فيديريكو رامبيني
فاتنة نوفل
شهدت العلاقات بين الشرق والغرب مراحل مختلفة من المحاكاة والتجانس والرفض، التجاوز وإعادة اكتشاف الجذور ومن المحتمل ألا تجد نقطة توازن أبدًا. الآن وقد أدى الوباء إلى سقوط كليهما، تبقى معرفة من الذي سينهض أولاً وأي النموذجين سيكون الفائز؟ "الشرق أم الغرب: أيهما يجعلك تحلم؟ أيهما يلهمك بالقلق؟ " هو السؤال المثير للاهتمام الذي يطرحه فيديريكو رامبيني في مقدمة كتابه، يهدف فيه إلى التحقيق في الجذور الثقافية لعالمين كان يُنْظر إليهما كنموذجين متعارضين، التقيا واشتبكا عدة مرات على مدار التاريخ، فهناك الروح الجماعية والروحانية لحضارة قديمة جداً من جهة؛ والفردية والمادية والديمقراطية من جهة أخرى، فمنذ عهد الإسكندر الأكبر ألهمت المواجهة والصراع بين الشرق والغرب رؤيتنا للعالم. اليوم، في جامعة هارفارد التي تعتبر الأفضل في أمريكا وربما في العالم، ومنذ سنوات كانت أكثر المواد التي يسعى الطلاب الذين يستعدون ليصبحوا الطبقة الحاكمة الجديدة في الولايات المتحدة لدراستها تلك التي يدرسها "مايكل بويت" أستاذ التاريخ والحضارة الصينية ليستوعبوا الحكمة الشرقية من دروسه وليتم تعيينهم كمديرين من قِبَل شركات التكنولوجيا أو من قبل بنوك وول ستريت.
البوذية والفلسفات الشرقية شقت طريقها إلى الطبقة الحاكمة، فالبوذية محبوبة لأنها تقدم روحانية بدون عقيدة، بدون قيود وبدون كنائس حقيقية وبدون مؤسسات. في الوقت الذي يبدو فيه أن الغرب قد انتصر وصدَّر نظامه الاقتصادي الرأسمالي إلى آسيا فإنه مُحَاصَر بالشكوك والشعور بالفراغ وهبوط القيم وفي الشرق "المُحْتَل" يحاول العثور على الردود على مخاوفه الوجودية.
تكمن قيمة الكتاب أيضًا في القدرة الكبيرة لرامبيني الذي يروي في بضع صفحات قرنًا كاملاً من التاريخ في سرد للأصول التاريخية والفلسفية وحتى الدينية المختلفة للشرق والغرب وربط الحقائق السياسية المختلفة بالأحداث الثقافية المهمة، لأن الثقافة أيضًا هي جزء من التاريخ الذي يعلمنا أن الغرب ليس فقط (أمريكا وأوروبا) ولا الشرق واحد (النظام الصيني)، ليتناول في الفصل الأخير الوباء والنهج المختلف للتعامل مع كوفيد-19 بين الشرق والغرب.
جوهر الكتاب هو المقارنة بين الغرب والشرق والتي ترافقنا وتطاردنا منذ 2500 عام والتي بدأت في ذلك الحين بعملاقين فكريين، كونفوشيوس وبوذا، حيث يُعْتَبر الأول نوعاً من علماء السياسة، والثاني مؤسس "ديانة إلحادية" (كما عرَّفها بريبة البابا يوحنا بولس الثاني)، لم يكن حينها الشرق بعيدًا لدرجة أن الكونفوشيوسية وصلت إلى الساحل السوري أي على ضفاف الغرب.
كان الإغريق هم أول من وضع فكرة التاريخ البشري على أساس التباين بين الشرق والغرب حيث يبدأ الكاتب مع هيرودوت المؤرخ اليوناني الأول منذ الحروب اليونانية الفارسية حتى عهد الإسكندر الأكبر، والتي قدم فيها الصراعات على أنها حروب تحرير كونها إمبراطورية هائلة برئاسة إمبراطور له صلاحيات إلهية مطلقة.
ألهمت الحروب الفارسية في القرن الخامس الإسكندر الأكبر فيما بعد بالسيطرة على الشرق كله بدءًا من الإمبراطورية الفارسية، ونجح في مهمته بالقيام بسلسلة من الهجمات لتصبح هذه الشخصية واحدة من أعظم الفاتحين في كل العصور، وصلت إلى شمال الهند وتُعْتَبر أول حلقة معروفة من الاحتلال الغربي والاستعمار لآسيا الذي لم يدم طويلاً لأنَّ الإسكندر مات صغيراً ومع ذلك، فقد ترك لنا إرثًا هائلاً. إن احتلاله لجزء كبير من الشرق سرَّع في تدفق الاتصال وتبادل الأفكار والاختلاط أو الصدام بين الأديان والقيم.
لبضعة آلاف من السنين وحتى بداية القرن السابع عشر كانت الصين والهند أغنى حضارتين في العالم كونهما عملاقين ديموغرافيين، وطالما أن الاقتصاد كان زراعياً بشكل أساسي فإن ثروة الأمة تتناسب مع حجم السكان. الإمبراطوريات المهمة الأخرى التي نشأت من بلاد فارس إلى العثمانيين اعتمدت بشكل كبير في ثرواتها على الارتباط بالعملاقين الآسيويين.
