توماس ليفنسون
محمد السالمي
توفر الفقاعات المالية مادة مُثيرة وخصبة للمؤرخين، لأسباب ليس أقلها أنها غالبًا ما تكون مصحوبة بمحاولات وابتكارات مالية، إلى جانب الأزمات المصرفية. ويجدر الإشارة إلى أن العالم قد مرَّ بالعديد من الأزمات والمتمثلة في انهيار سندات الرهن العقاري، أو إخفاق شركة إنرون الذريع، مرورًا بالأزمة المالية في عام 2008 والتي تُعد أحدث الأمثلة على ذلك.
يبحث الكتاب الجديد لتوماس ليفنسون، "المال دون مُقابل"، في أصول وأهمية فقاعة البحر الجنوبي في بريطانيا، حيث قامت شركة بحر الجنوب البريطانية بتعويم الأسهم لخفض الديون العامة لبريطانيا، ولكنها انهارت بعد ذلك في عام 1720م، مما أدى إلى خسارة العديد من المستثمرين. ويروي الكتاب أيضًا عن اللحظة التي اصطدمت فيها احتياجات الحرب واكتشافات الفلسفة الطبيعية بطموحات المستثمرين، أو بكيفية تشابك الثورة العلمية مع التمويل لوضع إنجلترا وكذلك العالم في توجه جديد تمامًا لعالم المال.
ويشير ليفنسون في أطروحته العامة إلى أنه بحلول مطلع القرن الثامن عشر، خلقت قوة الرياضيات وعادات الملاحظة المرتبطة بالثورة العلمية طرقًا جديدة للتفكير في المستقبل. وفي الواقع، طور أمثال نيوتن وإدموند هالي، إطارًا رسميًا للتفكير في المال والمخاطر وعدم اليقين، والذي آتى ثماره بالكامل في الهندسة المالية التي ميزت فقاعة عام 1720م. وهذه القصة الشاملة تحكي عن كيفية قيام رواد الثورة العلمية بتطبيق أفكارهم الجديدة على الناس والمال والأسواق، وعلى هذا النسق وصلنا إلى التمويل الحديث.
وللتعريف بالمؤلف، توماس ليفنسون فهو أكاديمي أمريكي وكاتب علمي ومخرج أفلام وثائقية، ويعمل حالياً أستاذاً للكتابة العلمية ومديرًا لبرنامج الدراسات العليا في الكتابة العلمية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وقد ألف ستة كتب، أبرزها "فك رموز الكون" والتي تم إدراجها في القائمة المختصرة لجائزة إنسايت للاستثمار العلمي من الجمعية الملكية لعام 2016م.
في القرن الثامن عشر، كانت أموال إنجلترا تنفد بسبب الحرب الطويلة مع فرنسا، فحاول البرلمان جمع أموال إضافية عن طريق بيع الديون للمواطنين، وأخذ الأموال مع الوعد بالفائدة لاحقًا، ولكن على الرغم من اتباعهم لهذه الخطة، كانوا مازالوا بحاجةٍ إلى المزيد من المال؛ ولذلك لجأوا إلى سوق الأوراق المالية، وهي خطوة تعتبر جديدة نسبيًا، فكانت النتيجة أن ديون الحكومة البريطانية أصبحت قابلة للتداول لأول مرة، مما يضمن ميزة تنافسية طويلة الأمد في تمويل الحرب على فرنسا. ويشير الكاتب أنه تم تطبيق قوانين نيوتن لمعرفة التغيير في الفائدة مع مرور الوقت، والتي تم تطبيقها على حركات الكواكب والعالم الطبيعي، وسرعان ما وجدت مساحة في عالم المال. وعلى سبيل المثال، ما نوع العوائد المستقبلية التي يمكن أن يتوقعها الشخص من استثمار اليوم؟ يمكن للثورة العلمية أن تساعد. في مركز سوق الأوراق المالية في لندن، وضعت شركة بحر الجنوب مخططًا لتحويل أجزاء من الدين الوطني إلى أسهم في الشركة، وخلال ربيع عام 1720م كانت الخطة ناجحة ببراعة. تضاعفت أسعار الأسهم، مما جعل الجميع في لندن من التجار إلى أمير ويلز متورطًا في هوس المال الذي استهلك الناس والصحافة وجيوب الإمبراطورية. وللإشارة للعلوم الطبيعية، تخضع التجارب للقوانين الصارمة. من جهة أخرى، كانت الثورة المالية عرضة للتجربة والخطأ على نطاق واسع، مع عواقب مأساوية، ومدمرة في بعض الأحيان على حياة الناس.
