لغة خارج مكانها: الاستشراق، المخابرات واللغة العربية في إسرائيل

لغة خارج مكانها.jpg

يونتان ماندل

أحمد أشقر

في شهر تموز 2018 سنّ "الكنيست" الإسرائيلي (البرلمان) قانون القومية اليهودية، وبموجبه اعتُبرت أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي لليهود، و"دولة إسرائيل دولة للشعب اليهودي حصراً"، أي أنه صادر حقّ مواطنة العرب في إسرائيل، كما أنه صادر المنطقة الممتدة من الشواطئ الغربية للبحر المتوسط إلى تخوم الأنبار العراقية، معتبراً إياها "الوطن التاريخي للشعب اليهودي". هذا معناه اعتبار العرب الذين يعيشون فيها (جوييم)، أي سكاناً دون حقوق مواطنة تُذكر. وعمل القانون على تجريد اللغة العربيّة من صفتها الرسميّة التي كانت سارية في فلسطين، إلى جانب العبريّة والإنجليزية، منذ الانتداب البريطاني سنة 1922 إلى تاريخ سنّ القانون سنة 2018. وأكد قانون القومية اليهودية أن "اللغة العبرية هي لغة الدولة، وأن "اللغة العربية لها مكانة خاصة في الدولة، وتنظيم استعمال اللغة العربية في المؤسسات الرسمية أو في التوجه إليها يكون بموجب القانون". ويمكن القول إن السيطرة على الأرض وإقصاء أصحابها منها وتجريدهم من استخدام لغتهم الأم بحريّة هو تكثيف للمشروع الصهيوني الاستعماري وخطر وجودي على الشعب العربي في فلسطين.

يبحث الكتاب الذي بين أيدينا في تاريخ تدريس اللغة العربية وأسباب تدهور مكانتها في سياق الصراع على الأرض أثناء الحروب ومحطات التوتر و'الانفراج' المختلفة في فلسطين خلال القرن الأخير. ويتكون من مقدمة وستة فصول وخاتمة. 

تستعرض المقدمة معطيات هامة حول معرفة اليهود بالعربيّة وفقاً لاستطلاع شمل 500 يهوديّاً شارك الباحث (ماندل) بإعداده سنة 2015 فيقول إن 9.8% من المُستطلعين قالوا إن معرفتهم باللغة العربيّة عالية؛ و6.8% قالوا إن بإمكانهم التعرف على الأحرف العربيّة؛ وبإمكان 2.6% منهم قراءة نصّ قصير باللغة العربيّة؛ وبإمكان 1.4% منهم كتابة رسالة إلكترونية قصيرة باللغة العربيّة وفقط 1% يجيدون قراءة كتاب باللغة العربية. ويضيف أن "محو" العربيّة يجب أن يكون مقلقاً أكثر من محو لغات مثل الألمانيّة، الروسية، اليديش (العبرية الألمانية) واللادينو (العبرية الإسبانية) الذي حدث في سنوات الكيان الأولى، لأن اللغة العربية هي لغة التواصل في مناطق كثيرة في العالم وأقربها إلى اللغة العبرية، كما أنها لغة عرب البلاد (ص 11- 20). 

يبدأ الفصل الأول- عندما التقى كل من الصهيونية والعربيّة، في البحث عن العلاقات بين اليهود واللغة العربيّة التي دام مجدها بين يهود المشرق وظلت لغة الثقافة والفكر واللاهوت والطقوس اليهودية مدة ثمانية قرون، من القرن السابع إلى الخامس عشر. في تلك الفترة كانت اللغة العربيّة هي اللغة الأم عند يهود المشرق وتطوّرت بينهم بصيغة لا تزال تدعى بالعربيّة- العبريّة، أي لغة عربية بأحرف عبرية مع ملاءمتها للغة العبرية التي تشتمل على 22 حرفاً وعشر حركات، وقد كتب اليهود نحو 90% من إنتاجهم المذكور حتى القرن التاسع عشر بالعربيّة-العبريّة. 

