نوربرت إلياس تقديم إتيان آنهايم
سعيد بوكرامي
ينفض إيتيان أنهايم الغبار عن كتاب منسيّ، لم يُنشر في فرنسا من قبل. وهو لأب علم الاجتماع التاريخي المعروف نوربرت إلياس (1897-1990)، والذي خصصه لسبر تاريخ العصور الوسطى ودور الدينامية الاجتماعية الفردية والجماعية في عملية التطور الحضاري. في عام 1939 نشر الكتاب في سويسرا، لكنه استقبل، بشكل عام، بلامبالاة غريبة. في الواقع لم يحظ هذا الكتاب التحفة بالاهتمام والنجاح الكبير وغير المتوقع إلا في السبعينيات من القرن الماضي.
يسعى هذا الكتاب الصادر حديثا بتقديم وتحقيق للأكاديمي المرموق إتيان آنهايم إلى استعادة تاريخ كتاب غاب عن الترجمة الكاملة إلى اللغة الفرنسية منذ عام 1975، التاريخ الذي أضحى فيه الكتاب مشهوراً عالمياً، خصوصا في طبعته الإنجليزية. وقد شكل الكتاب أهمية علمية بالغة منذ المجلد الثاني "حول سيرورة الحضارة" الصادر عام (1939)، إن إعادة قراءة هذا العمل العظيم الذي أنجزه عالم الاجتماع الألماني نوربرت إلياس يساعد على تسليط الضوء على التكوين الفكري والمفاهيمي لعالم الاجتماع ومكانة العصور الوسطى في نشأة الحضارة الأوروبية.
في هذه الصفحات التي لم تنشر بالفرنسية مطلقاً، يطور إلياس فكرة العصور الوسطى "العظيمة"، والتي تمتد من القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن عشر وتميزت بمؤسسة قانونية هي البلاط. هذا النص هو أيضًا شهادة قيمة جدًا عن أساليب عمل إلياس وتاريخ العلوم الاجتماعية. كيف يقترب مفكر ألماني، تمرس على علم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع في الفترة ما بين 1910-1920، من العصور الوسطى، وماهي الأدوات والمصادر التي استخدمها؟ يقدم الباحث والأكاديمي إيتيان آنهايم مقدمة تفصيلية للدراسة التحليلية لكتاب إلياس. وقد وضع في هذا العرض التقديمي منظوره لكتاب إلياس معيدا النظر في كيفية إنتاج هذا العمل الفذ وما أثمر عنه بشكل خاص من لقاء فريد بين علم الاجتماع والتاريخ.
في عام 1939، افتتح نوربرت إلياس دراسته المعمقة للعصور الوسطى وضمنها المجلد الثاني من كتابه حول سيرورة الحضارة. لكن مشاكل تحريرية دفعت إلياس إلى سحبه من النسخة الفرنسية المنشورة في عام 1975. ولكنها، اليوم أصبحت متوفرة أخيرا ضمن إصدارات مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (EHESS) وفي متناول القراء الفرنسيين. يذكرنا إتيان آنهايم، العالم الباحث حول القرون الوسطى ومدير المدرسة العُليا في مقدمته، بما يلي "ينبغي ألا يغيب عن البال أن هذا النص لم يكن الغاية منه أن يُنشر بمعزل عن غيره من نصوص نوربرت إلياس".
يعرض نوربرت إلياس تطابقاً صار الآن مشهورا. في نهاية العصور الوسطى، أدت مؤسسة البلاط الأرستقراطية إلى استقرار الحكم المطلق وتحضر السلوك والتصرفات. نتج هذا التحول، بحسب المفكر الألماني، من تطور القاعدة المشتركة للمجتمعات الإقطاعية الأوروبية بحيث ساد توازن بين قوى السلطة اللامركزية والمركزية، والتي كانت تميل نحو اللامركزية في القرن العاشر، ثم نحو المركزية في القرن الثاني عشر.
