بارنز كار
محمد السماك
يروي هذا الكتاب تاريخ ما أهمله التاريخ، هنا الإهمال كان مقصوداً . فالوقائع بقيت سراً عن سابق تصوّر وتصميم . لقد تعمّدت الدولتان روسيا والولايات المتحدة عدم إثارتها ، وعدم الإشارة إليها في الأدبيات السياسية حتى أصبحت نسياً منسياً . غير أن إلقاء الضوء عليها الآن يُنير الطريق نحو معرفة حقائق تاريخية كان لها تأثير مباشر في عملية اتخاذ القرارات السياسية في كل من الكرملين – موسكو والبيت الأبيض – واشنطن . ولعل هذا التأثير لا يزال مستمراً حتى اليوم .
جرت وقائع القصة أثناء الحرب العالمية الأولى . كانت روسيا والولايات المتحد في جبهة واحدة ضد الألمان ، في هذه الأثناء انطلقت الثورة البولشفية، وأدى انطلاقها إلى انشغال روسيا الجديدة بأوضاعها الداخلية، عرضت ألمانيا عليها تسوية سياسية ثنائية تخرجها من الحرب . تلقّفت روسيا العرض بسرعة وخرجت فعلاً من الحرب . أدى هذا الخروج إلى خلل في ميزان القوى.
فالولايات المتحدة كانت تُريد أن تفرض على ألمانيا واقعاً تضطر معه للحرب على جبهتين معاً إضعافاً لها ؛ الجبهة الشرقية مع روسيا، والجبهة الغربية مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبين. عبثاً حاولت واشنطن إقناع موسكو بالبقاء في الحرب ضد ألمانيا ، ولما عجزت عن ذلك اضطرت إلى اللجوء إلى الخيار الصعب وهو شنّ الحرب على روسيا ذاتها ، أملاً في ليّ ذراعها .
هذا الكتاب يروي قصة كيف ومتى حدث كل ذلك والنتائج التي ترتبت عليه، ومن هنا أهميته التاريخية وأهميته في العلوم السياسية .
إن أول ما يكشفه هذا الكتاب هو أنه لا صحة للاعتقاد بأنه رغم كل الاختلافات بين موسكو وواشنطن فإنهما لم يشتبكا في أية حرب أو في أية معركة قتالية . لقد سبق أن تغنّى بهذا الاعتقاد سياسيون وحتى أكاديميون أميركيون .
ففي عام 1984 مثلاً وجّه الرئيس الأميركي في ذلك الوقت رونالد ريغان رسالة متلفزة إلى الشعب السوفياتي قال فيها: "إن حكوماتنا تواجه اختلافات عميقة وخطيرة ، في الماضي وفي الحاضر ، غير أن أبناءنا وبناتنا لم ينجرّوا أبدا لقتال بعضهم بعضاً ".
وردد هذا القول أيضاً –ولو بصيغة مختلفة – الرئيس باراك أوباما في محاولته لفتح صفحة جديدة من التعاون الأميركي – الروسي مع الرئيس فلاديمير بوتين، إلا أن الوقائع التاريخية تقول شيئاً آخر . تقول إن الأميركيين والروس خاضوا حرباً مباشرة في محاولة أميركية للضغط على موسكو للعودة إلى الحرب (العالمية الأولى) ضد ألمانيا .
إن كتب التاريخ المدرسية والجامعية المُعتمدة اليوم في المدارس والجامعات الروسية تتضمن فصلاً –ولو موجزاً- عن تلك الحرب ، خلافاً للكتب الأميركية التي تتجاهلها كلياً .
فالكُتب الروسية –كما يقول المؤلف- تتحدث عن غزو أميركي – بريطاني – فرنسي مشترك لشمال روسيا جرى في عام 1918 ، بعد إعلان الثورة البولشفية مباشرة .
لم يكن الغزو يستهدف الثورة ، ولم يكن يُريد إعادة القيصرية إلى الحكم ، ولكنه كان يُريد حمل روسيا الجديدة على إبقاء الجبهة الشرقية مفتوحة ضد ألمانيا .. ولو بالقوة العسكرية .
يقول المؤلف: إن الوثائق الأميركية الرسمية وحتى كُتب التاريخ العسكري للولايات المتحدة تتجاهل كلياً هذه الحقائق التاريخية ، ولذلك فإن هذا الكتاب (خطة لينين) لا يُؤرخ فقط لما أهمله التاريخ ، ولكنه في الواقع يُصحّح وقائع فترة زمنية محددة من التاريخ الأميركي .
