخرى. وفي الجزء الختامي يقدم مولان بعض المقترحات حول كيفية إعادة تصور نهج السياسة الاقتصادية، وما الذي يمكن عمله لاستيعاب  التغييرات الضرورية في نوع الثقافة السياسية.


أقدمت دول الحلفاء ما بعد الحرب في هندسة نظام من المؤسسات الدولية، وكانت تأمل في منع تكرار كوارث أوائل القرن العشرين. وبالنظر في  الحقائق الدموية للحربين العالمية الأولى والثانية، برزت بشكل جلي الفكرة القائلة بأن الترابط يضمن السلام. كان أحد الجوانب الرئيسية لترتيبات الترابط يتمثل في تنظيم التجارة عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة، على أساس أن الحروب التجارية هي التي أدت إلى اندلاع الحروب في الماضي. في الواقع، وكما يجادل مولان، كانت الاختلالات بين الوزن الاقتصادي والنفوذ السياسي هي المحركات الرئيسية للتوتر. ويمكن القول أن جذور الحرب العالمية الثانية تكمن في الفشل في حل التناقضات التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى. وفي الوقت الحاضر، ومع تحول القوة الاقتصادية باتجاه الشرق، وبروز مثل هذا التفاوت في التوازن، يُطرح تساؤل إلى أي مدى تستطيع الدول الالتزام بالنظام الدولي لتجنب الصراع. 


يرى مولان أن قدرتنا على الفهم والاستجابة لهذه المتغيرات يعيقها الغموض وسوء الفهم للعولمة والتجارة الدولية. على سبيل المثال، تشير الرواية التقليدية، إلى أن نموذج الحمائية العدوانية التي انتهجتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب تجاه الصين، يمكن تجنبها وحلها عبر الالتزام التام بالنظام الدولي القائم على القواعد. يُفهم على نطاق واسع، أن توسيع نطاق القواعد والنظم العالمية والاتفاقيات التجارية وإنفاذها على أنها الطريقة الوحيدة لاحتواء حروب التعريفات الجمركية، وتهدئة المنافسات، وتعزيز الاستقرار والازدهار. وفي المقابل،  يرى مولان أن الهوس بالقواعد المعمول بها يعيق التغيير، والانشغال بالتجارة يصرف الانتباه عن المصادر الحقيقية للمشاكل الاقتصادية. إن السياسة وإمكانية الحرب ليست ثابتة ولا تحدد فقط من خلال الاعتبارات الاقتصادية. وبالتالي، فإن الترابط الاقتصادي ليس رادعًا للصراع، ويمكن أن يصبح مصدرًا متوترًا للاحتكاك.

 