في القرن العاشر، تفككت الإمبراطورية الكارولنجية. حتى ذلك الحين، كان أولئك الذين ارتقوا إلى رتبة "اللوردات المركزيين" (ص 60) أو الملوك الغزاة للمناطق الجديدة قد حافظوا على وحدتهم من خلال منح الأراضي إلى "اللوردات الإقليميين" الآخرين (ص 69) لضمان ولائهم، مع تفويضهم إدارة هذه الإقطاعيات. في المقابل، كلما سيطر أحد اللوردات على منطقة ما، زادت احتمالية قوته واستقلاله عن الملك. وهكذا يشرح نوربرت إلياس وجود القوى اللامركزية، التي تعتبر مصدر التوترات المستمرة. بينما ظهر في وقت مبكر من فترة الميروفانجيين عاملان جعلا من الصعب احتواء القوى المركزية بداية من القرن العاشر وما بعده. في عهد الكارولينجيين، كانت للحروب التي شنها الملك وأتباعه بشكل مباشر تأثير في إحباط هذه الاتجاهات، من خلال فرض "الاندماج بواسطة المقاومة" (ص 183). لم يعد الأمر كذلك تحت سلطة الكابيتيين، فلم تعد فرنسا الغربية تتعرض للتهديد من الخارج منذ هزيمة النورمانديين ولم يعد لديها أي منطقة مجاورة لغزوها (ص 77). حينذاك بدأ اللوردات يطالبون بحقوق وراثية على إقطاعياتهم.
بعد ذلك، يبرز نوربرت إلياس أن اقتصاد المقايضة يوفر القليل من الدعم لتشكيل هيئة مركزية من المسؤولين. في أوقات السلم، يميل كل سيد إلى تنظيم الإنتاج والتجارة في إقطاعياته. ولا يوجد سوى قلة من الوسطاء يفصلون الشخص الذي يسعى للحصول على سلعة أو خدمة عن الشخص الذي يمكنه تقديمها. في كل ولاية، يحث هرم من الالتزامات المباشرة الجميع على أن يدركوا أنَّه يجب عليهم تقديم الخدمات لرؤسائهم وحماية مرؤوسيهم. كما كانت ندرة الحملات العسكرية تعيد الملك إلى هذه الحالة المجزأة من أراضيه. ثم يصبح، بتأثير الرابطة المزدوجة، أقل قدرة على توحيد القوات العسكرية التي قد تسمح له بتوحيد المملكة أو مواجهة اللوردات الآخرين. وبالتالي، فإن اقتصاد المقايضة يُحافظ على التناوب السريع بين المراحل عندما يحاول الملك غزو أراضٍ جديدة، وتلك التي يحاول بطريقة ما الاحتفاظ بها بالفعل. بالنسبة لنوربرت إلياس، فإنَّ السيطرة على الأرض وإخضاع المتمردين كشكل من أشكال الترابط هما وجهان للآليات الإقطاعية نفسها (ص 81)، والتي تصاحب تدريجيا تفكك الإمبراطورية.
ومع ذلك، منذ نهاية القرن الثاني عشر، سيطرت آليات أخرى وفرضت أشكالاً جديدة من المركزية بحيث أفسح اقتصاد المقايضة المجال لظهور الاقتصاد النقدي، مع زيادة استخدام الفئات الاجتماعية لوسائل التبادل المتنقلة. بالنسبة لنوربرت إلياس، فإنَّ هذا الانتقال إلى التراكم النقدي يشكل استمرارًا لتراكم الأراضي (ص 107). كان هذا الأخير هو ما يحكم ميزان القوة الإقطاعي بين اللوردات، وهو توازن أكثر اضطرابًا بكثير من توازن المجتمعات ذات سلاسل الترابط الأكثر امتدادا وحكما. يشرح نوربرت إلياس هذا الاعتماد الكبير على المال بحقيقة أن "البناء الأسري للمجتمع" (ص 116) و"القوى الاجتماعية" (ص 140) قد تمايزوا فيما بينهم. يشارك هذا التمايز في مركزية المناطق الكبيرة، حيث كلما فضل المجتمع المقاومة والصراع سادت التفرقة وتجزئة الأراضي.