يُؤكد المؤلف أنه قُتل في عملية الغزو الأميركية – البريطانية – الفرنسية المُشتركة لروسيا (البلشفية) 600 جندي أميركي . ولكنه لا يذكر أرقام الضحايا من الجنود الفرنسيين والإنجليز .
ويقول المؤلف أيضاً: إن العملية العسكرية الثلاثية (الغزو الثلاثي) منيت بفشل ذريع؛ فهي لم تكن غير مبررة فقط ، ولكنها كانت مغامرة عسكرية فاشلة بكل المقاييس . من أجل ذلك فإن الرئيس الأميركي في ذلك الوقت ودرو ويلسون (الذي قطف ثمار انتصار الحُلفاء على ألمانيا في فرساي – فرنسا ) ووزير خارجيته روبرت لانسنيغ ، أخفيا عن الشعب الأميركي وقائع تلك الحرب الفاشلة وغير المُعلنة.
يروي المؤلف "بارنز كار" في كتابه كل تلك الوقائع اعتماداً على الأرشيف السري العسكري الأميركي الذي سمح له بالاضطلاع عليه لمرور الوقت .
أما على الجبهة الروسية فقد مُنيت روسيا بخسائر فادحة جداً خلال حربها ضد ألمانيا،وعندما جرى التخلص من القيصر في فبراير – شباط 1917، كان هدف لينين وقف النزف البشري في جبهة القتال مع ألمانيا . وقد وعد لينين الشعب الروسي بذلك فعلاً وعلناً . وهو ما أقلق الحُلفاء الثلاثة : الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا . ولما فشل الحلفاء بإقناعه بالتراجع عن موقفه ، لم يجدوا سبيلاً آخر سوى محاولة إجباره على العودة إلى الحرب بالحرب . لقد اعتقدوا أن منع روسيا من الخروج من الحرب ضد ألمانيا بالقوة هو عمل مشروع للدفاع عن النفس في وجه الآلة العسكرية الألمانية خاصة وأن لينين وصل إلى السُلطة في موسكو بانقلاب، وأنه صادر ممتلكات الدولة الروسية بالقوة العسكرية الانقلابية . ثم أن واشنطن ولندن وباريس وجدت أن لينين برفع شعار تصدير الثورة البولشفية يُهدد الأمن والسلام في العالم . أدت هذه الأمور مجتمعة إلى تصنيف روسيا عدواً، وعزّز من هذا التصنيف خروجها من الحرب ، وهو الخروج الذي يُريح "العدو" الألماني من حيث أنه يقفل الجبهة الشرقية ويمكّنه من التفرغ للجبهة الغربية.
يقول المؤلف: إن الدول الثلاث (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا) كان لها تقييم موحّد للموقف الذي فرضته الثورة البولشفية، ولكن هذه الدول لم تكن لها رؤية موحدة حول ماذا عليها أن تفعل وكيف تردّ .
بدأ ردّ الفعل بإرسال مجموعات من الجواسيس لتقديم رشاوي إلى عدد من قادة الحركة البولشفية مقابل إقناعهم بالاستمرار في الحرب ضد ألمانيا . وهنا يروي المؤلف قصصاً مُثيرة حول أدوار الجواسيس ورجال الأعمال والبنوك وعلماء الاجتماع وحتى الانتهازيين . ويقول إن المشرف العام على تلك المنظومة من العملاء كان بطل التنس الأميركي "ديرويت كلنتون " ( وكان يُعرف لدى جهاز المخابرات الروسي بلقب "بودل") . كان صلة الوصل مع ديرويت ، ضابط أميركي من أصل روسي يُدعى "سينوفون كالامانيافو"، وقد ألقي القبض عليه في موسكو ، وكان أول جاسوس يجري تحريره في عملية تبادل بين موسكو وواشنطن .
ويقول المؤلف: إنه إلى جانب جهود التجسس التي قامت بها الولايات المتحدة ، كانت لكل من فرنسا وبريطانيا جهودهما أيضاً. ولعل من أبرز أبطالها الفرنسي : شارلز أدولف فوبا بيدا" وهو الشرطي المحقق الذي قاد العملية ضد "ماتاهاري" الشهيرة .
