المتظاهر العظيم

the great pretender.jpg

سوزانا كاهالان

طلال اليزيدي

 

كافح الأطباء لقرون لتعريف الجنون، كيفية تشخيصه، وكيفية علاجه، وحاولوا التعرف عليه عن كثب بحثًا عن إجابة. في السبعينيات من القرن الماضي، عالم نفسي من جامعة ستانفورد يُدعى ديفيد روزينهان (David Rosenhan) وسبعة أشخاص آخرون -أعضاء عاقلون وأصحاء ومنضبطون جيدًا في المجتمع- التحقوا مُتخفين بمصحات في جميع أنحاء أمريكا لاختبار شرعية تسميات الطب النفسي. على الرغم من صحتهم العقلية الجيِّدة أُجبر الثمانية على البقاء في الداخل حتى يثبتوا أنهم عاقلون، وخرجوا بتشخيصات مُقلقة وقصص أكثر إثارة للقلق عن علاجهم. دراسة روزينهان وضَّحت الخلل في مجال الطب النفسي؛ إذ أظهرت الدراسة مدى سهولة التشخيص الخاطئ لأشخاص عقلاء من خلال مهنة لديها ثقة كبيرة في تشخيصها وتراكم مع هذه المهنة عبر الزمان قدر هائل من القوة. نتائج هذه الدراسة أغلقت مؤسسات وغيَّرت تشخيص الصحة العقلية إلى الأبد. تعود هذه القصة مرة أخرى بعد أن قررت كاهالان تعقب هؤلاء المتطوعين، أو "المرضى الكاذبين" في كتابها "المتظاهر العظيم". في بادئ الأمر اعتقدت كاهالان أنَّها حطت على لغز بدا أنه فقد بضع قطع فقط لتدرك لاحقاً مدى غرابة تلك القصة. 

 

كاتبة الكتاب سوزانا كاهالان (Susannah Cahalan) كانت تعمل مراسلة في (New York Post ) في عام 2009 عندما أصيبت في سن 24، بما بدا أنه نوع من انفصام الشخصية المصحوب بجنون العظمة (Paranoid schizophrenia). كانت تعتقد أن نوعاً من الحشرات كان يغزو شقتها، وأن والدها حاول اختطاف وقتل زوجته الثانية، وسمعت أصواتًا في رأسها، وتحدثت بطريقة أشبه بالثرثرة، ولم تكن قادرة على النوم، وأصيبت بالتصلب العضلي. الإصرار من والديها، وسلسلة إضافية من الاختبارات، أدت إلى اكتشاف مرض نادر للغاية من أمراض المناعة الذاتية كان يهاجم دماغها، فقد أنقذها هذا التشخيص من اللجوء إلى جناح الطب النفسي. لو ترك مرضها من دون تشخيص، كان من الممكن أن يترك وظائفها المعرفية متضررة بشكل لا يمكن إصلاحه. تجربتها المروعة هذه كانت موضوع كتابها الأول "دماغ مشتعل" (Brain on fire). على الرغم من تلقيها العلاج الذي احتاجته في النهاية، المحنة المضنية تلك غيرت توقعاتها وأفكارها عن مهنة الطب وعن إحساسها بذاتها. 

 

 قادتها قصة النجاة تلك إلى البحث في تاريخ المرض العقلي وعلاجه في كتابها "المتظاهر العظيم". بشكل حتمي قادها بحثها إلى واحدة من أكثر التجارب سيئة السمعة، دراسة عام 1973 عنوانها "على أن تكون عاقلا في أماكن مجنونة" (On Being Sane in Unsane Places) التي أجراها عالم النفس في جامعة ستانفورد ديفيد روزينهان. الدراسة تسرد نتائج تجربة ديفيد روزينهان وأصدقائه الثمانية عندما خدعوا الأطباء النفسيين وتم إدخالهم في عنابر المصحات النفسية الآمنة. ورقة روزينهان واحدة من أكثر الأوراق التي أعيد طبعها واستشهد بها في أدبيات الطب النفسي. تسبب نشر هذه النتائج في إثارة ضجة كبيرة في عالم الطب النفسي، حيث تم الكشف عن إدعاءات اليقين الموضوعي في التشخيص على أنها خدعة وعلاج عشوائي وغير صالح. 

