التنوير في العصر الحي

عصر التنوير.jpg

كورين بيلوشون

 سعيد بوكرامي

لا يمكن أن نقتصر على استحضار فكر التنوير المستمر في سياق يتسم بإيقاظ القومية والأزمات البيئية والصحية وزيادة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية دون التذكير بأن التنوير أعطى زخما لفن العيش الأوروبي وشعورا بالانتماء إلى الثقافة نفسها. بواسطة أفكار الفلاسفة العظماء الممتزجة بتداول طرق وأساليب العيش الاجتماعي الجديدة ، و انطلاقا من رحلات الرجال المستنيرين ، تمكن التنوير من اجتراح طرائق من التفكير الجديد المراهن على التغيير والمستشرف لمستقبل واعد. لهذا يعُد التنوير من الابتكارات المرموقة في أوروبا، وقد تولد من عالمية التنوير والفكر والعلم وفن العيش والحكم ، وكذلك من العلاقة بين التنوير ووحدة أوروبا على غرار ما سعت إلى تأسيسه الإمبراطورية الرومانية. منذ عصر التنوير ، كانت الوحدة مبنية على قيم وميول عالمية، ولكنها تتمركز حول أوروبا. إنها وحدة عالمية على الطريقة الأوروبية، لهذا كانت مصلحة أوروبا فوق كل الاعتبارات وعلى حساب المبادئ نفسها. قبل أكثر من مائتي عام من بدايات البناء الأوروبي من قبل الآباء المؤسسين ، شارك عصر التنوير في إنشاء فضاء أوروبي تجاري واقتصادي وثقافي قائم على الهوية المبنية على أُسِّ الحضارة الأوروبية ، التي تربط الحكام و الشعوب على وعي مشترك بأن الوحدة تكمن في التنوع. أدرك رجال التنوير ، بمن فيهم الفلاسفة العظماء ، أهمية التجاذب بين الأولوية القومية والمشاعر الأوروبية. و من هذا المنطلق أصبح التفكير في أوروبا في هذا القرن نوعا من إلقاء النظرة الفاحصة والمشخصة على الأسئلة التي لا تزال ذات صلة وأهمية إلى اليوم ، والتي تتعلق بالهوية الأوروبية، كأرض خصبة للمواطنة الأوروبية المحتملة ، و كخطوة أولى نحو الوحدة السياسية. من بين جميع الأسئلة التي ظهرت حول اتحاد أوروبا ، أكد روسو أيضًا أن أهمها وأكثرها تعقيدًا والتي يجب حلها تكمن في محدوديتها. وهربًا من التعريف الواضح لها والاستفادة من الوحدة الاقتصادية لأوروبا ، أدرك فلاسفة التنوير أن الحكام سيؤسسون باستمرار لعبة سياسية بين الهوية الأوروبية والقضايا السيادية. 

 لهذا لا يمكن مواجهة خطر انهيار الحضارة الأوروبية دون التخلي عن العقلانية الفلسفية - العلمية ، ولكن مع مراعاة الاعتماد على الطبيعة وغيرها من الكائنات الحية: هذا هو النهج الذي يقوم عليه هذا الكتاب الساعي إلى محاربة المعادين للتنوير الذين يرغبون في إعادة تأسيس مجتمع طبقي أو ثيوقراطي والرد على اتهامات ما بعد الحداثيين الذين يشتبهون في أن أي كونية لا بد أن تكون ذات طابع مهيمن ، يجب إذن اقتراح تنوير جديد يسعى إلى إعادة النظر في تاريخ التنوير، وكذلك النضال ضد بتر العقل التنويري المختزل اليوم إلى أداة حساب واستغلال. إن هدف التنوير في العصر الحالي ومشروعه لبناء مجتمع ديمقراطي وبيئي هو الإطاحة بمبدأ الهيمنة - هيمنة الآخرين والطبيعة داخل وخارج الذات التي تعكس ازدراء الجسد و الضعف.

