ديفيد إيكل وألين سبايت وتروي ديجاردان
محمد الشيخ
من المعلوم أن فلسفة الدين، من حيث هي مبحث فلسفي مستقل بذاته، إنما هي بنت الأنوار بلا مدافعة. وقد نشأت أول ما نشأت ـ وإلا فالفلسفة منذ أن كانت هي نظرت في شأن الدين النظر ـ في أوساط تلامذة الفيلسوف الألماني كانط (1742-1807) صاحب كتاب: الدين في حدود العقل وحسب (1793)؛ وذلك بحسبانها نظرا نقديا في مفاهيم الدين وفي مسائله الجوهرية. وبعد مضي أزيد من قرنين من الزمان على هذه النشأة كان لا بد من وقفة لطرح السؤال: ترى، إلى أين تسير فلسفة الدين؟
في بواكر عام 2000 التأم جمع من الباحثين الشباب في فلسفة الدين، ضمن معهد فلسفة الدين التابع إلى جامعة بوسطن، للنظر في مستقبل حقل هذا المبحث من مباحث الفلسفة. وبعد مضي ما يقارب العقدين من الزمن، وقد صارت لفلاسفة الدين هؤلاء منزلة في أقسام الفلسفة بالجامعات الأمريكية، التأموا في خريف عام 2017 للنظر المتجدد في ما كانوا قد أفادوا به أول النظر حول مستقبل مبحث فلسفة الدين؛ وذلك بعد أن تطعمت أسماؤهم بأسماء أخرى. وكانت ثمرة تلك المداولات هذا الكتاب الصادر عام 2021.
أسيل الكثير من المداد، خلال العقدين الأخيرين، حول مستقبل فلسفة الدين. إذ كان قد صدر الكتاب الجماعي: "مستقبل فلسفة الدين القارية" (2014) وكتاب كناريس جيم: "إعادة تشكيل فلسفة الدين: مستقبل ممكن" (2018)، بل وصدر حتى كتاب نيك تراكاكيس: "نهاية فلسفة الدين" (2009)، وكتاب جون لوفتيس: "لماذا يتعين على فلسفة الدين أن تنتهي؟" وكل ذلك إنما يترجم عن قلق وهم حول مستقبل هذا المبحث؛ لا سيما وأن حقل الدراسات الدينية أمسى يشهد على تغيرات كثيرة وكبيرة؛ وذلك مثلما أن الاهتمام الفلسفي بالدين بات يتنوع تنوعا كبيرا؛ ما بين "أخلاقيات الاعتقاد" و"إبستمولوجيا الاعتقاد" و"أخلاقيات الدين" و"إبستمولوجيا الوحي" و"فلسفة التصوف" و"منطق الخلاف" و"أخلاقيات الخلاف" ...
يروي مدير معهد فلسفة الدين بجامعة بوسطن، ديفيد إيكل، في مدخل هذا الكتاب، كيف أنه مباشرة بعد توليه لمنصبه، شعر بأنه آن الأوان لطرح مسألة مستقبل فلسفة الدين على فلاسفة دين شباب، ومعرفة كيف يتصورون مستقبل مبحثهم. وقد دعا إلى عقد لقاء أكاديمي سمي: "مستقبل فلسفة الدين"، وكان من الممكن أن يدعى: "عن المستقبل من لدن المستقبل"؛ قاصدا بالمستقبل الأول الآتي من الزمان، وبالثاني الفلاسفة الواعدين. ثم سرعان ما توسعت حلقة المتداولين في مستقبل فلسفة الدين إلى حين عام 2017؛ حيث تقررت مراجعة اللقاء الأصلي بالتركيز على التغير الذي طرأ على مشهد فلسفة الدين منذ حينئذ، وبضم أسماء جديدة إلى لائحة المتداولين. ولَئِنْ هي كانت قد تغيرت الكثير من القناعات بهذا الشأن ـ ولا غرابة في هذا؛ لأن الزمان سيال بدال ـ فإن القناعة التي بقيت راسخة هي أن لفلسفة الدين دورا قويا تلعبه؛ وذلك لا فقط في ما يتعلق بمستقبل الدراسات الدينية، وإنما في مستقبل الإنسانيات (العلوم الإنسانية) مأخوذة على وجه الجملة. والحال أن البحوث المضمومة إلى بعضها البعض في هذا الكتاب ثمرة هذه اللقاءات، وهي تبدي عن تنوع أدوار الفلسفة في حقول دراسات الدين، واقتدارها الفكري على لعب هذه الأدوار، ووجاهة وجودها في هذه الحقول.
