إيرينا فارياش
فيكتوريا زاريتوفسكايا
كان الفضاء في أوروبا الغربية ولعدة قرون، يتسع للهوية الإسلامية. في أوروبا كان قرع أجراس الكنائس يندمج في مدنها عند الفجر والغسق مع آذان المساجد، وكان المصلون المسلمون يسلكون طرقاتهم المؤدية إلى أماكن عباداتهم بهدوء وأمان، كما كانوا يقسمون اليمين في المحاكم الإسبانية باللغة العربية والكاتالونية القديمة على حد السواء. لا يعرف أوروبيو اليوم هذا الفضاء، ولا يمكنهم تذكر هذا الفصل المجيد من تاريخ حضاراتهم. مع ذلك وبعد كل شيء، فإن أوروبا المسلمة جزءً لا يتجزأ من تاريخ الغرب الحديث. وبالرغم من الأصوات المتعالية التي تشق عنان السماء الأوروبية الرافضة للهجرة والمناوئة للآجئين، التي لا تني تمجّد دور الحضارة الأوروبية في خدمة العالم، إلا أن وجهة النظر التاريخية تؤكد على أهمية أن تستعيد أوروبا الخبرات والاستراتيجيات من عصورها الوسطى، وتستخدم تجربتها القديمة للتركيز على واقعها الاجتماعي المعاصر وانفتاحها على الآفاق الإنسانية. ووفقا للمؤرخة الروسية الأستاذة في جامعة موسكو الحكومية إيرينا فارياش، فإن الشيء الوحيد الذي بقي للأوروبين في هذا السياق يكمن في إعادة النظر إلى تجليات الهوية الإسلامية الأوروبية (التي أمست باهتة) ودمجها بتجربتهم الحضارية الحديثة.
حول أهمية هذا الموضوع حاضرا، تكتب الباحثة في مقدمة كتابها: "سيتعامل هذا الكتاب - في العديد من النواحي - مع الماضي الأوروبي المنسي، ومع حقيقة أن العالم اللاتيني فضّل في مرحلة ما من تاريخه أن يزيله من ذاكرته الاجتماعية، واعتباره مظهراً من مظاهر الصدمة التي تلقاها الغرب في تاريخه، أو من قبيل "عقدة الطفولة" في الثقافة الأوروبية. إلى أي مدى تبلغ معرفة تلاميذ المدارس الحديثة، أو حتى خريجي الجامعات، عن الإسلام والمسلمين الذين عاشوا في أوروبا في العصور الوسطى؟ كيف انتظمت حياتهم آنذاك وكيف اختبروا هويتهم الدينية في القارة الأوروبية؟ (ص 9)
لقد عمدت المؤلفة قصداً وبطريقة واعية إلى صرف النظر عن المناطق والمستوطنات، والمراكز التجارية الإسلامية التي كانت تُمثل أسلوب حياة الشرق في أوروبا. ومع أن تلك التجمعات كانت امتدادا لشجرة الثقافة الشرقية العظيمة وفرعا لها، إلا أنها لم تكن جزءًا أصيلا في البيئة الأوروبية، وظلت مستقلة عن محيطها رغما من العنصر الجغرافي والثقافي الأوروبي الذي وُجدت فيه. وبحسب رأي الكاتبة فإن تلك التجمعات الشرقية الطارئة على أرض أوروبا ليست هي ما جعل الأندلس وصقلية المسلمة وإمارة غرناطة مكونات عضوية في العالم اللاتيني، بل التكتلات السُكانية الكبيرة للمسلمين الذين طال مقامهم في أوروبا (من قرن وما فوق)، وتمتعوا باستقلال وحكم ذاتي، مع اعترافهم واندماجهم بالهياكل السياسية الأوروبية.
من المعروف أن مملكة البرتغال ومملكة قشتالة وأراغون هي البلدان الأوروبية الرئيسية التي تواجد فيها عدد كبير من الرعايا المسلمين. وقد ارتأت المؤلفة التركيز على تاريخ مملكة أراغون بسبب الظروف التي تهيأت للمجتمعات الإسلامية هناك. وانطلاقا من نمط الحياة في أراغون، راحت المؤلفة تتأمل الثقافة الإسلامية ضمن فضاء حر غير نمطي، وتسلط الضوء على تجليات الهوية الإسلامية ضمن خلفيتها الأوروبية، وعلى المسلمين الذين جعلوا ولاءهم لملوك أراغون ولم يفرطوا بالتزامهم بالتقاليد الإسلامية، كما لم يضرهم شيئا احتكاكهم اليومي بالبيئة المسيحية. من جانب آخر فقد أدى فقدان السيطرة السياسية للإسلام هناك، وخضوع السكان المسلمين لسلطة المسيحيين، إلى تغييرات حاسمة على كل جوانب الحياة الإسلامية. في هذا السياق تطرح المؤلفة أسئلتها المركزية ومنها: ماذا يمكن أن يقال في هذا الصدد عن أصالة الهوية الإسلامية؟ وما الذي يُعنيه أن تكون مسلمًا في مملكة مسيحية؟ هل كانت الهوية الإسلامية مستقرة؟ وإن جرى تحريف عليها، فما نوع هذا التحريف وكيف جرى؟
فيما يتعلق بالمصادر فقد وضعت المؤلفة نصب عينيها، الاعتماد على الوثائق والأوراق المُحايدة، أي أنها اتخذت لبحثها معياراً علمياً يتسم باللغة التقريرية المباشرة. وفي هذا الاتجاه تكشف لنا المؤلفة عن عدد هائل من المصادر الأوروبية المخصصة للوجود العربي في أوروبا. وهناك مجموعة أخرى من المراجع الخاصة بالمؤلفين العرب كفتاوى ابن لب وتلاميذه وكتب الشاطبي وابن سراج وغيرهم.