اتهم التنوير منذ عدة سنوات ، باعتباره رحم الحداثة الليبرالية، من طرف أكثر الأطراف السياسية والنظرية الأكثر تنوعًا ، بأنه مسؤول عن معظم الشرور التي تصيب الإنسانية اليوم ، بدءً من الأزمة البيئية. وبذلك حكم عليه بتهمة الترويج للعالمية الغامضة التي ستكون إما واجهة متواضعة عن عنصرية الدولة ، أو تدفع إلى تقديس الازدواجية الوجودية بين "الطبيعة والثقافة" والتي من شأنها أن تفصل الإنسان الأوروبي عن الارتباط الأصلي ببيئته أو حتى "التشجيع" على الاندفاع المجنون نحو التقدم التكنولوجي الذي سيدمر كل شيء في نهاية المطاف ، لقد استنكر عصر التنوير من قبل تيارات بيئية وسياسية مختلفة، ومن طرف الدراسات ما بعد الاستعمار، ولكن أيضًا من طرف المزيد من الأفكار الرجعية أو "الشعبوية" هو الآن في قلب النقاشات ، سواء كان السعى للدفاع عنه أو مهاجمته ، هذا على الرغم من عدم تحديد خصائصه الدقيقة ووحدته المذهبية الحقيقية. وإدراكًا منها لغموض مشروع التنوير ، تحاول كورين بيلوشون في هذا الكتاب الهام إعادة تفسيره في إطار نظري يتكيف مع القضايا المعاصرة. تسعى الفيلسوفة وعالمة الأخلاق إلى تعميق المواضيع التي طالما كانت مفضلة لديها منذ أعمالها الأولى التي سعت من خلالها إلى تفادي عقبتين. من جهة ، تعترض المؤلفة على الرفض المطلق لبعض محتقري التنوير الذين لم يروا فيه سوى مقدمات للكوارث الحالية والمستقبلية و ممهدات لأخلاقيات الضعف في الإنسان والحيوان والطبيعة ، وقد افترضت بأن "فكرة نشأة الأزمة البيئية التي تعود إلى بدايات عصر التنوير هي تفسير ساذج لتاريخ الغرب ص 52".  مادام سيكون ذلك خلطا بين تاريخ الأفكار والتاريخ المادي. ومع ذلك ، لا تتخلى كورين بيلوشون عن اختبارها النقدي "لأسس التنوير" ، الذي لم يف دائمًا بجميع وعود التحرر الفردي والاجتماعي والتي حجبت مفاهيمها التأسيسية أحيانًا وحرّفت أحيانا أخرى. تستعرض الفيلسوفة ، في أكثر من ستة فصول المفاهيم الهيكلية الرئيسية لعصر التنوير ، مستنبطة السبُل لاستخراج المكونات الإشكالية ومقترحة فهما جديدا.

