«دبلوماسية الملكيت»

الغلاف copy.jpg

لودميلا بودرينا

فيكتوريا زاريتوفسكايا *

تشكل القطع التذكارية ذات المستوى الفني الرفيع، والمصنوعة من الحجر الملون، والتي تنتج بطلب خاصٍ من قبل الدواوين الملكية، رمزيةً تقليديةً لمكانة الممالك الأوروبية منذ القدم. إن دوقات ميديشي، والإمبراطور رودولف الثاني الذي ينتمي لعائلة هابسبورج، ولويس الرابع عشر، كلهم أقاموا وِرِشًا لنحت الأحجار الملونة، وهناك شخصيات مرموقة اشتهرت بجمع هذه التحف وتشكيل مجموعات متكاملة منها مثل أمير ساكسونيا، أغسطس القوي، والكاردينال مازارين.

وبالنسبة لروسيا، فقد نشأ الاهتمام بالحجر الطبيعي في عهد القيصر بطرس الأكبر. ومهما كان تاريخ نشوء هذا الفن متأخراً في روسيا، إلا أنه بلغ مع الروس ذروته الكبرى. وقد جرى افتتاح أول ورشة في عام 1721 في منطقة بيترهوف – المقر الصيفي الإمبراطوري، وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر تمَّ إنتاج الأعمال الفنية من الحجر الملون المحلي في ثلاثة مصانع إمبراطورية، اثنان منها في جبال الأورال، حيث تُستخرج أثمن الأحجار من باطن الأرض. وليس من المصادفة أن يتزامن ازدهار هذ الفن في الفترة التي شهدت فيها روسيا تحرير الفلاحين في عام 1861، حيث عرفت المشاريع ارتفاعاً ملحوظاً، شملت قطاع التحف الفنية كذلك.

 

ومن بين إنجازات النحاتين الروس آنذاك: إنشاؤهم قاعة الملكيت في قصر الشتاء بمدينة سانت بطرسبرج المعروفة باسم: غرفة الرسم الذهبية للإمبراطورة، وقاعة يكاثرين في قصر الكرملين الكبير في موسكو. أما أروع ما تمّ إنجازه فكان في النصف الثاني من أربعينيات القرن التاسع عشر حيث قامت المصانع الروسية بتوفير المنحوتات الحجرية لتزيين كتدرائية القديس إسحق في مدينة سانت بطرسبورغ، عاصمة روسيا وقتذاك. وفي بداية القرن العشرين احتل حجر الأورال مكانة مرموقة ضمن تشكيلة شركات سانت بطرسبورغ. وقد توسع الطلب نتاجها الخاص بتلك الأحجار الملونة. وقد توسع الطلب على تحف الحجرية الروسية ليشمل المتاجر الباريسية المرموقة، مثل متجر كارتييه، وذلك إلى جانب ما يطلبه البلاط الإمبراطوري الروسي باعتباره المستهدف الرئيسي لهذه الصناعة.

إن الحديث عن هذا النوع من الفنون والبحث في تاريخه شيّقٌ وجدير بالاهتمام بحدّ ذاته، ولكن ما وضعته الباحثة الروسية، والمشرفة العلمية على متحف يكاتيرينبورغ، لودميلا بودرينا، في كتابها "دبلوماسية الملكيت" أكثر شمولا من مجرد بحث تاريخي، أو وصف جمالي للأحجار الكريمة، حيث ربطت هذا الفن، أي صناعة حجر الملكيت، بالتاريخ السياسي الروسي وأدخلته ضمن دبلوماسية البلاط الإمبراطوري في تعامله مع مختلف الأحداث والظروف. بكلمة أخرى، فالكتاب الذي بين أيدينا هو مزيج تختلط فيه الدبلوماسية بالفن الرفيع.

وتستعرض الباحثة تاريخ القطع الفنية الروسية المصنوعة من الأحجار الملونة ومدى انتشارها في مختلف أرجاء المعمورة. كما تورد الدور الكبير الذي لعبته هذه التحف في المناورات الدبلوماسية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين. وتشير المؤلفة إلى الأسباب التي دفعتها إلى تأليف كتابها بقولها: "حينما نسرد لزوار متحفنا تقاليد معالجة الأحجار الملونة والتي تمتد لثلاثمئة عام، ونحدثهم عن أساتذة بارزين، وعن قطع تاريخية تزهو بجمال نادر، نقول لهم كل ذلك ونحن نقف أمام واجهات شبه فارغة، لا يجد فيها الزوار ما يشبع فضولهم، ما يجعل الأمر غريباً عليهم. لذلك فإننا نواجه أسئلة كثيرة تتعلق بمتى وكيف ولماذا تم إرسال أعمال الفنانين الروس إلى الخارج". وانطلاقا من هذا الهدف، جاءت فكرة تأليف الكتاب الذي لا يضمُّ مجموعة من الحقائق والأوصاف التاريخية للأعمال الفنية وحسب، بل يتتبع أيضاً تاريخ التحف الفنية التي أصبحت بمثابة سفراء للثقافة الروسية، والتي بفضلها يستمر حتى اليوم التحدث عن روسيا وتراثها وثرواتها.