وللخوض في تاريخ شركة بحر الجنوب، فقد تأسست في يناير من عام 1711م، كشراكة بين القطاعين العام والخاص لتوحيد وخفض تكلفة الدين الوطني، ولتوليد الدخل، مُنحت الشركة لاحقا حقوقا احتكارية في تجارة بريطانيا في البضائع والعبيد المتجهة إلى مستعمرات إسبانيا في أمريكا الجنوبية. عندما تم إنشاء الشركة، شاركت بريطانيا في حرب الخلافة الإسبانية وسيطرت إسبانيا والبرتغال على معظم أمريكا الجنوبية. لكن الشركة لعبت أيضًا دورًا آخر، حيث عمدت الحكومة البريطانية للمساعدة في إدارة ديونها. في يناير 1720م، تبنت شركة بحر الجنوب مناورة مالية طموحة من شأنها تحويل الدين الوطني البريطاني بأكمله. يمكن لأي شخص يمتلك سندات أو أقساطًا سنوية أو أي ورقة مالية رسمية أخرى من استبدال ممتلكاته بأسهم الشركة، وهي فرصة اللعب لتحقيق مكاسب في سوق الأسهم، بدلاً من مجرد تدفق متواضع من مدفوعات الفائدة. في المقابل، ستخفض الشركة السعر الذي يتعين على الخزانة دفعه على ديونها. كل ما كان مطلوبًا حتى تنجح الخطة هو ارتفاع أسعار الأسهم، وهذا ما حصل، حيث ظلت مرتفعة بما يكفي لإقناع حاملي السندات الحكومية. لم تحقق الشركة أبدًا أي ربح كبير من احتكارها. ومع ذلك، ارتفعت قيمة أسهم الشركة بشكل كبير حيث وسعت عملياتها في التعامل في الديون الحكومية، وبلغت ذروتها في عام 1720م قبل أن تنهار فجأة إلى أعلى قليلاً من سعرها الأصلي. وهكذا نشأت الفقاعة الاقتصادية سيئة السمعة، والتي دمرت آلاف المستثمرين، وأصبحت تعرف باسم فقاعة بحر الجنوب. كانت أحداث عام 1720م بمثابة تجربة مبكرة في الهندسة المالية، ولكنها سرعان ما سارت بشكل سيئ.
يسهب توماس في فقاعة بحر الجنوب، ويشير إلى أنه لا توجد شخصيات نبيلة نزيهة. تطرق الكاتب إلى جون بلانت، سكرتير شركة البحر الجنوبي وأحد المهندسين الرئيسيين للمخطط، وكذلك إلى روبرت والبول، الشخصية البرلمانية الذي يُنظر إليه على أنه أول رئيس وزراء حقيقي في نظام الحكم البريطاني، وأحد المنخرطين في الأزمة. المدهش في القصة أن شعور الإنسان بالعواطف تجاه المال كان مألوفًا للغاية. حتى العالم نيوتن، وعلى رغم من خلفيته الرياضية والفكرية، والذي يعزى إليه الحذر في الاستثمار، وفي قياس المخاطر، كان أيضا عرضه للطمع.
تطرق المؤلف إلى خسارة نيوتن في فقاعة بحر الجنوب، وعن سبب اللجوء الى ذلك الاستثمار، والذي يعطي صورة واضحة أكثر لماذا بدت الفكرة جيدة في ذلك الوقت للناس. الكثير من الأشياء التي نفكر بها كجزء من أسواقنا المالية في القرن الحادي والعشرين كانت موجودة بالفعل في عام 1720م. هل ما زلنا نمتلك نفس الديناميكيات التي تسببت في تلك الكارثة؟. يرى توماس، أننا أصبحنا أكثر ذكاءً، و الحسابات الكامنة وراء الأسواق المالية أصبحت أكثر تعقيدًا، لكن البنية الأساسية للانهيارات والفقاعات المالية لازالت متشابهة.
أهم ما تمَّ استخلاصه من الكتاب هو أنه على الرغم من أن فقاعة بحر الجنوب كانت كارثة لأولئك الذين فقدوا كل أموالهم، إلا أنها نجحت. استطاعت بريطانيا بشكل فريد بين الدول تمويل التزاماتها الوطنية؛ حيث أدى ذلك إلى إنشاء أول سوق سندات حديث. إذا كنا نعتقد أن التمويل تقنية، فهذه تقنية قوية بشكل لا يصدق؛ لأنها تسمح لنا باستئجار الأموال من المستقبل، واستخدم هذا المال في الوقت الحاضر للقيام بأشياء تساعد في بناء ثروة في المستقبل، وبالتالي جعل المستقبل أكثر ثراءً مما كان يمكن أن يكون.