بعد فشل محاولة الإقناع بالرشوة، كانت المحاولة الثانية التي اعتمدت أسلوب اغتيال القادة الكبار في الحركة البولشفية، وذلك من أجل إشغال الحركة بذاتها وصرفها عن تنفيذ القرار الجديد بالانسحاب من الحرب .
وكان على رأس قائمة المستهدفين بالاغتيال بطل الثورة نفسه لينين . وبالفعل تعرّض لينين لأكثر من محاولة اغتيال ، أهمها: عملية إطلاق الرصاص التي أصابته في العنق والكتف. وقد جرت تلك العملية خارج مدينة موسكو في أغسطس – آب 1918 في أحد المصانع . ولكن لا يُعرف حتى اليوم ما إذا كان أبطال تلك العملية كانوا من عملاء المخابرات الأميركية أو الفرنسية أو الانجليزية ، أو من معارضي الثورة البولشفية من الروس أنفسهم .
وبعد أن فشلت كل تلك المحاولات لجأت الدول الثلاث بقيادة واشنطن إلى شنّ الحرب العسكرية المباشرة على روسيا ولكن دون إعلان .
بدأت الحرب بدعم "القوى البيضاء" من الروس المعارضين للثورة البولشفية الشيوعية الحمراء. وكان الهدف تعميق الحرب الأهلية .
تصدّت الثورة البولشفية للتمويل الأميركي، فأوجدت واشنطن طرقاً غير مباشرة عبر البريطانيين والفرنسيين لتوصيل الدعم المالي التشجيعي للقوى المعارضة للثورة الشيوعية . ورغم أن الرئيس ويلسون نفى أن تكون بلاده وراء ذلك ، فإن المؤلف يؤكد أن الوثائق تُؤكد عكس ما يقول. مع ذلك فإن رشوة "القوى البيضاء" لتشجيعها ولتمكينها من مواجهة القوى الشيوعية الحمراء، لم تنجح في تغيير معادلة القوى على الأرض، هنا وجدت الولايات المتحدة أنه لم يعد أمامها بديل عن الحرب .
يقول المؤلف إن تلك الحرب لم تكن فقط حرباً غير مشروعة، ولكنها كانت حرباً فاشلة . وفوق ذلك كانت حرباً من دون تأثير يُذكر .
بدأت الحرب حول مرفأ "ارشنجال" . وكانت القوة المُهاجمة تتألف من 20 ألف رجل ، كان بينهم 4500 أميركي . كانت هذه القوة العسكرية من الصغر – مقارنة بمساحة روسيا وعدد جيشها- بحيث أنها لم تكن قادرة على إحداث أي تغيير يُذكر؛ فالولايات المتحدة وحلفاؤها كانت تُركزّ عسكرياً في ذلك الوقت على جبهات القتال ضد ألمانيا، ولم تشأ أن تتحوّل حرب الضغط على روسيا إلى حرب استنزاف لقواتها المشتركة تُعزّز الموقف العسكري الألماني . مع ذلك حفرت الحرب الأميركية على روسيا عميقاً في الذاكرة الروسية ، ولا تزال حتى اليوم تلعب دوراً أساسياً في صناعة القرار الروسي عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الغرب ( أميركا – بريطانيا – فرنسا ) . ولا شك في أن الجنرال ستالين كان يعرف هذه القصة جيداً عندما جالس الرئيسين الأميركي روزفلت والبريطاني تشرشل في بوتسدام؛ لاقتسام النفوذ في العالم بعد الحرب العالمية الثانية . ولا شك أيضاً في أن الرئيس الحالي فلاديمير بوتين (رجل المخاربرات السوفياتية السابق) كان يعرف هذه الخلفية عندما اجتمع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب .
يقول المؤلف إن الروس (السوفيات) لم ينسوا ذلك أبداً، وإنهم لم يغفروه أبداً؛ ذلك أن تلك العملية العسكرية كانت بداية حرب أميركية – سوفياتية باردة استمرت منذ ذلك الوقت حتى (سقوط جدار برلين) في عام 1989 .
عنوان الكتاب: مؤامرة لينين: القصة المجهولة لحرب أمريكا ضد روسيا
المؤلف: بارنز كار
الناشر : بيغاسوس Pegasus
الصفحات : 388
التاريخ : 2020