 

نظرًا لتجاربها الخاصة مع الاضطراب النفسي والعقلي، وطبيعتها الفضولية في الاستقصاء، انجذبت كاهالان إلى إعادة فحص قصة روزينهان وتداعياتها في ممارسة الطب النفسي. كانت نتيجة هذا الاستفسار هي هذا الكتاب المكتوب بشكل سلس، والذي تحاول فيه تعقب "المرضى الكاذبين" الثمانية المجهولين وفحص حقائق دخولهم المستشفى. كانت كاهالان مفتونة بدراسة روزينهان لأنها أثرت في تجربتها الخاصة. عندما قرأت "على أن تكون عاقلًا في أماكن مجنونة" أدركت أن المرضى الكاذبين كانوا مثلها تماماً. لولا الطبيب الذي حدد الالتهاب في دماغها الذي كان يسبب لها المرض العقلي، لكان من الممكن أن تكون كاهالان مثل المتطوعين في تجربة روزينهان، زج بها إلى داخل نظام الصحة العقلية المعطل من دون عودة. توفي روزينهان في عام 2012، وأشار النعي الذي كتبه قبل وفاته إلى تجربته الشهيرة، عرض في نعيه ملاحظاته الميدانية الأصلية غير المنشورة؛ نتيجة لذلك أصبحت الكاتبة كاهالان قادرة على تجميع القصص غير المروية لأبحاثه واختبار صحتها مقابل الواقع والحقائق المنشورة في ورقته البحثية. 

 

شرعت كاهالان في كتابها على العثور على المتطوعين الثمانية، وجميعهم لم يتم تحديد أسمائهم الحقيقية في الورقة العلمية، تم التعرف عليهم فقط بأسماء مستعارة في ملاحظات روزينهان. سرعان ما علمت أن المريض الكاذب المسمى "ديفيد لوري" هو روزينهان نفسه، الذي توفي في عام 2012، بعد سلسلة من السكتات الدماغية المنهكة. التقت في النهاية مع اثنين من المتطوعين الآخرين. تم تضمين واحد منهم فقط في الدراسة المعروضة في ورقة روزينهان، استبعد الثاني من دراسة روزينهان لكونه "زيف جوانب من تاريخه الشخصي" على حسب ما ذكر روزينهان في ملاحظاته. لكن كاهالان اكتشفت أن هذا المتطوع تم استبعاده لسبب آخر. كاهالان تعقبت المتطوع، المريض الكاذب، "بيل أندروود". الذي كان يملك نوعا من الاتزان العاطفي لدرجة أن روزنهان تساءل عمَّا إذا كان بإمكانه الكذب بكونه مريضاً نفسياً، هذا التساؤل يظهر تحيز الباحث في تقصي البيانات لتشويه فعالية المصحات النفسية. على كل حال، تم قبول أندروود لمدة 9 أيام بتشخيص انفصام الشخصية المصحوب بجنون العظمة. ذكر روزينهان أنه أعد المتطوعين بعناية فائقة للتأقلم في المصحات النفسية، منها ما تذكره أندروود أنه كان لديه إرشادات موجزة من روزينهان حول كيفية إخفاء الحبوب في خده بدلًا من ابتلاعها. وذكرت الورقة العلمية المنشورة أن أندروود أمضى 7 أيام في مستشفى به 8000 مريض، لكن في الواقع تحقيق كاهالان كشف أنه أمضى 8 أيام في مستشفى مع 1500 مريض. المريض الكاذب "هاري لاندو" تم استبعاده من التقرير النهائي في الورقة البحثية لأنه اعترف بتجربة إيجابية للعلاج، أشار روزينهان في ملاحظاته الشخصية التي حصلت عليها كاهالان بارتياب "إنه يعجبه" يقصد العلاج النفسي. فقد تم قبول المتطوع "هاري لاندو" في الرعاية النفسية خلال فترة صعبة في حياته ووجد نفسه يستفيد من بيئة داعمة. كان لروزينهان قصة يرويها عن المؤسسات البائسة التي أساءت استخدام السلطة، لكن كانت بيانات واضحة للمتطوع هاري على فعالية هذه المؤسسات، التي من شأنها أن تعطل بلا هوادة الصورة القاتمة التي رسمها روزينهان عن مؤسسات الصحة النفسية. لذلك روزينهان قرر استبعاد بيانات المتطوع هاري لاندو من ورقته البحثية. هوية المرضى الكاذبين الخمسة الآخرين المتطوعين في التجربة كانت أشبه باللغز، كاهالان استنتجت أنهم ملفقون بالكامل، هذا الاكتشاف يقضي أيضاً على احتمال وجود بعض الأخطاء القابلة للتصحيح في الدراسة. 