ويرتبط تاريخ فن تقطيع الأحجار الروسي، حيث العديد من صفحاته المشرقة ينتمي لمدينة يكاترينبروج وجبال الأورال، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعلاقات الدبلوماسية للإمبراطورية الروسية. فمع نهاية عهد الإمبراطورة يكاترين الثانية وحتى عشية ثورة 1917، أي قرابة قرن ونصف، كانت المزهريات والأوعية وأسطح المكاتب وغيرها من القطع المصنوعة بالحجر الروسي، كانت تقدم كهدايا في مراسيم إبرام العقود بين الملوك والوزراء والسفراء، وأيضاً كلفتة امتنان للرسامين والمصرفيين والعلماء والفنانين من قِبل القياصرة الروس. وقد تمَّ توزيع العديد من المنحوتات من اليشب والرودونيت والملكيت واللازورد وأحجار الزينة الأخرى بين العواصم الأجنبية والقصور الملكية والممتلكات الأرستقراطية. وبداية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان يجري دائما اختيار التماثيل الحجرية الرفيعة من مخازن القصر أو يتم شراؤها خصيصًا قبل الرحلات الخارجية للقياصرة والإمبراطورات والدوقات باعتبارها هدايا غالية الثمن وذات رمزية عالية، الأمر الذي عزز العلاقات بين الأسر الملكية الروسية وأسر الممالك الأخرى. وفي محاولتهم لجعل هذه الهدايا سمة إلزامية للدبلوماسية الروسية، وجعل التذكارات القادمة من بلاد القياصرة تسطع في أروقة القصور الأوروبية، ومكاتب السفراء والقناصلة، كان الأباطرة الروس يواصلون تقاليد أرساها الأوروبيون أنفسهم؛ فنرى أن عائلة آل ميديشي الملكية قد حوّلوا الأواني الحجرية المنحوتة وطاولات الفسيفساء إلى سمة مميزة لفلورنسا، ونفذ لويس الرابع عشر برنامجًا لتعزيز ثروة فرنسا بمساعدة الرخام الملوّن في فرساي.

وجاءت فهرسة الكتاب وفقاً للدول التي كانت ترتبط بعلاقات مع الإمبراطورية الروسية، سواء حسب الخريطة السياسية القديمة، أو الخريطة التي نعرفها اليوم، وذلك مع سردٍ مُعمّقٍ عن طبيعة تلك العلاقات.

من بين المباحث المهمة والمعقدة التي تصدت لها الباحثة في كتابها، هناك بحثها في الظروف التي غادرت فيها أربعمئة قطعة فنية الحدود الروسية، حيث قامت باستقصاء دقيق لرحلة هذه القطع وأماكن تخزينها وقدمت لها تقييما ونقدا فنيا، وبذلك أعادتها إلى دائرة الأعمال العلمية المدروسة. ولم تكتفي الباحثة بالإرشيف الروسي مرجعاً لها، بل قامت بدراسة أعمال المؤلفين الأجانب، ودوريات بيوت المزادات، ومجموعات المتاحف من مختلف دول العالم، إلى جانب المجموعات الفنية الخاصة من أوروبا وآسيا وأمريكا، باستثناء الشرق الأوسط الذي يبقى ثغرة في هذا الكتاب.

وقد أفردت الكاتبة لحجر الملكيت مكانة مركزية في كتابها باعتباره الأكثر شهرة، ويشكل رمزا للرفاهية الروسية، ولكنها لم تهمل الكاتبة ذكر أحجار أخرى كاليشب والرودونيت واللازورد.

وفيما يخص الدول الشرقية، هناك بعض الصفحات التي أتت على ذكر الهدايا الدبلوماسية التي خصصت لحكام إيران، ومنها هذه الأسطر: "يثير عدم الاستقرار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قلقا كبيرا لدى البريطانيين الذين رأوا في تعزيز الوجود الروسي في المنطقة تهديدًا مباشرًا لمصالحهم. وقد اشتد هذا التوتر خاصة في نهاية الربع الثالث من القرن التاسع عشر. ووفقًا للمحللين، فخلال جيل واحد فقط، قفزت روسيا فوق القوقاز، وعززت من نفوذها في بلاد فارس، ورسخت تواجدها على حدود الهند البريطانية. ولأن الدولتين لم ترغبا في الدخول في مواجهة مسلحة، حاولت بريطانيا وروسيا تأمين نفوذهما من خلال تقديم تنازلاتهما فيما يتعلق بالاقتصاد الإيراني، الذي كان بحاجة إلى مشاريع استثمارية وإستراتيجية كثيرة، يأتي في مقدمتها تطوير طرق النقل الإيرانية وتطوير رواسب الموارد المعدنية.

