عدم اليقين الراديكالي: اتخاذ القرار وراء الأرقام

RADICAL عدم اليقين الراديكالي.jpg

جون كاي وميرفين كينج

محمد السالمي

ماهي نظرتُنا للمُستقبل؟، وهل نستطيع التنبؤ بها؟. تخضع الكثير من الممارسات الاقتصادية، والتمويلية لأدوات نظرية الاحتمالات، والتي تُقدم لنا أمانًا زائفًا حيثُ إنها ليست دائماً على صواب؛ وما نحتاجه بدلاً من ذلك روايات قوية تُعطي الثقة لإدارة عدم اليقين والمخاطر. يأتي كل من جون كاي وميرفين كينج في كتابهما "عدم اليقين الراديكالي" للحديث بإسهاب حول قلقهما من النهج القياسي في علوم الاقتصاد والتخصصات ذات الصلة. تنطوي معظم المواقف في الحياة على نوع أعمق من عدم اليقين، حيث لا تقدم فيه البيانات التاريخية إرشادات مُفيدة للنتائج المُستقبلية. يجادل المؤلفان بأنَّ هذا نهج فقير في اتخاذ القرار، وبصرف النَّظر عن المواقف المُستقرة والمتكررة، فهما يوضحان أنَّ الاحتمالات غير موجودة؛ أو أنها ونتائجها المحتملة غير معروفة؛ مما يُعطي إحساسًا زائفًا بالدقة. ويُشير الكتاب إلى أنه بدلاً من اختراع الأرقام لسد الفجوات في معرفتنا، يجب أن نتبنى استراتيجيات تجارية وسياسية وشخصية تكون قوية للمستقبل ومرنة للأحداث غير المتوقعة، وبالتالي يمكننا احتضان عدم اليقين؛ لأنه مصدر للإبداع والإثارة والربح.

 

وللتعريف بمؤلفي الكتاب، فجون كاي هو أحد الاقتصاديين البريطانيين البارزين، تتمحور أعماله في الاقتصاد والتمويل. امتدت مسيرته المهنية في العمل الأكاديمي في كلية سانت جون بجامعة أكسفورد، وشغل بعض المناصب الاستشارية. 

بينما ميرفين كينج، شغل منصب المحافظ السابق لبنك إنجلترا، وامتد شغله للمنصب إلى فترة الأزمة المالية العالمية، ويعمل حالياً في جامعة نيويورك وكلية لندن للاقتصاد. يُعد هذا الكتاب العمل الثاني لهما معاً بعد كتابهما الأول بعنوان "نظام الضرائب البريطاني" في ١٩٧٩م، وبعد أربعين عامًا تضافرت جهودهما مجدداً لإنتاج هذا الكتاب.

كثير منِّا لا يعرف ما الذي سيحدث في المستقبل، أولا يمكننا وصف مجموعة الأشياء التي حدثت في واقعنا المُعاصر. مع حدوث الأزمة المالية في 2007، برزت الحاجة إلى سرد جديد للقوانين والنماذج الاقتصادية، حيث أدرك البشر أنَّهم لا يفهمون بالضرورة عواقب ابتكاراتهم، ولا يملكون المقدرة على التعامل مع المخاطر، وعزز هذا المفهوم جائحة كورونا. عنوان هذا الكتاب ومفهومه المركزي هو عدم اليقين الجذري، والذي يظهر معرفتنا غير المكتملة عن العالم، أو حول العلاقة بين أفعالنا الحالية ونتائجها المستقبلية. تتمثل أهم رسائل الكتاب في أنَّ علم الاقتصاد والأعمال لا تحكمه قوانين علمية ثابتة، بالإضافة إلى كوننا كيانات اجتماعية ونؤطر تفكيرنا في السرد.

 

يقوم الاقتصاديون ومستشاروهم بتقييم المخاطر بمُساعدة الأدوات الإحصائية المستمدة من الاحتمالات، على أمل أن يسمح القياس الكمي للمخاطر علميًا لهم بإجراء مُقايضات ذكية حول المُستقبل. كتب العديد من الاقتصاديين لأكثر من نصف قرن حول الاختيار العقلاني أو الاختيار الأمثل، أي أن الناس عادة ما يلجأون لتعظيم المنفعة عند اتخاذهم للقرار. بناءً على هذا المُنطلق، يُفترض الاقتصاديون المعاصرون أنه مهما كانت النتيجة التي تتنبأ بها نماذجهم يجب أن تكون عقلانية بشكل بديهي، ولكن الاقتصاد عادة ما يتجاوز الحدود ويفشل البشر في التصرف وفقًا لهذه التوقعات. في سياق الاستثمار على سبيل المثال، يعتمد الكثير من المستثمرين في تنويع المحفظة الاستثمارية على نموذج تقييم الأصول (CAPM)، أو فاما فرينش (Fama- French)، ولكن معظم الافتراضات في بناء النموذج غير واقعية ولا تعكس الواقع، حيث إنَّ أغلب المستثمرين لا يقومون بالتنويع بطريقة مخططة. إلى جانب أنها لا تعكس التقلبات المستقبلية للعائدات، على الرغم من أنها تستند إلى البيانات التاريخية.