 يُشير الكاتب إلى أنه غالبًا ما يتم إلقاء اللوم في المشكلات الاقتصادية والبطالة في الداخل على التجارة، وتدفق رأس المال والعمال عبر الحدود. وبالتالي، أدى تباطؤ الإنتاجية والتوسع الهائل في الديون وسلسلة من حالات الركود في الغرب التي بلغت ذروتها في الانهيار المالي في عام 2008 إلى إثارة منافسة أكثر شراسة بين البلدان الرأسمالية المتقدمة. في ظل هذه الخلفية التنافسية، أدى التحول في ميزان القوى الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، وخاصة صعود الصين، إلى زعزعة النظام القديم بشدة. رداً على ذلك، تشبثت القوى المتراجعة  بشكل عملي إلى الهياكل والنظم القائمة التي أنشأتها ولا تزال تشرف عليها، رغم أنها غالبًا ما تتعارض مع بعضها البعض في هذه العملية. وفي الوقت نفسه، ومن جانب القوى الصاعدة، فقد كانت مستبعدة عمومًا من مناصب السلطة في تلك المؤسسات، أصبحت تتحدى بشكل انتقائي الإطار القديم. وشمل ذلك إنشاء منظمات دولية جنبًا إلى جنب مع المنظمات القائمة. ونتيجة لذلك، يتم توجيه الصراع بين البلدان من خلال الاعتماد المتبادل، بدلاً من احتوائه. ويمكن الإشارة إلى أن الروابط الأوثق أصبحت توفر وسيلة لتعزيز المصالح الوطنية على حساب الآخرين. على سبيل المثال، تستخدم أداة العقوبات الاقتصادية للضغط على الدول المُستهدفة. وفي مثال آخر، فرضت اليابان قيودًا على المواد الكيميائية الرئيسية التي تحتاجها صناعة تكنولوجيا المعلومات في كوريا الجنوبية ردًا على مطالب كوريا الجنوبية المستمرة بتعويضات الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، فإن المفهوم القديم القائل بأن الترابط الدولي هو عامل استقرار لا يزال قائمًا في أطروحة العولمة اليوم، وتحصل على دعم هائل خاصة من قادة العولمة الذين يديرون معظم الدول الغربية. ولكن تبني  مثل هذه  المقاربات خاصة في السعي لتحقيق الاستقرار الدولي عبر النظم والقواعد الحالية هو أحد الأوهام الكبرى وتعمد في تسريع عدم الاستقرار. يرى مولان أنه يجب طرح الأفكار ليس فقط للتوقعات والممارسات السائدة للعولمة ولكن أيضًا لنقيضها المفترض والمتمثل في فكرة أن التجارة تولد الثروة وأن الحمائية الحكومية تُساهم في تراكم التوازنات التجارية المربحة.

 

اكتسبت العولمة بعض المصداقية باعتبارها وصفًا لاقتصاد عالمي أكثر تكاملاً، مدعومًا بالتطورات التكنولوجية والاستهلاك والتمويل وإعطاء الأولوية لقوى السوق. تشير الأنماط المؤقتة للعولمة إلى حقبة جديدة في الشؤون الإنسانية، مثلما حددت الثورة الصناعية وتوسع الغرب في القرن التاسع عشر عصرًا جديدًا في تاريخ العالم، فإن الرقاقة الدقيقة والقمر الصناعي هما اليوم أيقونات لموقف تاريخي جديد. أما اليوم وكما يشير مولان كون العولمة امتدادًا كميًا أو نوعيًا للتدويل الاقتصادي، فهي نقيضها سياسيًا. حيث أنه في التطبيق السياسي، تفضل أطروحة العولمة التكنوقراطية على الديمقراطية وكذلك هيمنة المؤسسات فوق الوطنية على الدول القومية. وكما يؤكد مولان، يتمثل الخطر الأساسي للتفكير العولمي في أن استبعاد السياسات الوطنية يجعل العالم أكثر خروجًا عن السيطرة وأقل يقينًا. إن الإيمان بتقويض السلطة الوطنية من خلال العولمة يأتي بنتائج عكسية لحل مشاكل العالم الحقيقية. 

 

عندما يُسند السياسيون الوطنيون مسؤولياتهم إلى هيئات وآليات عالمية، فإنهم يجعلون أنفسهم غير فعالين بشكل متزايد. فالقواعد والحدود التي تفرضها الهيئات الدولية تجعل الحكومات الوطنية أقل قدرة على العمل المستقل. على سبيل المثال، في مطلع الألفية ، وافقت عشرات الحكومات من الاتحاد الأوروبي على استخدام اليورو بدلاً من عملاتها الوطنية. وكانوا يأملون أن يؤدي هذا إلى تحسين استقرار العملة، وإزالة الظروف في السياسات الاقتصادية الوطنية أو ارتباطها بالدولة القومية، كما كان هذا نموذجًا أوليًا لعملة عالمية. في غضون عقد من الزمان، حطمت أزمة منطقة اليورو أوهام القدرة على التغلب على المواطن. في الواقع، لا تزال المشاكل والاختلافات الاقتصادية الوطنية ذات أهمية كبيرة. ولكن بحلول ذلك الوقت، رأت الحكومات، وأبرزها اليونان، أنها عاجزة في مواجهة الفوضى الاقتصادية. وبسبب إطار عمل اليورو، لا يمكن للحكومات أن تلجأ إلى تخفيض قيمة العملة أو تقرر مقدار الاقتراض لإخراج نفسها من الفوضى. كانت محنة عجز الدولة القومية نتيجة لمبادرات العولمة.