حدثت أول مواجهة بين المهاجرين اليهود من الأندلس والعربيّة في فلسطين نهاية القرن الخامس عشر، حين اعتبر الأندلسيون اليهود أنهم ولغتهم أرقى من يهود فلسطين الذين نُعتوا من قبلهم بـ"المستعربين". أما الصراع الحقيقي ضدّ اللغة العربيّة فبدأ مع بداية المشروع الصهيوني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع ازدياد أعداد المُستعمرين اليهود من أوروبا الشرقية التي كانت لغتهم الـ(ييديش). وتم التعبير عنه بإقامة مؤسسات حديثة لتدريس العربيّة وأهمها (المدرسة العلمية في حيفا) سنة 1913، و(معهد أبحاث الشرق) في الجامعة العبرية سنة 1926 الذي يواصل نشاطه بصيغ مختلفة إلى يومنا الراهن. اعتمد هذان المركزان للدراسات الشرقية المنهج الفيلولوجي "اللاتيني" لتدريس العربية، الذي اعتبر العربية لغة ميتة مثل اللاتينية وتعامل معها عبر منهج فقه اللغة والنقل من العبرية للعربية والعكس، لدرجة أن قواعد النحو والصرف ومصطلحات مثل الفعل والفاعل والمفعول به وأحرف الجرّ كتبت بالأحرف اللاتينية والمصطلحات الوافدة من الألمانيّة، وتمّ تدريسها باللغة العبريّة من قبل أساتذة لا يجيدون الحديث والكتابة بها. وبعد الاحتلال والنكبة اعتُبر هذا المنهج غير مجدٍ للحركة الصهيونية فعملت على إدخال اللغة العربيّة ضمن المناهج والسياقات الأمنية والعسكرية (ص 21- 59). أثر المنهج اللاتيني على عدد لا بأس به من الطلبة العرب الذين بدأوا أو درسوا العربيّة في الجامعة العبرية تحديداً حين وجدوا أنفسهم أمام منهج دخيل من الصعب التأقلم معه. لذا انتقل بعضهم بعد فشله في مادة النحو والصرف لمواصلة الدراسة في جامعة حيفا لأنها الجامعة الإسرائيلية الوحيدة التي تُدرس العربيّة بالعربيّة وليست كبقية الجامعات التي تدرسها بالعبرية. ولا أزال أذكر زملائي من طلبة وأساتذة يؤكدون على أن قدرة الطلبة اليهود بالنحو والصرف والترجمة للعبرية أفضل من الطلبة العرب إلا أن مقدرتهم على كتابة النصوص العربيّة محدودة. كما شكل هذا المنهج امتعاضاً عند الطلبة العرب- المُسلمين أثناء دراستهم القرآن من قبل أساتذة لا يجيدون قراءة الآيات بصورة صحيحة، أو مُدرّسة القرآن التي كانت ترقص في النوادي الليليّة في حيفا 'لمتعتها'. نذكر هنا أن العلّامة بالعبرية والعربيّة الجنرال احتياط (يهوشوع بلاو) كان مترجم السادات أثناء زيارته القدس سنة 1977.

يبدأ الفصل الثاني- لغة أجنبيّة ثانية: العربية في المدارس اليهودية في إسرائيل، 1948- 1967 بمحاولة لفهم أسباب إبقاء الدولة على العربية كلغة رسمية إلى جانب العبرية والإنجليزية كما أقرّ ذلك الانتداب البريطاني سنة 1922. فينقل عن باحثين سابقين أسباباً مثل عدم إغضاب الرأي العام الدولي بعد التهجير والنكبة والتوجه الليبرالي للدولة. ويشدد الباحث (ماندل) أن إبقاء لغتين رسميتيّن في دولة واحدة من شأنه أن يُعمق الفُرقة والخلافات بينهما. في هذه الفترة سيطرت القوى الاستخباراتية للعصابات اليهودية على تدريس العربيّة بالمنهج اللاتيني. وبعد النكبة بدأ تقليص تدريس اللغة العربية لأنها لا تثير اهتمام اليهود وباتت الإنجليزية أكثر أهميّة منها. سار هذا التقليص في مسار موازٍ بإدخالها ضمن الاهتمامات والاستحقاقات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية تحت عنوان شبه رسمي: اعرف عدوك في أطر تعليمية "استشراقية". وفي أيار 1967 تم التنازل عن التسمية الاستشراقية وحلّت مكانها "خمس وحدات في العربيّة" وهي أعلى مستوى تدريس للغة العربية في المرحلة الثانويّة اليهودية. ويخلص الباحث (ماندل) بالقول: "ارتبطت العربيّة [تدريسها] بالاحتياجات الأمنيّة لدولة إسرائيل. لم تُستخدم للتقارب بين اليهود والعرب أو بين اليهودي [الشرقي] وثقافته العربيّة، بل على العكس تماماً: بإبعاد اليهود عن العرب والمنطقة" (ص 60- 107). بعد احتلال الجزء الثاني من فلسطين، سيناء والجولان، تنبهت القوى الأمنيّة والسياسية في الكيان لأهمية اللغة العربية. وهذا ما يناقشه (ماندل) في الفصل الثالث- بدأوا معركة: تدريس العربيّة في إسرائيل في ظل حربيّ- 1967، 1973 وإسقاطاتها فيقول بعد عشرين يوماً من انتهاء الحرب، في التاسع والعشرين من حزيران 1967، أرسلت وزارة التربيّة والتعليم تعميماً إلى المدارس اليهوديّة تطلب منها تدريس العربيّة فيها. بسبب نشوة الانتصار في الحرب أقبل كثيرون على دراسة اللغة العربيّة "اعتقاداً منهم بمستقبل زاهر". في هذه الفترة صار الثلاثي: الوزارة، والجامعات، والاستخبارات العسكرية وحدة واحدة في نشر وتحسين تدريس اللغة العربيّة لأن الجيش والاستخبارات باتا بحاجة إلى ضباط وموظفين، وجواسيس ومخبرين لحكم سكان الأرض المحتلة حديثاً وضبطهم. بعد حرب أكتوبر 1973 التي اعتبرها اليهود هزيمة نكراء زاد الاهتمام بالعربيّة وبات أكثر إلحاحاً إلى درجة أن لجنة التحقيق "أجرانات" التي شكلتها الحكومة لفحص هزيمة الجيش أشارت إلى أن "معرفة العربيّة بين أوساط استخباراتية رفيعة المُستوى لم تكن كافية" لذا عملوا على إقامة وحدات استخباراتية مختلفة بلهجات مختلفة ودمجها في الوحدة 8200، المعروفة بوحدة التجسس الإلكتروني (SIGINT). خلال هذه الفترة أصبح الطلب عاليّاً جداً على اليهود الشرقيين للعمل في أجهزة المخابرات المختلفة (ص 108- 135).