يبدأ الكتاب بفصل عن السؤال الشائك حول العقل ، وهو مفهوم مركزي للتنوير ، لكنه سرعان ما وجد نفسه منحرفًا عن معناه الأصلي ليختزل في الاهتمام بالحفاظ على الذات والسعي وراء المصالح الشخصية فقط. بينما كان فلاسفة القرن الثامن عشر ينظرون إلى العقل في البداية على أنه أداة تسمح بالوصول إلى الحقيقة العالمية والموضوعية ، فقد تحول إلى أداة لقياس الرغبات الفردية ، وتبرير الهيمنة الاجتماعية وسيطرة الإنسان على الطبيعة. تستنكر المؤلفة الاعتماد على نقد عقلانية مفكري مدرسة فرانكفورت ،  ذلك المفهوم الذاتي للعقل الذي ساد في الغرب إلى حد تذويب شخصية المواطن في صورة الإنسان الاقتصادي المتطور في الرأسمالية الشمولية. و لمواجهة هذه الغطرسة الحديثة، تعارض كورين بيلوشون أخلاقيات الضعف حيث الإنسان مترسخ في واقعه الجسدي ومحدوديته لبناء عالم قائم على الاعتراف والاعتماد المتبادل والمسؤولية تجاه الآخرين. من نقد الفكر المقلص للعقل تنتقل المؤلفة إلى فصل ثانٍ عن علاقة الإنسان بالكائنات الحية ، الحيوانية أو النباتية. إن استدعاء فينومينولوجيا هوسرل ، وكذلك ميرلو بونتي وهايدغر ، سمح للمؤلفة بأن تمعن النظر في الثنائيات المتناقضة المرتبطة بالتنوير ، مثل التعارض بين الروح والطبيعة ، والذات والموضوع. قد يفكك المنهج الفينومينولوجي هذه الانقسامات العظيمة من خلال إثبات أن الواقع ليس أبدًا معطى ماديًا ثابتًا؛ لأن الوعي البشري من خلال التجربة العقلانية والحساسة ما يؤسس الوعي بشكل دائم. بناءً على هذه الفرضية ، تميز الفيلسوفة "نهجين"  ، أحدهما يتمثل في الهيمنة والآخر في التقدير. الأول هو ما يخترق المجتمعات الأوروبية منذ بداية القرن التاسع عشر ويتبع بدقة هذه المخططات الذهنية الثنائية التي فرضت علاقة هرمية بين الكائنات والأشياء. ويجسد نهج الهيمنة نفسه في هياكل ومنطق الرأسمالية المعولمة حاليًا وبشكل متزايد ، وقد أثار تجسيدًا للعمل وشجع كذلك على منظور مفترس للطبيعة. و لمواجهة هذا النموذج الذي تصفه الكاتبة بأنه مهلك حتما ، فإنها تقترح أفقًا لنهج التقدير تكون فيه الاحتياجات الفردية والجماعية في قلب التنظيم الاجتماعي والاقتصادي. ينتهي هذا الفصل بالتشكيك في الإرث القوي لعصر التنوير والثورة الفرنسية اللذين يشكلان قاعدة حقوق الإنسان، التي تقتصر اليوم على "افتراضاتها المسبقة المتمركزة حول الإنسان وازدواجياته وكذلك أسسها الفردية" (ص 103). يمكن تمييز حقوق الإنسانية عن حقوق الإنسان؛ لأنها ستعيد الاتصال بمفهوم علائقي للموضوع الذي يحتفظ بالعديد من الحقوق أكثر من الواجبات، والساعي إلى السماح بالتعبير عن حريته الإنسانية و انتمائه الاجتماعي والبيئي.

يحاول الفصل الثالث الرد على معضلة تمخضت عن البيئة السياسية ، ولا سيما من قبل روادها الفرنسيين( جاك إلول و برنار شاربونييه وأندري غورز): كيف تعيش بانسجام في عالم مشترك وتصبح في الوقت ذاته مستقلاً؟ إن البحث عن الاستقلال الذاتي ، من خلال الإصرار على أهمية الانتزاع - من إقليم أو تقليد أو مجموعة - يمكن أن يغذي حتما انعدام الثقة فيما يتعلق بأي شكل من أشكال التجذير التي تبدو مع ذلك ضرورية لظهور الوعي بالروابط والاعتماد المتبادل بين الناس وبيئتهم. لحل هذه المفارقة ، طورت الكاتبة مفهومًا للاستقلالية مبني أولاً وقبل كل شيء على "حرية الأفراد في التفكير" (ص 121) تساعد على اجتراح منظور نقدي تجاه نهج الهيمنة ، وبذلك تتيح العودة إلى حياة جيدة داخل المؤسسات العادلة. إن نمط حياة الفلاحين ، المجرد من جوانبه الحداثية والصناعية يصبح إذن أفقًا جديدًا للاستقلالية طالما سيكون عمله مجالًا لتأكيد حريته واستقلاله مع الارتباط الوثيق بالطبيعية والنظم البيئية المحيطة به.