المشكلة الرئيسية مع الاقتصاديين والمتخصصين الماليين هي رغبتهم المختزلة في صياغة الألغاز والافتراضات . هل سيفوز فريق من آسيا بكأس العالم، أو كيف سيكون أداء بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي؟، ماذا سيعني تطور الذكاء الاصطناعي للبشرية؟ هذه الأسئلة بالتأكيد مُبهمة. الغد ليس مجرد استقراء اليوم؛ فلو تأملنا في طفرة الإنترنت أو التطور الصناعي خلال القرن الماضي، قد لا يُساعدنا على فهم العواقب الاجتماعية والاقتصادية لانتشار الذكاء الاصطناعي الذي ينتظرنا جميعًا. يستدعي جزءا كبيرا من عملية صنع القرار لدينا روايات مرجعية تتعلق بمن نحن، وكيف نعيش وما يجب أن نفعله. ويُشير الكتاب إلى أهمية السرد المرجعي للحصول على فكرة لرسم توقعات حول المستقبل، وبالتالي يمكن أن يكون السرد المصمم جيدًا مفيدًا في اتخاذ القرارات لحد بعيد. 

 

تناول الكتاب أيضاً النمذجة الإحصائية و التي تُستخدم لدى شركات الاستثمار و التمويل كأداة للتقييم، وغالبًا ما يعرف أولئك الذين يتحكمون في هذه النماذج بالضبط ما يريد المستفيدون سماعه. وقد أشارت شركة RiskMetrics الاستشارية إلى أن بعض المصرفيين يريدون نموذج الانحدار التلقائي المتجه (VAR)، لتبرير مستوى أعلى من كفاية رأس المال، لم تكن هذه سياسة قائمة على الأدلة ، ولكن تم إنتاج النمذجة لتبرير الهدف المنشود لواضعي النماذج. و يمكن القول إذا لم نفهم المخاطر، فنحن ببساطة نحاول تجنبها. ولذكر نصيحة الملياردير وارن بافيت، أن الابتعاد عن المقامرة أو الصفقة التي لا نفهمها هو الخيار الأكثر حكمة. لقد منحتنا قُدراتنا العقلية المتطورة ميزة نسبية في البقاء على قيد الحياة و مواجهة التغيرات، و التكيف مع مستجدات العالم الكبير. لذا فإن أي استنتاج إحصائي يدعي الحقيقة هو دائمًا فرضية مُشتركة تعتمد على صحة النموذج، وكفاية تقديرات معامله. ولكن، كيف يمكننا أن نبني نموذجًا إحصائيًا يمكن الاعتماد عليه في الاستدلال؟. في كثير من الأحيان، بصفتنا باحثين في الاقتصاد أو في المالية، نشبه السباك الذي يُريد حل الأمور حسب صندوق الأدوات الذي نملكه. في المقابل هناك مهن جادة مثل الطب والهندسة يحسنون اختيار الأداة لحل المشكلة؛ بدلاً من السعي إلى إعادة صياغة المشكلة لتلائم صندوق الأدوات المتاح. ويُشير المؤلفون إلى أن ما يحتاجه الاقتصاديون إلى صندوق أدوات يستطيع التكيف مع المتغيرات ويكون أكثر ثراءً في الاستدلال عند اتخاذ القرار. 

 

كثير من القرارات التي نتخذها تكون عبر حواسنا الغريزية وذلك وفق سياق الأحداث و العوامل الخارجية. على سبيل المثال، قرار العمل، أو فتح مشروع، أو تنظيم الأسرة قد تختلف بشكل كبير عما كنا مخططين له، يعنى هناك فجوة بين القرار الفعلي المتخذ، و القرار المنطقي الذي يجب اتخاذه. ويُشير الكتاب إلى أنه يمكن للسياق أن يُشكل الإدراك، ويضرب مثالاً على المحامي حيث يستخدم السرد كوسيلة تنظيمية لفهم الأحداث. ومن المفارقة، أن علماء الاقتصاد يصرون غالبًا على أن الاستنتاج بطريقة عقلانية ومنطقية للأحداث. إذا ظهر رجل ضخم ذو وشم على وجهه في المحكمة، فإننا لا نشجع على تأطيره على أنه سفاح عنيف؛ على الرغم من أنه قد يشترك في بعض الخصائص السطحية للمجرمين، وهذا الفخ الذي يوقعنا عند استخدام النموذج التقليدي السائد. ولكي نفهم الاقتصاد ونكون قادرين على عمل تنبؤات لائقة حول المستقبل، نحتاج إلى دراسة السرد الموجود في رأس قادة الصناعة والتنبؤ بكيفية رد فعلهم على مستجدات الساحة ، سواء كان ذلك تدريجيًا أو نوعًا من الصدمة. 