إنَّ حكومة شاه ناصر الدين، التي كانت مهتمة بتعزيز خزينة الدولة، والمناورة بين رواد الأعمال وذلك في محاولة للعثور على عروض أكثر ملاءمة، وتأجيل الالتزامات التي تقع على عاتق الدولة، بدأت في عام 1864 مفاوضات حول بناء شبكة سكك حديدية في إيران. لم تتوج المحاولة الأولى بالنجاح وفي عام 1871 وصل البارون جوليوس دي رويتر إلى طهران باقتراح جديد. حاول رجل الأعمال الألماني هذا، الناجح والحاصل على لقب النبالة والجنسية البريطانية، استمالة الشاه ووزراءه إلى التعاون مع التاج البريطاني لتنفيذ هذا المشروع، كما لفت انتباههم إلى الأرباح المتوقعة منه. في واقع الأمر، فقد كان إنشاء خط سكة حديد يربط بين سواحل بحر قزوين والخليج العربي في مصلحة بريطانيا، ولكنه، في الوقت نفسه، كان مصدر صداع وسخط في سانت بطرسبرج، عاصمة روسيا القيصرية. الخلاصة أن الشاه، وخلال رحلة قام بها إلى أوروبا عام 1873 والتي بدأها من بطرسبورغ، ونتيجة للمباحثات التي أجراها في قصورها، انتقل التوكيل لبناء السكك الحديدية في إيران إلى رجال الأعمال الروس.

ففي ربيع ذلك العام، دشن الشاه نصر الدين رحلته الأولى إلى أوروبا بزيارة المدن الروسية. كان الغرض من الرحلة أن يتعرف الشاه بصورة مباشرة على عادات البلدان الأخرى. غير أن رحلته لم تخلُ من الطابع السياسي. وكما أشارت الصحف الروسية في ذلك الوقت بأنه "لا يمكن فهم حقيقة هذه الرحلة دون ربطها بالحركة المتنامية لآسيا نحو أوروبا، والتي تزداد حدتها عاما بعد آخر".

وقد تميزت زيارة الشاه لعاصمة الإمبراطورية الروسية باستقبالات خاصة ومراسم حافلة، حيث صممت حفلات الاستقبال، والسهرات، والعروض العسكرية، وتنظيم الرحلات إلى المقرات القيصرية الريفية لإثارة إعجاب الضيف المميز. وقد كتب الشاه الفارسي مذكراته عن هذه الرحلة، وتُرجمت إلى الإنجليزية عام 1874 وبعد ذلك إلى الروسية عام 1889. ومن بين الملاحظات المتعلقة بإقامته في سانت بطرسبرج نجد سطورا مخصصة لزيارته إلى المتحف الإمبراطوري: "ذهبنا إلى الأرميتاج. وتم تقديم مديرها إلينا، حيث أظهر لنا الكثير من مقتنيات المتحف، فهناك القاعات المليئة باللوحات والمنحوتات الرخامية والأوعية الكبيرة والصغيرة المصنوعة من أحجار سيبيريا وطاولات مزينة بفسيفساء حجرية ملونة وطاولات ومزهريات مصنوعة من الملكيت وهو حجر سيبيري خالص، والعديد من الأشياء الأخرى التي وجدناها جميلة ومميزة".

وبالتالي؛ فقد جاءت النتيجة لهذه الاستقبالات المدروسة لصالح الروس، حيث أحيل جزء من امتيازات بناء السكك الحديدية في بلاد فارس إلى المقاولين الروس. أما الاهتمام الذي أبداه الحاكم الفارسي بالكنوز الحجرية في القصور الإمبراطورية فقد أسفر عن إرسال هدية رمزية إلى طهران وهي عبارة عن إناء من الملكيت هدية للشاه الفارسي. ويشكل هذا الإناء الزوج الثاني من تشكيلة واحدة، كان جزؤها الأول قد أرسل إلى إنجلترا كهدية للبارون روتشيلد في عام 1872.

ومن غير الواضح سبب تجاهل المؤلفة للشرق العربي، وهل هو ناتج عن قصور موضوعي أم غير ذلك. فكل ما جاءت به المؤلفة في هذا السياق يقتصر على: "أداة كتابة مصنوعة من يشب مدينة أورسك، وهي من إنتاج مصنع يكاتيرينبورج، قدمتها الإمبراطورة ماريا فيدروفنا هدية لجواهري فرنسي، ثم انتقلت إلى الملك المغربي الحسن الثاني ومنه إلى الرئيس الأمريكي جيمي كارتر وهي اليوم محفوظة في متحف مركز الرئيس كارتر في أتلانتا "(ص: 179).

----------------------------

- الكتاب: "دبلوماسية الملكيت".

- المؤلف: لودميلا بوردينا.

- الناشر: كابينيتني أوتشيني/ موسكو- يكاتيرينبورغ، 2020، بالروسية.

عدد الصفحات: 208 صفحات.

* أكاديمية ومستعربة روسية

أخبار ذات صلة