هذا ويمكن تقسيم بحوث هذا الكتاب على النحو التالي:
بحوث تمهيدية ترسم خريطة الطريق
المنعطفات الأربعة لفلسفة الدين
أولا؛ ثمة البحوث الأولى التي تلقي نظرة عامة على المعضلات الجديدة التي باتت تواجه فلسفة الدين بحسبانها مبحثا ضمن مباحث الدراسات الدينية. وهكذا، يرسم البحث الأول "خريطة طريق" لبحوث الكتاب بأكملها؛ من حيث إنه يدور على التحولات الأربعة التي باتت تطرح تحديات متزامنة على فلسفة الدين: التحول العولمي (آمِرُ العولمة: على النظر في الدين أن يتعولم التعولم)، والتحول النقدي (آمِرُ النقد: على النظر في الدين أن يستلهم الفلسفة النقدية)، والتحول التعددي الاختصاص (آمِرُ تعدد التخصصات وتكاملها: على النظر في الدين أن يفيد من تنوع المباحث ومن تساندها)، والتحول العملي (آمِرُ العمل: على النظر في الدين أن يركز على جوانب الدين التطبيقية). والحال أن البحوث اللاحقة تزكي هذه المنعطفات الأربعة المطلوبة التي تطرح تحديات عميقة في حقل فلسفة الدين، وتهدد صيغته الكلاسيكية المتهالكة؛ وهي التحديات التالية: تحدي المنظور العولمي الشمولي إلى الدين، وتحدي النظرية النقدية والمنعطف النقدي، وتحدي تعدد المعارف حول حقول الدين وتكاملها، وتحدي بداية انشغال فلسفة الدين بالممارسات الدينية التطبيقية، وبالمشاكل العملية التي تطرحها مزاولة الأديان في عالم الواقع.
ويدور بحث ثانٍ عنوانه: "ما الذي يمكن للدراسات الدينية أن تفيد الإنسانيات إياه: منظور فلسفي" على دور "السمة المعيارية" في دراسة الدين. ذلك أن الشأن عند الوضعيين من دارسي الدين إنما هو الوقوف عند "الوصف" ـ الواقعة ـ لا التجاوز إلى "الحكم" ـ القيمة. وعلى عكس ذلك، يظهر البحث كيف أن المعيارية، وعلى الضد مما يعتقد، باتت تكتسح لا فقط الدراسات الدينية بخاصة، وإنما العلوم الإنسانية بعامة؛ إذ ما من فهم للإنسان اللهم إلا فهم يمتزج فيه بلا ريب الجانب المعياري بالجانب الوصفي؛ وذلك بما أن حد الإنسان أنه كائن معياري، وأن ممارسة العقل تقتضي إعمال الاعتبارات المعيارية؛ إذ لا عقل إلا وهو عقل مقوِّم. ومن هنا باتت تلعب فلسفة الدين دورًا حاسمًا في التعرف على الاعتبارات المعيارية وكشفها؛ بدءً من مسألة ما الدين وما ليس بالدين.