يستفيض الكتاب في سرد كثير من الوقائع، من ضمنها رؤية ستيف جوبز لجعل أجهزة الكمبيوتر لها رونق خاص، لكنه لا يزال بحاجة إلى إقناع العديد من المهندسين والمستثمرين وغيرهم لتنفيذ رؤيته. أدى عدم التوافق إلى مغادرة شركة آبل في عام 1985، ولكن عند عودته ، بدا أكثر استعدادا للتفاوض حول رؤيته مع الآخرين. إن إنكار الواقع يمكن أن يكون مفيدًا في حسم المواقف، إلا أن التفكير المتماسك مطلوب لتوسيع نطاق القرار والتي توظف الزملاء و المستثمرين لرؤية مشتركة جديدة.

يؤكد مؤلفا الكتاب، أن البيانات الضخمة بدون سرد شامل لهيكلها يُمكن أن تصبح عديمة الجدوى. المعرفة الإحصائية تُفقد قيمتها عند عدم فهم سياق الأحداث و العمليات، ومن ثم لا ينبغي أن ننظر إلى السرد على أنه بديل للاقتصاد القياسي التقليدي، ولكن باعتباره مكملاً ضروريًا له. أو يمكن القول يجب أن يكون هناك تكامل بين علم الاقتصاد السردي والعمل التجريبي التقليدي. 


في الختام، يبدو أن معظم أفكار الكتاب كأنها ردود أفعال للأزمة المالية، حيث يُركز على فكرة أن النماذج لم تعمل بشكل جيد في الأزمة المالية. على الرغم من مرور 10 سنوات على الأزمة، يبني كينج على كتابه السابق "نهاية الخيمياء" و التأكيد على فشل النماذج. يسعى المؤلفان إلى تحسين النهج و النموذج في التعامل مع عدم اليقين، وهو اقتراح جيد ولكن ليس بالمثالي. يحاول الكتاب المكون من 500 صفحة التمييز بين عدم اليقين القابل للقياس وغير القابل للقياس، حيث يجادل بأن معظم أحداث العالم الحقيقي تظهر عدم يقين جذري، وبالتالي فإن معظم النماذج الكمية للمخاطر عديم الفائدة. يُسارع المؤلفان في الادعاء بأن الظواهر غير مؤكدة جذريًا في حين أنها في الواقع قابلة للتتبع، ويقدمان مثالًا بعد مثال على الأحداث التي لم يكن من الممكن توقعها مسبقًا. إنهما محقان في أن صعود الهواتف الذكية كان من الصعب التنبؤ به ، لكنهما غالبًا ما يكونان مخطئين. حتى عندما تكون النماذج الكمية لعدم اليقين غير دقيقة، فإن هذا لا يعني أنها غير مفيدة. إنهما يسخران من ممارسة استخدام التحليل الكمي لعائدات سوق الأوراق المالية المستقبلية في التخطيط للتقاعد، لكنهما لا يقدمان أبدًا بديلاً جيدًا باستثناء المفهوم الغامض للسرد.

في هذا الكتاب العميق والعملي، يعترف كاي وكينج أنه في المجالات الحاسمة لا نستطيع معرفة ما يجري، ولكننا نظهر بمقدرة على التكيف مع المتغيرات. يجمع الكتاب طريقتين من التفكير: الأولى وهي البعد التقليدي والتي تتمثل عند التعامل مع المخاطر وعدم اليقين. أما الثاني فيتمحور حول دور القصص و الروايات في التحليل. يُعطي الكتاب بعداً آخر للتحيل وخاصة عند الدمج بين الطريقتين. حاز الكتاب على استحسان النقاد، وتم تصنيفه ضمن قائمة الفايننشال تايمز لأفضل الكتب الاقتصادية.

 

تفاصيل الكتاب: 

اسم الكتاب: عدم اليقين الراديكالي: اتخاذ القرار وراء الأرقام

المؤلف: John Kay and Mervyn King 

الناشر: W. W. Norton & Company

سنة النشر: 2020 

عدد الصفحات: 544

اللغة: الإنجليزية

أخبار ذات صلة