تُؤكد الباحثة أن الهوية الإسلامية ظلت صامدة لفترة طويلة بشكل مثير للدهشة. فحتى عند اختفاء إمارة غرناطة من خريطة شبه الجزيرة الأيبيرية، وهي آخر معقل للنظام السياسي الإسلامي، إلا أن الحضارة الإسلامية لم تندرس إلا بعد قرون من ذلك. أما المحور الذي جعلته المؤلفة حجر زاوية بحثها فيتعلق بالمناطق التي ما زالت تحتفظ بملامح الهوية الإسلامية في أوروبا المعاصرة.
تبدأ المؤلفة بحثها عن تجليات الهوية الإسلامية في زمن الانتصارات الأولى لحقبة الاسترداد الإسبانية، عندما بدأ الملوك المسيحيون باسترجاع أراضيهم التي كانت تحت سيطرة الحكام المسلمين، ولكن مع بقاء السكان المسلمين داخل الممالك المسيحية، وبأعداد كبيرة. تُشير الكاتبة إلى هذا بقولها: "بطبيعة الحال، فور وقوع مدينة أو قلعة بيد المسيحيين، غالبًا ما كانت النخبة المسلمة المحلية تُغادر شبه الجزيرة الأيبيرية إلى الأراضي الإسلامية. ومع ذلك لم يكن جميع المسلمين مستعدين للتخلي عن منازلهم‘ وبيع ممتلكاتهم مقابل مبلغ زهيد. وفضل القرويون البقاء بأرض أجدادهم، يزاولون الحرث والزرع ورعي الماشية وإنشاء الحدائق. لقد اتخذوا قرارهم بعقلية دنيوية، انطلاقاً من ظروف مادية، وكانوا يدركون سهولة الحياة التي عاشوها هنا لأجيال عديدة" (ص 19).
تُؤكد الباحثة أن السلطات المسيحية تولت بداية الأمر مهمة جادة، وتمكنت في وقت قصير من وضع أُسس قانونية واقتصادية فعالة للتعامل مع عدد كبير من المسلمين في المملكة واعتمدت على الاستراتيجيات الإسلامية، ليس فقط بمعنى أنهم اقترضوا أفكار النظام الاجتماعي من المسلمين، ولكن أيضًا من حيث أنهم ناقشوا ووافقوا على الإجراءات المعمول بها مع ممثلي الطرف الإسلامي بلغة يفهمونها وغالبًا ما كانت اللغة العربية. وكانت تواقيع الحكام المسيحيين والمسلمين وشهودهم تتحرك في اتجاهين متعاكسين: من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار، مما عزز النظام والتعايش بين الطرفين"(ص 23). وهناك نقطة مهمة تُشير إليها الباحثة وهي أن الجميع كانوا سواسية أمام القانون، فإن وقع شجار أو عراك بين مسلم ومسيحي، لا يتورع القاضي العربي بمعاقبة المسلم، أو القاضي المسيحي بإنزال الجزاء على شخص من ديانته، ولن يفلت أحد من سنة القانون هذه". (ص 24)
تربط الباحثة بداية نهاية الأزمنة الذهبية، وتقلقل أوضاع المسلمين، بتدخل الكنيسة الكاثوليكية الرسمية. فتجد في قرار البابا كليمنت الخامس الذي صدر عن مجمع فيين عام 1311 والذي منع بموجبه الآذان، قوة تفكيكية حادة جعلت العرش والمسلمين يعاودون بناء علاقاتهم بشروط أخرى. لقد سلط هذا القرار البابوي الضوء على مواقف المجتمع من الفريقين (المسلم والمسيحي)، واختبر مدى استعدادهم للحوار والتفاعل، كما كشف عن مدى رسوخ ممارسة شعيرة الأذان في شبه الجزيرة الأيبيرية، مما أعطى للمؤلفة مشروعية جعل الأذان السمة الأولى والرئيسية للهوية الإسلامية في أوروبا. وتخلص الباحثة إلى أنه "لولا قانون البابا الروماني، لما كانت لدينا تجربة بحثية فريدة من نوعها، تجربة تاريخية نادرة ميزت الهوية الإسلامية بشكل مباشر (...) لم تكن السلطات العلمانية في عجلة من أمرها لجعل منع الأذان قاعدة في أراضيها (...) كما أنه لم يبلغ إلى علمنا أية حالة من حالات تطبيق عقوبة الإعدام على ممارسة الأذان. وعلاوة عليه، لا نعرف عن إجراء محاكمات على أساس خرق حظر الأذان"(ص 62). وتفترض الباحثة أن ممارسة الأذان ظلت سارية على الرغم من القرار البابوي، وذلك طوال القرن الرابع عشر بأكمله، وكان يُرفع، بطريقة أو بأخرى، في مدن وبلدات مختلفة في شبه الجزيرة الإيبيرية. فعند البعض احتفظ الأذان بصيغته التقليدية؛ وذلك بفضل الامتيازات الملكية أو عن طريق تواطؤ السلطات المحلية، وفي حالات أخرى كان الأمر أكثر تعقيدًا، فلم يكن لدى المؤذن قدرة على إعلان دعوته للصلاة بصوت عالٍ وتحتم عليه اللجوء إلى طرق أخرى.