يوضح الجزء الأول من الكتاب كيف ترتبط الثورة العلمية والثورة المالية ارتباطًا وثيقًا. إنهم جزء من نفس الظاهرة، يسكنهم جزئيًا نفس الأشخاص وتقودهم عادات تفكير متشابهة. الفكرة الأساسية هي أن التجربة والقياس الكمي يسمحان لنا بتطبيق التفكير المنضبط على شكل حسابات للتوصل إلى رؤى لا تتوفر بأي طريقة أخرى. ويليام بيتي، هو عالم متعدد الثقافات كان مؤسسًا للجمعية الملكية، طبق عقيدة الأرقام والقياس والمراقبة على المشكلات العملية مثل تقييم ثروة ايرلندا. بينما طبق إدموند هالي الحسابات لتوفير الأسس للتأمين على الحياة. كما تضمنت الثورة العلمية أشياء مثل ما الذي يحكم حركة المشتري. بالإضافة، إلى كيف يجب أن نفكر في الاحتمالات والمخاطر في حياة الإنسان.
تبرز الموضوعات الأكبر للكتاب: كيف ظهرت الأفكار الحديثة حول المال والائتمان، وكيف ما زلنا عرضة لنفس المخاطر التي أدت إلى تجارب بريطانيا الأولى مع الاختراع المالي. يطور الكتاب موضوعين: أولاً، أن تقدم الثورة العلمية وتطبيقها على الحصول على الأموال والإنفاق خلق أفكارًا تجريدية جديدة حول المال، وتحويله من شيء مادي بالكامل مثل النقود التي في جيبك، إلى مفهوم رياضي أكثر بكثير من المال أو الأسهم أو السندات أو التأمين التي يمكن أن تتطور بمرور الوقت.
يؤكد توماس أن مثل هذه الأفكار أدى بالفعل إلى صفقة سيئة للغاية في قضية بحر الجنوب، ولكنه ساعد مبدئيا على تقوية الإمبراطورية البريطانية، والانتشار في جميع أنحاء العالم. وكما أثبتت فقاعة بحر الجنوب، فإن قوة التمويل الحديث تحمل في طياتها مخاطر كبيرة، والتي أنتجت على مر القرون نفس الأنواع من الإخفاقات مرارًا وتكرارًا، وصولاً إلى كوارث مثل الأزمة العالمية التي بدأت في عام 2008. ويشير المؤلف إلى أن التحركات لحماية أنفسنا بعد انهيار عام 2008 قد تم تقويضها بالفعل. إسحاق نيوتن، أذكى رجل في عصره، خسر ثروة كبيرة في فقاعة بحر الجنوب. ولكن يمكن أن يغفر له عدم فهم ما كان يحدث، لأنها كانت المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الكارثة. حتى الآن من المستحيل القول متى ستضرب الأزمة المالية القادمة. ولكن على عكس نيوتن، لدينا ثلاثمائة عام من الخبرة التي تخبرنا بقدومها.
يوثق هذا الكتاب مخاطر التمويل الحديث، ويوضح أن معظم الابتكارات المالية تتم من خلال التجربة والخطأ. هذه الطريقة ضرورية ولكنها قد تكون كارثية. يُظهر كتاب توماس ليفنسون "المال دون مقابل"، أن الدروس المستفادة من فقاعة البحر الجنوبي تنطبق اليوم بقدر ما كانت تنطبق في ذلك الوقت. تزامنت الثورة العلمية مع الوقت الذي احتاجت فيه إنجلترا إلى الابتكار المالي. يثبت هذا الكتاب أننا غالبًا ما نفشل في التعلم من التاريخ، خاصةً عندما يكون من السهل كسب المال. حاز هذا الكتاب على استحسان النقاد، وتم تضمينه في قائمة الفايننشال تايمز لأفضل الكتب الاقتصادية لهذا العام.
تفاصيل الكتاب:
اسم الكتاب: المال دون مقابل: العلماء والمحتالون والسياسيون الفاسدون الذين أعادوا اختراعَ المال وذَعَروا أُمّةً وجعلوا العالَم غنيًّا
المؤلف: توماس ليفنسون Thomas Levenson
الناشر: Random House
سنة النشر: 2020
اللغة: الانجليزية
عدد الصفحات:430 صفحة