المنعطف العملي في فلسفة الدين
ثانيا؛ تركز البحوث الثلاثة اللاحقة على الجانب العملي (الممارسات الدينية المعاصرة)؛ وذلك بما يشهد على تحول في الدراسات الأكاديمية للدين من الهوس بالنصوص المقدسة إلى الولع بالممارسات الدينية، وبدل النفاذ عبر "المتون" بات النفاذ يتم عبر "الشخوص". مما أمسى يحتم على فلاسفة الدين الانتقال من اهتماماتهم النظرية الكلاسيكية بالنصوص إلى مواجهة الممارسات العملية التي صارت تعنى بها الدراسات الدينية المعاصرة؛ وذلك من مسألة "ذات المتدين" إلى "الذات المشاركة في الجماعة"، ومن "روح المتدين" إلى "جسده"؛ في ما أطلق عليه أحد الباحثين اسم "فلسفة الدين المعيش" والتي ما عادت هي مجرد "فلسفة للنخبة المتعلمة" وإنما أمست "فلسفة لكل الأديان ولكل الشرائح الاجتماعية"؛ بحيث طفقت تهتم بكل الدواعي والأفكار كما تعاش في حيوات كل الأفراد والجماعات: وتلك هي "فلسفة الدين المعيش"، والتي هي ضرب من "فلسفة الدين الحية/المعيشة". كما يركز بحث لاحق على تصور الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس البرجماتي لفلسفة الدين ولمستقبل الدين، وقد ركز على تنوع الخبرات الدينية، وصلة ذلك عنده بعلاقة الفكر بالفعل، وعلى اكتشافات وليام جيمس السيكولوجية حول الدين، وصلة ذلك بجانبي الدين الفردي والجماعي، وعلى تصوره البرجماتي للدين من حيث جانبه التحسيني. وذلك كله بما يشي بأن لا سبيل إلى التنبؤ بحال يأتي على البشرية تتجاوز فيه الدين إلى عالم ما بعد الدين.
المنعطف النقدي في فلسفة الدين
ثالثا؛ لا يقصد بالمنعطف النقدي هنا أن فلسفة الدين السابقة كانت غير نقدية، وأن عليها أن تمسي مع هذا المنعطف نقدية. إذ كانت فلسفة الدين دوما دراسة نقدية لمفاهيم الدين الأساسية ولقضاياه الجوهرية. وإنما معنى "النقد" هنا معنى مخصوص؛ يفيد المدرسة النقدية الألمانية. على أن "النقد" هنا ـ الوارد في قسم كبير من هذه البحوث ـ لا يفيد نقد المفاهيم والأسس والقضايا نقدا نظريا، وإنما يفيد النقد العملي المرتهن بما يجري في الواقع. ويمكن التمثيل لذلك بالبحث الموسوم: "الإيمان الذي يهم: العنصرية المضادة للسود ومستقبل فلسفة الدين"، والذي يظهر بعض أنحاء التعالق بين المسيحية الأمريكية والعنصرية البيضاء؛ بحيث يبدي أن "الإيمان" لا يكون أبدا "مجردا" و"متجردا"، وإنما هو إيمان "عياني" و"مادي": حالة ذهنية مشخصة؛ مثلما هو حال العنصرية المضادة للسود التي أمست بمثابة ديانة. وهذا الأمر من شأنه أن يدعو إلى مراجعة "أخلاقيات الاعتقاد". كما يمكن التمثيل لهذا المنحى النقدي أيضًا ببحث :"النظرية النقدية والمؤامرة" الذي يكشف فيه صاحبه عن بعض وجوه التآلف بين إعمال النقد والقول بالمؤامرة: إذ توجد ثمة تماثلات بين نظرية المؤامرة والخطابات الأكاديمية المدعوة "نقدا" و"نظرية نقدية" و"جنيالوجيا" و"تأويليات ارتياب"؛ وذلك بحيث أنها باتت بدورها تملك مدافعين متحمسين يتبنون ضربا من "التفسير المتوجس أو الارتيابي" للظواهر الدينية.
المنعطف العولمي لفلسفة الدين
رابعا؛ يمكن التمثيل لهذا القسم بالبحث المتعلق بأمر "مزاولة الفلسفة في عصر التأثير الشديد على البيئة" أو ببحث "المهارات بلا قيم"؛ حيث يتعلق البحث الأول بدور فلسفة الدين المستقبلي في عالم باتت فيه ملامح المستقبل غائمة في "أرض مجهلة" مسكونة بكائنات بشرية أشبه شيء تكون بأشباح بلا أعيان وبمسوخ بلا أصول؛ أي في عصر ما بعد الدنونة، حيث صار يفرض على فلسفة الدين محاورة سيناريوهات المستقبل البيئي للإنسان الموسوم بالهشاشة وبالهجانة، وحيث أمست ملحة ضرورة إعادة النظر في طرح فلسفة الدين الكلاسيكية لمسألة "الشر" الطبيعي والأخلاقي على حد السواء. ويتعلق البحث الثاني بمستقبل الدين والفلسفة في عالم العدمية الذي هو سائر إلى التسيد في زماننا، ومحاولات فلسفة اليوم إعادة تسحير العالم بعد أن كان قد تم نزع طابعه السحري. ويوجد في هذا المقال نقد لمحاولة "استرجاع الآلهة" بأي ثمن كان على الطريقة الهايدجيرية، وفيه دعوة إلى العودة إلى دين الفطرة على طريقة الفيلسوفين الأمريكيين إميرسون (1803- 1882) وتورو (1817-1862). على أن هذا لم يمنع الباحثين من الاهتمام بفلسفات جهوية للدين؛ وإن تم ذلك على نحو أضأل، شأن الفلسفة الدينية اليهودية، والفلسفة الدينية البوذية والهندوسية.