في الختام، يقدم الكتاب بعض المقترحات حول كيفية إعادة تصور نهج السياسة الاقتصادية التي عفا عليها الزمن. ولتحقيق ذلك، يُشير مولان أن الدول القومية الغربية تحتاج إلى العمل في ثلاثة مجالات رئيسية: أولاً، وقف السياسات والآليات التي عززت شركات الزومبي (الشركات المثقلة بالديون وغير قادرة على سدادها، ولا يكفي دخلها إلا لتغطية النفقات)، وإفساح المجال لنمو جديد واستثمار منتج وهي خطوة مؤلمة ولكنها ضرورية. ثانيًا، تحفيز الاستثمار في الابتكار والأعمال والقطاعات الجديدة لتوفير مصادر مستقبلية لنمو الإنتاجية والازدهار وتوليد فرص عمل أفضل. ثالثًا، توفير الدخل وغيره من أشكال الدعم للعمال وأسرهم أثناء انتقالهم من وظائفهم غير الآمنة ذات الأجر غير الكافي إلى وظائف عالية الإنتاجية ذات أجور أفضل. ولأن التجديد الاقتصادي لا بد أن يكون عملية مؤلمة، فإن تنفيذها الناجح يتطلب التزامًا شعبيًا ومساءلة حكومية. يشن مولان دفاعًا قويًا عن الدولة القومية باعتبارها القناة الفعالة الوحيدة للمشاركة الديمقراطية والمساءلة الحقيقية حسب وصفه. على الرغم من ادعاءات العولمة الديمقراطية، فإن رفضها للدولة القومية والسيادة الوطنية يضر بشكل أساسي بتنشيط الديمقراطية. وبدون استعادة الديمقراطية التشاركية النشطة، يفقد المجتمع الوسائل الضرورية لتغيير العالم إلى الأفضل. حيث يعتمد وقف الانجراف إلى الحرب على تعاون أنظمة سياسية وطنية قوية ومستقلة وديمقراطية. وعلى النقيض من ذلك، فإن المجتمعات الضعيفة حيث يبدو أنه لا مفر من التبعية وحيث يشعر معظم الناس بالتجاهل والابتعاد عن السياسة تكون عرضة للصراع الدولي. يمكن استغلال المخاوف واليأس بسهولة في إلقاء اللوم على الأجنبي سواء كان المهاجر من سوريا أو غانا أو الهند. 

 

ما يميز مساهمة مولان، هو إزالة الغموض عن التحليل التاريخي الذي يحدد المصادر الأساسية للصراع، ويقدم رؤية متفائلة واستشرافية. كتاب "ما وراء المواجهة" هو إضافة مهمة لعلم الاقتصاد السياسي، ويجب قراءته على نطاق واسع، ولا يقتصر الكتاب على صُناع القرار، والقادة السياسيين من الأطياف المختلفة. ويعيدنا إلى التفكير من جديد في العلاقات الدولية والسياسة الاقتصادية والديمقراطية الشعبية، حيث يقدم حجة قوية للاعتراف بأهمية الأمم كأساس للتماسك الاجتماعي وأهمية الرقابة الديمقراطية. 

 

عنوان الكتاب: ما وراء المواجهة: العولمة والقوميون واستياؤهم

المؤلف: Phil Mullan

الناشر: Emerald Publishing

سنة النشر: 2020

اللغة:  الانجليزية

عدد الصفحات: 256 صفحة

أخبار ذات صلة