تدرك كورين بيلوشون أن الأفراد أو الجماعات وحدهم لا يستطيعون إحداث تغيير نموذجي واسع النطاق. لهذا تتساءل في فصلها الرابع عن كيفية بناء مجتمع ديمقراطي وبيئي حقيقي في مواجهة صعود الأحزاب الشعبوية. انطلاقًا من الملاحظة التي مفادها أن النمط التشاوري وحتى التشاركي للديمقراطيات الغربية لا يسمح بالتحقيق الكامل لمشروع التنوير، لهذا تقترح المؤلفة "التخلي عن نموذج السيادة الشعبية" (ص 182). واضعة مقامها فكرة "الجمهور" ، التي تظهر في عمل جون ديوي وتُشير إلى الأفراد جميعهم المعنيين بالإشكالية نفسها. لذا ينبغي على السلطات العمومية أن تتبنى علاقة أكثر أفقية مع الخاضعين لحكامتها من خلال التشاور وإشراك المجموعات المعنية بشكل منتظم في مختلف المشاريع التي ترغب في تنفيذها. ومن أجل مواجهة المنطق الداخلي لليبرالية الجديدة التي تفضل استخدام السلطة التكنوقراطية والسلطوية ، تقترح الفيلسوفة إبراز دور "الأقليات النشطة" ، مثل المجتمع المدني المدافع عن الحيوانات ، في تطوير أنماط حياة بديلة.

ومع ذلك ، لا يمكن تحقيق الاستقلال الفردي والجماعي الذي تعززه المواطنة النشطة بشكل كامل إذا لم يتم التشكيك بشكل جذري في مكانة ودور التكنولوجيا. هذا هو السبب في عودة كورين بيلوشون ، في فصلها الخامس ، إلى التفاؤل الأولي لعصر التنوير تجاه دور العلم والابتكارات التكنولوجية ، كنواقل لتقدم الإنسانية ، كما تستكشف الأسباب التي أدت إلى تغيير هذا الأمل. لا تهاجم الفيلسوفة التقنية في حد ذاتها ؛ لأنها تظل حقيقة أنثروبولوجية لا جدال فيها. ومع ذلك ، فقد تناولت حجة هايدغر التي رآها الأداة الرئيسية للإمساك والهيمنة على الطبيعة والإنسان. وقد أدت سلاسل السببية الأكثر تعقيدًا للظاهرة التقنية إلى إلغاء المسؤوليات الفردية ، حتى لو أدى ذلك إلى أن يصير الإنسان ، غير مبال بالعواقب البعيدة لرغباته البروميثوسية. لذلك تسعى المؤلفة إلى إدراج مفهوم الحدود في استخدامات التكنولوجيا ، سواء من خلال التفكير الأخلاقي في عواقبها المحتملة ومن خلال إيلاء اهتمام خاص للانحرافات والسلوكات الضارة التي يمكن أن تولدها ، خاصة عبر الوسائط الجديدة ( الإنترنت).

وأخيرًا ، في الفصل السادس والأخير ، تسعى المؤلفة إلى طرح تصور أفق سياسي جديد لأوروبا بحيث تعود القارة القديمة إلى العالمية مع تجنب أي إغراءات للهيمنة وهذ ما لا نلمسه اليوم؛ لأن الأطماع الاقتصادية والطموح لامتلاك الريادة والقوة ما زالت تغلف المشروع التنويري الأوروبي. في المقابل تقترح الكاتبة تطوير "كوزموبوليتية التقدير والعرفان" على أساس التخلي عن سلطة الدولة ، وتعزيز البناء الأوروبي من خلال تنفيذ التحول البيئي وفتح أبواب المواطنة الأوروبية أمام المهاجرين و اللاجئين والعودة إلى القيم الحضارية الإنسانية؛ لإنشاء مستقبل جديد مبني على وحدة التنوع.

إذا كان هذا العمل يُسلط الضوء على تحديات القرن الحادي والعشرين الذي  ما زال تقريبا على الرغم منه ابنا عاقا للتنوير ، فإنه مع ذلك يقدم وبلا شك خارطة طريق، و أرضية نظرية خصبة و مهمة؛ لإعادة فحص النماذج الهيكلية للحداثة الليبرالية ، غير أنه للأسف يفتقر إلى مقترحات بديلة ملموسة لدعم المبادئ العظيمة لعصر التنوير التي أضحت لغموضها وطابعها البراغماتي غير واضحة المعالم أحيانًا، وأحيانا أخرى جوفاء وبدون صدى أو نتائج ملموسة.

 

الكتاب: التنوير في العصر الحي

المؤلف: كورين بيلوشون

دار النشر: دار سوي. فرنسا

سنة النشر: 2021

عدد الصفحات:  223

اللغة الفرنسية.

أخبار ذات صلة