أولئك الذين حكموا الصين والهند في القرن السادس عشر لم يكن لديهم سبب منطقي للاعتقاد بأن الأوروبيين سيغيرون تاريخ آسيا. ثم فجأة يتسارع كل شيء ويؤدي إلى تمزق تاريخي وتحول جذري. إن افتتاح أسواق العالم الجديد وتَحَوّل الأمريكتين إلى فرع عملاق للزراعة الأوروبية، بالإضافة إلى اكتشاف مناجم الذهب والفضة في (بيرو والمكسيك) أربك السيولة النقدية العالمية ومنح أوروبا الموارد اللازمة لدعم طموحات جديدة.
لكن التسارع الحاسم في الأحداث جاء فقط في نهاية القرن السابع عشر مع الثورة الصناعية في اسكتلندا وإنجلترا، من اختراع المحرك البخاري والميكانيكا والعديد من الاختراعات الأخرى التي غَيَّرت قواعد اللعبة. منذ تلك اللحظة أصبح ذلك الشريط من الأرض المطل على المحيط الأطلسي مركز العالم، لذلك فهي قصة حديثة جدًا. لكن تلك القرون الثلاثة أو الأربعة على الأكثر والتي غزى فيها الغرب سيادة هذا الكوكب إلى حد تقرير مصير الشعوب العديدة والأقدم، تترك اليوم بصمة هائلة على مفهومنا عن أنفسنا وعن الآخر.
يُكَرِّس الكتاب نفسه بعمق لتحليل التطور التاريخي للسياسات التي تبنتها دول العالم الآسيوي حتى وضعها الحالي. نقطة البداية في دراسة المؤلف كانت الثورة الثقافية التي فرضها ماو تسي تونغ في الصين بنقل ملايين الفلاحين إلى المراكز الحضرية حيث كانت هناك حاجة إلى عملهم. أدى هذا الاختيار إلى انهيار المحاصيل التي تسببت في حدوث مجاعة في أواخر الخمسينيات والستينيات مع وفاة ما يصل إلى 37 مليونًا، وهو ثمن باهظ للغاية دفعه الصينيون لمطاردة نموذج التنمية في الدول الغربية بأي ثمن.
يتفوق دينغ شياو بينغ على رؤية ماو ويدفع الصين نحو نموذج للرأسمالية بالتوازي مع عمليات تحرير قوية لم يكن من الممكن تصورها سابقًا مثل الذهاب للدراسة في الغرب والسفر حول العالم.
يحلل الكتاب كذلك المجتمع الهندي الذي قَدَّم نفسه للعالم في التسعينيات كمجموعة ضخمة من علماء الرياضيات والكمبيوتر الشباب. كانت الهند أرض الأمل، أمة شابة جدًا غارقة في التقاليد البريطانية لمقاومة الاستبداد الصيني. لقد أشاد باراك أوباما نفسه بغاندي بإعلانه أنه كان مصدر إلهام له وأنه صاغ شعار "نعم نستطيع" واضعًا إياه نصب عينيه. لكن في انتخابات 2014، تم القضاء سياسيًا على ورثة عائلة غاندي وتأسس حزب مودي وهو تعبير عن اليمين الشعبوي الجديد الذي قلب صورة الهند في العالم: من أمة الأمل والمستقبل إلى أمة منغلقة على نفسها داخل حدودها وهي وفقًا لرامبيني النسخة الهندية لترامب وجونسون ولوبان وسالفيني.
في مناقشته، لم يهمل رامبيني حقائق تاريخية معينة مثل الهجرات التي كانت دائمًا من الشرق إلى الغرب ونادرًا ما تكون العكس، لكن عندما حدث هذا كان في حالة الاستعمار وهي ليست حلقة هامشية، في مرحلة معينة من التاريخ كان هناك فاصل بين نقاط القوة وفجأة انقلب كل شيء في نهاية القرن التاسع عشر ولم تعد عقدة النقص موجودة وذهب الغرب لغزو الشرق، وكان تقديم الشرق في إنسانيته وتاريخه وثقافته يشكل عامل حاسم في العصر الذي كان فيه الغرب يستعد لإستعماره. وفي القرنين الثامن والتاسع عشر على وجه الخصوص ضمت إمبراطوريتا إنجلترا وفرنسا مساحات واسعة من آسيا لإدارتها بشكل دائم واستخراج ثرواتها.
في هذا الوقت أخذت الفكرة تتبلور عن العالم الواقع شرق الدردنيل ومضيق البوسفور حيث لا تزال هذه الصورة تؤثر على العالم الغربي حتى اليوم، ليبدأ بعدها في دراسة الحضارات الشرقية والتاريخ والأديان واللغات بشكل منهجي من خلال تطبيق مناهج وتقنيات جديدة عليها.