وتعد التغيرات الديموغرافية سبباً مركزياً. بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، والاجتياحات الكبرى التي أدت إلى النمو السكاني واتساع رقعة الغزو، مما أدى إلى منع الوصول إلى الأراضي في أوروبا الغربية. عندما ازداد عدد السكان مرة أخرى في القرن التاسع، أسفر هذا الانسداد عن تكاثر بين اللوردات وغير الأحرار. من المؤكد أنَّ استصلاح الأراضي الهائل أو التوسعات الجديدة - في بداية الحروب الصليبية - التي قامت بها النخب المحاربة عمل على تحرير مساحات جديدة، لكن هذه التعديلات كانت محدودة. ونتيجة لذلك، لا يقتصر الأمر على توسع المجتمع "تحت ضغط الوصول المحدود إلى الأراضي والنمو السكاني، ولكنه توسع أيضًا في حد ذاته" (ص 113).). من خلال إزاحة الطبقات غير الحرة، "انتزع الحرفيون وسكان المقاطعات الحقوق والسلطة القضائية والامتيازات والاستقلالية (ص 113). وجاءت الحيازات الجديدة إلى تعقيد أشكال التبعية. إن هذا التسريع في تحقيق الدخل هو مقدمة للمكانة التي أعطاها نوربرت إلياس للاحتكار المالي في التكوّن الاجتماعي للدولة. خلال هذه الفترة، أدى التقدم التقني أيضًا إلى سيطرة أكبر على الموارد والعمالة بواسطة الحيوانات. ساعدت التطورات الأولى من هذا النوع على تجزئة الإمبراطورية من خلال السماح للمناطق الريفية بالتطور؛ فأصبحت تدعم الآن مثل هذه الدرجة من الإنتاج التي تؤدي إلى التمايز والارتباط بالأرض ثم إلى المركزية السياسية. يقارن نوربرت إلياس أخيرًا النمو الديموغرافي والنقدي والتقني للقرن الحادي عشر والنمو في العصور القديمة: فقد سمح غياب طبقات العبيد في العصور الوسطى بميل أقوى للتمييز بين المهن والانشغالات الفلاحية والتجارية والإدارية.
في نهاية المطاف، أضر التبادل النقدي بالشرائح الاجتماعية ذات الدخل الثابت - اللوردات الريعيين – ومنح الامتياز لأولئك الذين يمكنهم الاستفادة من ارتفاع الأسعار، ولا سيما الحرفيين والتجار، الذين كوّنوا طبقة برجوازية. كانت سلطة الملك راجحة في ميزان القوة مع السادة، من خلال فرض الضرائب على دخل هذه المجموعات، والتي صاحبت ظهور الجيوش المأجورة، فبدأ الاحتكار المزدوج المالي والعسكري في الظهور. في المقابل، تم التقليل من القوة الاجتماعية للمحاربين. شكل هذا التوتر الجديد بين النبلاء المتقهقرين والبرجوازية الصاعدة ما يدعى "الشرط البنيوي" (ص 59) للأوتوقراطية التي ستهيمن منذ بداية القرن الخامس عشر. ويخلص نوربرت إلياس إلى مساهمة التحول المشترك للهياكل الاجتماعية وقواعد السلوك والمحاكم الإقطاعية المتأخرة، في السيطرة على الاندفاعات في العلاقات الكبيرة بين الجنسين التي أسست لسلوك "المجاملة".