 يشرح الفصل الرابع- "لغة الأمن ولغة السلام": تدريس العربيّة في سنوات 1976- 1986 أسباب تحول تدريس العربيّة إلى لغة الأمن والسلام. فيبدأ تأريخها من لجنة (بيامينتا) التي شكلتها الحكومة من خبراء التربية والتعليم والاستخبارات العسكرية للبحث في تطوير تدريس العربيّة. قدمت هذه اللجنة توصيات بمصطلحات مدنيّة من مشتقات "التعايش المُشترك بسلام". يقول الباحث إن التوصيات جاءت في سياق أمني يدمج السلمي والأمني معاً. تعززت هذه النزعة مع توقيع مصر والكيان اتفاقية "كامب ديفيد" سنة 1978 حينها أخذت هذه النزعة بعداً جديداً عندما تمّ تعيين رئيس الدولة السابق، (يتسحاق نافون)، وزيراً للتربية والتعليم سنة 1984. (نافون) الذي كان جندياً واستخباراتياً ومدرساً للغّة العربيّة شكل لجنة لفحص وتطوير تدريس العربيّة. فعيّن الجنرال احتياط (نيسيم عتسمون) الذي كان يدير كلية الجيش لتدريس العربيّة. من الوثائق التي يعرضها ويحللها الباحث يتضح أن النقاشات بين الأمنيين والمدنيين كانت حادة إلا أنها لم تتمكن من إخراج تدريسها إلى الحيّز المدني الصرف فبقيت أسيرة مسار الأمن والسلام (ص 136- 169). في هذه الفترة أقبل يهود كُثُر على تعلم العربيّة في المدارس والجامعات. أثناء دراستي الجامعية في تلك الفترة وتجوالي بين المكتبات الجامعية للبحث عن مصادر لكتاباتي وأبحاثي صادفت طلبة يهوداً يدرسون العربيّة فعندما كانوا يتأكدون من هويتي القومية أو هويّة زملائي توجهوا إلينا بسؤال عن معنى كلمة أو ترجمة جملة ما. وبعد سنوات علمنا أن بعضهم أصبحوا ضباطاً في الإدارة المدنية في الضفة وغزة. ولا أزال أذكر أن ضابط المخفر في الجولان المحتل الذي تمّ توقيفي فيه في تلك الفترة كان "زميلي" في مساق (فصول مختارة من تاريخ الإسلام) في الجامعة. في تلك الفترة سافرت نساء يهوديات إلى القاهرة لدراسة العربيّة وقد أنشأت إحداهن سنة 2000 "دار أندلس للترجمة والنشر".