في فصل الجراثيم وصدام الحضارات تعرض الكاتب للأوبئة في تاريخ الجنس البشري كجزء من علامات التحذير من موت نظام عالمي، لذلك لا مفر من التساؤل عما إذا كان فيروس كورونا أيضًا سيعلن نهاية نظام عالمي لعصر ما؟ وما هي الإمبراطوريات والحضارات التي سَتُهْزَم؟ من سينهض أولاً؟ آلاف السنين من المواجهة والصراع بين الشرق والغرب عادت إلى الأخبار واكتسبت فجأة معنى جديدًا وأهمية دراماتيكية في مواجهة هذا الاختبار.
لدى الصين إلمام قديم بالأوبئة، فمنذ وجودها كانت الحضارة الصينية حاضنة للأوبئة لسبب بسيط وهو أنها كانت دائمًا الأكثر اكتظاظًا بالسكان على وجه الأرض مع تركيزات عالية من السكان واختلاط كثيف بين البشر والحيوانات مما يجعلها مختبرًا مثاليًا لنقل الجراثيم.
يتضمن تاريخ الغرب سلسلة طويلة من الأوبئة القادمة من الصين كالطاعون الأنطوني الذي نشأ في الصين من أسرة هان وضرب الإمبراطورية الرومانية في عام 165 بعد الميلاد ودمرها لمدة خمسة عشر عاما كما ورد في مذكرات ماركو أوريليو وفي أعمال العديد من الكُتَّاب في ذلك الوقت. إن الطاعون الأنطوني أدى إلى إخلاء أوروبا من سكانها ولا تزال بعض المدن غير مأهولة بالسكان بعد انتهائه. هذا هو الاتساع والقدرة على التدمير الذي سجله علماء الأوبئة كأول جائحة عالمية في التاريخ.
من بين العدوى الأخرى التي ضربت الغرب من الشرق، كان هناك الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر الذي أخبرعنه جوفانني بوككاتشو في ديكاميرون ويسميه المؤرخون الوباء العالمي الثاني وهذا أيضًا ولد في الصين.
الوباء الثالث كذلك كان صينيًا وهو الطاعون بوببونيكا الذي تفشى لأول مرة في عام 1855.
لنأتِ إلى أيامنا هذه حيث نشأ الفيروس في الأسواق الصينية وهو يرجع إلى العادة السيئة المتمثلة في تجارة الحيوانات الحية من الخفافيش وغيرها من حاملات الفيروسات التي تنقلها إلى الإنسان وربما حدث هذا في ووهان، المدينة التي نشأت فيها الجائحة الحالية.
وهنا يجب التأكيد على أن دول الشرق الأقصى من كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة استجابت للفيروس بشكل أفضل من الصين، الدول التي كانت قبل بضعة عقود فقط في ظروف متخلفة، وبدلاً من ذلك، أصبحت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من بين أكثر الدول تقدمًا في العالم من ناحية اجتماعية وصحية واقتصادية (كالعمالقة مثل Samsung و Hyundai). ما فعلته الصين في وقت متأخر، فعلته تلك البلدان مبكرًا وبأساليب ديمقراطية من تتبع للفيروس والقضاء على بؤرة تفشي المرض وهذه الدول على عكس الصين، أعلنت دائمًا عن خياراتها وأبلغت الرأي العام بالمبادرات الصحية المعتمدة.
ولا بد من القول هنا إن هذه الشعوب ساعدت نفسها بطريقة حاسمة من خلال الحس المدني والاجتماعي العالي لديها بتغليب الصالح العام على مصلحة الفرد.
وفي الختام يتساءل الكاتب لماذا تستطيع الأوبئة العظيمة منذ آلاف السنين أن تقرر مسار التاريخ البشري؟ هناك تفسيرات منطقية. من ناحية أن للكارثة الصحية عواقب مباشرة على السكان فهي يمكن أن تدمر بعض المناطق الجغرافية، وتغير التوازن الديموغرافي وتخل بالعلاقات بين الفئات العمرية وتطيل أمد الضعف الجسدي لبعض الفئات حتى في مرحلة ما بعد الطوارئ. ثم هناك الصدمة الاقتصادية، التي تؤدي إلى إفقار المزيد من المجتمعات التي أضعفها المرض بالفعل. أخيرًا، يصبح الوباء اختبارًا لمرونة الحكومات والنظم السياسية والاجتماعية بأكملها وتضامنها وكفاءتها. لكل هذه الأسباب، يمكن أن يكون عالم ما بعد الوباء مختلفًا تمامًا، إذ تخرج الأمم أو الإمبراطوريات أو الحضارات منهكة، لكن بعض المنافسين يصمدون بشكل أفضل في الامتحان.
على أي حال فإن كوفيد-19 يمثل نقطة أساسية ليكون لدينا ما قبله وما بعده كما حدث مع الهجوم على البرجين التوأمين في 11 أيلول/سبتمبر 2001 في أن العالم لن يكون نفسه مرة أخرى.
العنوان: الشرق والغرب، الجماعة والفرد
المؤلف: فيديريكو رامبيني
دار النشر: إيناودي
بلد الاصدار: إيطاليا
لغة الكتاب: الإيطالية
تاريخ الاصدار: أيار 2020
عدد الصفحات: 276