أما المكون الثاني للهوية الإسلامية في أوروبا فحددته الباحثة في ركن الحج. تُشير إلى أن المسلمين اشترطوا بحقهم في الحج في أول لقاء رسمي مع ممثلي سلطة المسيحيين: "لقد رأينا ذكر شرط الحج في كل مواثيق الاستسلام التي وصلتنا. فعلى سبيل المثال، في فترة استسلام مدينة توديلا عام 1119، وبمبادرة من المسلمين، تم تسجيل أن أي شخص يرغب بمغادرة المدينة لأراضي المغاربة أو إلى أراضٍ أخرى فهو حر في تنقله ويمكنه المغادرة بأمان مع زوجه وأطفاله، حاملاً كل ممتلكاته، عن طريق البر والبحر وفي أي وقت من النهار أو الليل كما شاء. كما أدخل استسلام طرطوشة عام 1148 القاعدة التي تنص على أن المسلمين في هذه المدينة يمكنهم المغادرة بحرية دون الحصول علي أي إذن خاص أو موافقة من السلطات" (ص 73).
غير أن أفضل دليل على أهمية الحج في تشكيل الهوية الإسلامية نجده في القرون الثلاثة من تاريخ مستوطنة تيزنيت الصغيرة في فالنسيا. تقول المؤلفة: "كانت المستوطنة مركز جذب للمسلمين المتدينين وأحفادهم وهو ما ضمن استدامة الممارسات الدينية الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية. فعلى مدى أحد عشر جيلًا متتاليا ظلت ذكرى القديس المدفون في المسجد المحلي حية. لا انتقال تيزنيت إلى حكم المسيحين في القرن الثالث عشر، ولا معمودية مسلمي شبه الجزيرة الإبيرية في بداية القرن السادس عشر غيرت الوضع، وذلك برغم التحول الجذري الذي طرأ على الهيكل الاجتماعي والسياسي برمته. وبين هاتين المحطتين الزمنيتين كان هناك قرنان صعبان، الرابع عشر والخامس عشر، اللذين اتسما بالأزمات والحروب والطاعون والهجرة المكثفة للمسلمين إلى الأراضٍ الإسلامية وعدم الاستقرار العام. مع ذلك، وبعد قرن ونصف من ذلك الوضع، احتفظ المسلمون بذكراه بوضوح شديد، وكانوا مستعدين بحمية لترسيخ هويتهم الإسلامية لدرجة أنهم أعادوا مركزية الحج بسرعة وبشكل كامل، فتسابقت إليه أفواج المؤمنين، وكانوا يمتلكون معرفة كاملة لكيفية التصرف في الديار المقدسة، ما يعني من الجانب النفسي والفيزيائي والثقافي أن الهوية الإسلامية ظلت محتفظة بديمومتها" (ص 85).
وتُشير المؤلفة إلى ملمح من ملامح الهوية الإسلامية الأوربية، يبدو جانبيا ولكنه معبّر، ألا وهو ملمح المظهر الخارجي للمسلم، حيث استبعده المسلمون هنالك ولم يخضعوا له. تبيّن المؤلفة قائلة: "لم يعتقد مسلمو البرانس أن طريقة تمشيط شعرهم أو تسريحاتهم لها علاقة بالدين. فإحساسهم بهويتهم المذهبية لم يأخذ هذا العامل الخارجي محمل الجد، ولم يجعلوه ضمن الالتزام الديني، بل إنهم تركوه عمداً خارج نطاق الهوية الإسلامية في أوروبا. وبالمقابل، ففي هذه المرحلة نفسها، لم تتطابق الثقافة اللاتينية والإسلامية، إن لم نقل إنها عاشت تعارضا فيما بينها، حيث تموضعت الثقافة اللاتينية في خط الدفاع عن هويتها بينما اختارت الثقافة الإسلامية سبيل التأقلم" (ص 141).
الكتاب: أوروبا المسلمة وتجليات الهوية.
المؤلف: إيرينا فارياش.
دار النشر: ناووكا/ سانت بطرسبورغ/ 2020.
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 225.