يعود الكاتب إلى ما توصل إليه فرانز أوبنهايمر من استناجات حول المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى فهو يثبت بالفعل أن الحلقة المفرغة دفعت الدولة الإقطاعية "إلى طريق مسدود بين التكتل والتفكك". يستعيد الكاتب إيتيان آنهايم هذه القراءة هنا مرة أخرى ليبين أن منع الوصول إلى الأراضي فتح لحظة رئيسية في مسيرة الحضارة: "نظام التوتر الاجتماعي" الناتج عن تفكك النظام الإقطاعي "في الوقت نفسه يحتوي على بذور فورة عكسية، لمركزية جديدة "(ص 145) والتي كانت تهدف إلى" قلب الموازين، في القرن الخامس عشر، لصالح القوى المركزية "(ص 64). يرى نوربرت إلياس في هذا الارتباط المزدوج رحم السيرورة الحضارية، لأنها تولد دينامية التمايز والاندماج، أي الزيادة في الارتباط. ثم تجعل المجتمع المبني على قضاء المجلس الديني حلقة مفقودة بين المجتمعات الإقطاعية والرأسمالية. يشرح نوربرت إلياس أنه من خلال الديناميات الاجتماعية المستمرة - وليس الأحداث أو الأفراد أو المؤسسات القانونية - يتم الانتقال من مظهر تاريخي إلى آخر. هذه هي الطريقة التي يتعامل بها مع دور تبادل العملات النقدية في تطوير المجتمعات الحديثة. ومن خلال الاستفادة من القراءة الماركسية، يفرز حجته، بأن التركيز على علاقات الإنتاج "غير الحرة" بالكاد يفسر تحول المجتمعات الإقطاعية، ويؤدي إما إلى الرفع من التراكم النقدي والعودة إلى الفترة الإقطاعية نفسها، أو إلى اعتبار الرأسمالية بأنها قطيعة – وكما يقول إيتيان آنهايم فان الخلاف حول هذا المعطى برز بين موريس دوب وبول سويزي اللذين سيجسدان هذه المعارضة بعد عشر سنوات.
من خلال التوازن الدينامي للقوى الاجتماعية، يسعى نوربرت إلياس إلى تجنب هذين العقبتين. عن طريق ربط الكالفينية بالرأسمالية، قام ماكس ويبر برصد مظهر مماثل، غالبًا ما يتم اختزاله إلى انعكاس للمادية التاريخية. إذا كان ويبر قد رفض استنتاج خصوصية مثل أعلى ديني لتطور الطبقات الاجتماعية، فقد حاول استخراج المفاهيم الماركسية من خليط بين النظرية والتاريخ. وبناء عليه يمدد نوربرت إلياس هذا الجهد ويستثمره. عندئذ يدور الارتباط بين ماركس ويبر ونوربرت إلياس حول عقدة مركزية تتمحور حول دور عدم ملاءمة علاقات السوق والادارة السياسية في تنمية المجتمعات الغربية.
لا تزال بعض صيغ نوربرت إلياس تتعرض لانتقادات تفسير قطعي، ولن يحد منها إلا الأخذ في الاعتبار هذه المقاربة الشاملة. من خلال هذه الصورة المقرّبة للتوترات الإقطاعية، سوف يفهم قراء هذا العمل بشكل أوضح التحليل الباهر لنوربرت إلياس حول ظهور آليات الحكم المطلق. كما سيجد علماء الاجتماع والمؤرخون وعلماء السياسة بعد ذلك دعمًا لا يقدر بثمن للتفكير في الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى، ولعل مرد التباس وغموض وانحراف الكثير من الدراسات في علم الاجتماع ناتج بالأساس عن غياب نظرية تحليلية شاملة تفهم آليات وجوهر هذا الانتقال الاجتماعي التدريجي من مرحلة إلى أخرى للبحث عن الجذور الاجتماعية التي تساهم على المدى البعيد في تكوين الحضارات أو انحطاطها.
الكتاب: العصور الوسطى وسيرورة الحضارة
المؤلف: نوربرت إلياس تقديم إتيان آنهايم
دار النشر: منشورات مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (EHESS ) باريس. فرنسا.
سنة النشر:2021.
عدد الصفحات: 217 ص
اللغة الفرنسية.