جهودها في تحقيق ورقة روزينهان لم تعرف الكلل لدرجة أنك تصدق حدسها بأن تاريخ الحالات الخمس الأخرى ربما تمَّ اختلاقه ببساطة. حتى التجربة التفصيلية لهؤلاء المرضى التي تمكنت من فحصها لا تتوافق مع ادعاءات روزينهان. المثير للدهشة يبدو أن روزينهان قام بتزوير أجزاء من ورقته العلمية. بدا بعضها وكأنه إهمال، أو تدوين ملاحظات باستهتار، لكن كاهالان أمسكت به أيضًا "يملأ الفجوات بافتراءات صريحة." في تحقيقها تمكنت من الحصول على سجل دخول روزينهان إلى مستشفى هافرفورد ستيت في عام 1969، وتفاجأت بالفرق بين ما سجله الطبيب في تقرير الدخول ونسخة روزينهان في ورقته البحثية. على الرغم من الاهتزازات الظاهرة في المنهجية التي لاحظها المعارضون لدراسة روزينهان في ذلك الوقت وأكدت في الكتاب، النتائج التي توصل إليها روزينهان كان لها تأثير هائل على ممارسة الطب النفسي في جميع أنحاء العالم. في غضون عقد من الزمان، الحركات المناهضة للطب النفسي، المبنية على مخاوف من المصحات على أنها شكل من أشكال الرقابة الاجتماعية، تمكنت من إغلاق 50٪ من مؤسسات الصحة النفسية الأمريكية. تصف كاهالان تشويه روزينهان المتعمد للمصحات النفسية بأنه "مثير للغضب"، وتنتقده على أنَّه "ضيع فرصة لخلق شيء ثلاثي الأبعاد، شيء فيه بعض من الفوضوية، ولكنه أكثر صدقًا." ولكن لو نشر روزينهان شيئًا أقل جاذبية وأكثر دقة عن المصحات النفسية في تلك الحقبة، فمن المحتمل أن يتم نسيانه في فترة انتشار الأفكار المناهضة لتلك المؤسسات. بحلول عام 1973 كان الجمهور الأمريكي مستعدًا بالفعل لتصديق القصة الأكثر تطرفًا وتشويهًا لمؤسسات الصحة النفسية كالتي بدأ روزينهان في روايتها. حظيت ورقته البحثية بالكثير من الاهتمام على وجه التحديد لأن روايته الواضحة المناهضة للمؤسسة تتماشى بدقة مع الحركات المناهضة للمؤسسة في تلك الفترة.

كاهالان في كتابها كشفت أن التحذيرات المشينة للمصحات النفسية ليست في محلها، بل تعيق الفوائد المرجوة من هذه المؤسسات. تجادل في كتابها بأن "ورقة روزينهان على الرغم من المبالغة فيها وحتى المخادعة، تطرقت إلى الحقيقة من دون ذكرها صراحة بينما كانت تشكك في فاعلية المصحات". تلك الحقيقة هي ما كشفته كاهالان في تحقيقها عن "دور السياق في الطب"، سياق الحالات الكاذبة قبل تشخيصها التي لم يتطرق إليها روزينهان في ورقته، وأهمية الشك التشخيصي وكذلك الإيمان بفعالية الطب النفسي. كاهالان صادقة بما يكفي في كتابها حيث قدمت قضايا مهمة وحيوية لكل من الادعاء ضد ورقة روزينهان والدفاع عن الورقة.

يُقرأ كتاب المتظاهر العظيم كقصة بوليسية، حيث تكشف كاهالان عن أدلة محيرة في لحظات مناسبة حتى يتمكن القارئ من تجربة إثارة الاكتشاف معها. صوتها دافئ وغالبًا ما يكون ساحرًا. في ثنايا كتابها وصفت ابن روزينهان بأنه "نوع من دمية الدب التي لا يمكنك إلا أن تحتضنها". هذه اللطافة والود الذي تملكه كاهالان للآخرين ربما دفع بعض المصادر من الأشخاص المترددين للتحدث عن ورقة روزينهان، فأرسل لها رجل بعض المعلومات الهامة عندما كان في المراحل الأخيرة من سرطان البنكرياس، ووافق مصدر آخر على مقابلة في دار رعاية المسنين قبل عيد ميلاده المائة. بدون تقرير كاهالان الجريء، ربما ضاعت حقيقة روزينهان وورقته البحثية. 

في النهاية، سلكت كاهالان خطاً دقيقاً بين إدانة روزينهان ومسامحته؛ على الرغم من كل مبالغاته وأكاذيبه الصريحة، تقول: "أعتقد أنه كشف شيئًا حقيقيًا". يظهر كتاب "المتظاهر العظيم" روزينهان وورقته البحثية على ما هما عليه من دون أي تشويه أو تظليل للنتائج التي توصل إليها روزينهان، ولكن الكتاب يظهر لنا أيضًا شيئًا آخر فالتظاهر باليقين (كتظاهر روزينهان وأصحابه بالمرض النفسي) قد يكون مغرياً، ويمكّن من الحصول على ميزة تكتيكية مؤقتة، لكن انتصاراته غالبًا ما تكون هشة. بدلاً من الغطرسة بالحقائق العلمية التي تحتمل الخطأ، ينصح كتابها بالتواضع. كما قال أحد الأطباء النفسيين في جامعة أكسفورد بتردد: "أعتقد أننا يجب أن نكون صادقين باعترافنا بمدى محدودية فهمنا". 

 

الكتاب: المتظاهر العظيم 

الكاتبة: سوزانا كاهالان

الناشر: Little Brown Import 

سنة النشر: 2019 

عدد الصفحات: 400 صفحة 

أخبار ذات صلة