في الفصل الخامس- هل هناك احتمال لعربيّة أخرى؟ تدريس العربيّة خارج جهاز التربيّة: جفعات حبيبه وكليّة عكيفا، يكشف (ماندل) عن تعاون وثيق وشائك جداً بين مركزي (جفعات حبيبه) و(أولبان عكيفا)- من جهة؛ وجهاز الاستخبارات والجيش- من جهة أخرى؛ في تدريس العربيّة لأهداف أمنيّة واستخباراتية، خاصة إذا علمنا أن مركزي (جفعات حبيبه) و(أُلبان عكيفا) أقيما من أجل التعايش المشترك ويعملان على تنظيم لقاءات بين عرب ويهود لهذا الغرض. من الوثائق والمقابلات المختلفة التي يعرضها ويحللها الباحث يتضح أن الذي رسم وحدد سياق التدريس فيهما هو السياق الأمني- العسكري العام لتدريس العربية في الكيان والدعم المالي الذي تقدمه لهما الاستخبارات والجيش (ص 170- 203). كي نفهم أهمية (جفعات حبيبه) للاستخبارات والجيش يجب أن نشير إلى مكان تواجدها في وادي عارة على بعد أقل من كيلومتر هوائي من الخطّ الأخضر الذي يفصل حدود الكيان عن الضفة الغربيّة، ولها تعاون وثيق مع أهالي هذه المنطقة إلى درجة أن بعض قرى المنطقة كانت تعتبر في سبعينيات القرن الماضي دفيئات لتعليم العربيّة للمخابرات والجيش والجواسيس، وتخرج منها بعض السياسيين العرب في الماضي، كما برز بعض خريجيها من الرجال والنساء كمرشحين وداعمين لأحزاب صهيونية في (انتخابات الكنيست) التي جرت في 23 آذار 2021. وسمعتها بين الوطنيين من عرب 48 سيئة.

الفصل الأخير، السادس- من يريد تعلّم العربيّة؟ سياقات تربويّة واستخباراتية في القرن الحادي والعشرين، يُغطي الفترة من ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم ويُؤكد أن السياقات الأمنية والاستخباراتية لا تزال تتحكم بتدريس العربيّة ويقول (أيضاً) إن نصوصاً عن تصفية عباس موسوي وأبو جهاد ويحيي عيّاش تُدرس في المدارس، وإن العرب والمُسلمين كلهم أعداء بنفس المستوى إذ "لا فرق بين إيران والعراق وداعش". وينقل عن أحد مدرسي العربيّة اليهود قوله "يبدو أننا تأخرنا: صعب جداً تغيير مسار السفينة" (ص 204- 221). 

تصرّ إسرائيل على اعتبار العربيّة لغة العدو وتدريسها في السياقات العسكرية والاستخباراتية رغم أنَّها تعيش في فترة مليئة بالتحولات الإقليمية مثل اتفاقيات أوسلو ووادي عربة والعلاقات مع الخليج، تُعتبر "انفراجاً" بالنسبة لإسرائيل. ويخلص المؤلف في الخاتمة إلى القول إن تدريس العربيّة كما تدريس اللغة اللاتينية في السياق الأمني كان "تراجيديّاً". فبدل أن تقرّب العربيّة بين العرب واليهود باعدت بينهم وزرعت الشكوك بين العرب واليهود الذين يجيدون العربيّة ويعتبرهم العرب مخابرات وجواسيس. أنتج هذا المسار ما يسمى "لغة عربيّة إسرائيلية" قاموسها ومعجمها يقتصران على المصطلحات الأمنيّة والسياسية فقط (ص 223- 230). نفهم مما تقدم أن إسرائيل لا تريد سلاماً أو انفراجاً حقيقياً مع العرب. إن حصار العرب في قراهم، ووجود اليهود في مستعمراتهم وهم لا يجيدون لغة "جيرانهم" العرب ويعتبرونهم أعداءً، ليسهل على اليهود قمع العرب متى شاء الكيان، وهذا ما يحدث دائماً. وعملت إسرائيل كذلك على سلخ اليهود الشرقيين عن العربيّة، لغتهم الأمّ، باعتبارها لغة أعدائهم وحَشَتْهم بفكر استعلائي على الحضارة العربيّة إلى أن باتوا يدعمون أكثر الأحزاب والحركات السياسيّة يمينيّة في الكيان.

 

الكتاب: لغة خارج مكانها: الاستشراق، المخابرات واللغة العربية في إسرائيل

المؤلف: يونتان ماندل

الناشر: معهد فان لير والكيبوتس الموّحد، سنة 2020

عدد الصفحات: 282 صفحة

اللغة: العبرية

أخبار ذات صلة