المنعطف المتعدد الاختصاصات في فلسفة الدين
خامسا؛ يختتم الكتاب ببحثين يتعلقان بمسألة تعدد الاختصاصات وتكاملها؛ لا سيما في مضمار الإنسانيات: واحد متعلق بالفن والاستتيقا ينبه على التماثلات الكبيرة بين النقاش حول طبيعة الفن، والنقاش حول طبيعة الدين. إذ مثلما نبه الباحثون في ميدان الدراسات الدينية إلى أن مفهوم "الدين" إبداع حديث، ينبه الباحثون في مجال تاريخ الفن والجماليات على أن مفهوم "الفن"، بالمثل، حديث الوضع. ومن ثمة، كان للفن والدين تاريخ مفاهيمي متماثل؛ وهو ما يطرح مسيس الحاجة إلى تبادل للآراء حول كيفية معالجة مفهوم "الدين" قبل الدين ومفهوم "الفن" قبل الفن. ثم إن الباحث يدعو الفلسفة إلى النظر في الدور المستقبلي الذي ينبغي أن تلعبه في ما يخص الفن والدين. وثمة بحث ثانٍ متعلق بالتحليل النفسي والأصل التوحيدي للعلم. فلئن كان موقف فرويد من الصراع الموروث بين أهل التنوير والعلم، من جهة، وأهل المعتقد والدين، من جهة أخرى، أن انضم هو إلى جانب الطرف الأول؛ فإنه دعا، إسوة بكانط، إلى "ثورة كوبرنيكية جديدة" تأخذ بعين الاعتبار ارتباط المعتقدات اللاهوتية والدينية بالذاتية البشرية. ومن ثمة إعادة صاحب البحث التنبيه على أهمية العودة إلى كتاب فرويد حول الدين: "مستقبل وهم".
وختام الكتاب مسك. وهو بحث الفيلسوف الفرنسي الكبير جون ليك ماريون عن "الرب والتباس مفهوم الوجود". وهو بحث، مثل سائر بحوث ماريون، عصي على التصنيف. ويرى ماريون أنه قبل أن نفكر في أمر "الرب"، ما إذا كان في صحبة الوجود أم عنه في عزلة، يتوجب علينا، بادئ ذي بدء، أن نحدد أي وجود نعنيه: أهو الوجود العِلِّي بالمعنى الميتافيزيقي المتوارث؟ أم هو الوجود الوهبي الحدثي كما تصوره الرب؟ ذلك أن ثمة تصورين حول "الوجود" سادا في التراث الفلسفي: واحد ميتافيزيقي (الإله الصانع) وآخر وهبي (الإله الوهاب). والذي عند ماريون أنه يلزم أن يظل هذان التصوران حاضرين في الذهن وحيَّيْن فيه؛ فلا يعزبان عن بالنا عند مناقشة أي أمر حول مستقبل فلسفة الدين.
بقي أن ننبه إلى أن ما يمكن أن يأسف له المرء وهو يقرأ هذا الكتاب إنما هو الغياب شبه التام لمقاربات فلسفية للدين غير المقاربات المركزية المسيحية الغربية؛ اللهم باستثناء محاولة خجولة سبق أن ألمعنا إليها. وكأن لا تقاليد في فلسفة الدين عند الأمم الأخرى غير الغربية يمكن أن يُلتفت إليها أو على الأقل أن يُستأنس بها. وتلك قضية أخرى.
عنوان الكتاب: مستقبل فلسفة الدين
تحت إشراف: ديفيد إيكل وألين سبايت وتروي ديجاردان
دار النشر: سبرينجر
سنة النشر: 2021
