استعمالات الحجة وقواعدها في العهد الإسلامي الوسيط
لاري بنيامين ميلر
محمد الشيخ
"كان على [كتاب] النظرية الإسلامية في المناظرة أن ينشر منذ 35 حولا. وإنه لحقاً من العار والشنار ألا يكون قد نشر من ذي قبل".. هذه هي الخلاصة التي ينتهي إليها والتر إدوارد يونج، المتخصص في آداب البحث والمناظرة الإسلاميين بمعهد الدراسات الإسلامية التابع لجامعة ماكجيل الكندية، بعد تقويمه لهذا الكتاب. وبالفعل، فإن الكتاب الذي بين أيدينا -"النظرية الإسلامية في المناظرة"- يُعد بحق أول كتاب غربي جامع لأشتات النظريات الإسلامية في الجدل والمناظرة الكلامية والفلسفية والأصولية.
لكن دعنا، بدءا، ننبه إلى أمر عَجَب: وهو أنه من عجيب ما بات يقع في حقل تجديد الفلسفة الغربية المتواصل منذ أمد، وعلى الأقل منذ العقدين الأخيرين، ظهور مباحث فلسفية جديدة لربما لم تكن لتخطر على البال. وأعجب العجب، أنها باتت تلتقي لقاء غريبا مع مباحث من تراثنا العربي الإسلامي كادت أن تمسي نسية منسية. وقد انقسمت هذه المباحث الجديدة -أو لربما المستأنفة- إلى قسمين أساسيين: قسم إبستمولوجي صرف (متعلق بمسألة المعرفة)، وقسم إيثيقي بحت (متعلق بمسألة الآداب والأخلاق والقيم). يكفي أن نذكر، على سبيل المثال، ثلاثة مباحث جديدة: "مبحث الخلاف"، معرفة وآدابا؛ و"مبحث الاعتقاد"، علما (إبستمولوجيا لاعتقاد) وخُلُقا (أخلاقيات الاعتقاد)؛ و"مبحث الوحي"، معرفة (إبستمولوجيا الوحي) وأخلاقية. وما كان "مبحث المناظرة" ببدع من هذا؛ إذ أعادت النظريات الحوارية والنقاشية والتواصلية المعاصرة، التي يقول بها العديد من فلاسفة اليوم، اهتمام الباحثين بالتراث الحواري والجدلي والخلافي القديم، قواعد وآدابا. وليس لنا أن نخجل بهذا الصدد من تراثنا العربي. فقد أوفى وأشفى. إذ وُجدت فيه من عيون النظر في الجدل والحوار والمناظرة والمجادلة الشيء العديد. ولربما لم تعتن حضارة بقواعد المناظرة وآدابها مثلما اعتنت الحضارة الإسلامية. ذلك أن ثمة مئات من النصوص في هذا المضمار: ما بين نص وحاشية وتعليقة وضميمة.
وفي تقديمه لهذا الكتاب، يشير والتر إدوارد يونج إلى أن أصله رسالة دكتوراه بقيت لأمد حبيسة رفوف مكتبة الجامعة، مع أنها "عمل رائد". ويذكر أن الاهتمام بالتراث الجدلي الإسلامي وتجديد البحث فيه أمر سبق إليه العديد من أهل الدراسات الإسلامية الغربية أو من تلامذتهم من العرب بالغرب (يشير إلى فان إس وجورج مقدسي وولفهارت هاينريكس وفاجدا منذ النصف الثاني من السبعينيات، ويضيف اسمي عبدالصمد بلحاج وأمير دزيزي في العقد الأخير)، بينما يهمل مجهودات المفكرين العرب؛ ومن بينهم جهود طه عبدالرحمن وتلميذه حمو النقاري وتلميذيهما... ويقدم لمحة موجزة عن تطور فن المناظرة من أعمال الجاحظ إلى عهد قريب، مشيرا إلى عشرات الأعمال؛ فضلا عن الحواشي التي تأثلت عنها. ثم يعدد مزايا المؤلِّف ومؤلَّفه: ومنها أنه كان سباقا إلى وضع الحجر الأساس لدراسة النظرية الإسلامية للمناظرة. ولم يكتف باستعراض تاريخ نظريات المناظرة في الإسلام، وإنما نَحَتَ نظرية على ضوء الأدوات الحديثة، وزوّدنا بمعجم كامل لهذه النظرية. ولم يعمل فحسب على إعادة رسم المسار التاريخي الذي اتخذته المناظرة، عونا منه للباحثين اللاحقين وتيسيرا لمهمتهم حتى يبنوا عليه ويدقّقوا، وإنما أحاط بمختلف تفانينها. وبالجملة، الكتاب نحت لنظرية ولطراز ولمنهج ولمعجم.
ويقع الكتاب في أربعة فصول، فضلا عن مبتدى ومنتهى وكشاف مظان وثبت مواضيع ومسرد أعلام؛ هي على التوالي: الفصل الأول: الجدل الكلامي. الفصل الثاني: الجدل والفلسفة العربية. الفصل الثالث: الجدل في علم الأصول. الفصل الرابع: آداب البحث
ويشير المؤلف في مدخل كتابه إلى أنه سوف يسعى لرسم معالم ما يسميه "النظرية الإسلامية في الجدل" على مدى أربعة عشر قرنا. ويومئ إلى أنه برزت في هذه المدية ثلاثة مباحث كبرى خَصت الجدل: مبحث كلامي ومبحث أصولي (نظرية خاصة)، ومبحث عام (نظرية عامة). ومجمل أطروحته في هذا الصدد أن الجدل تطور في حضارة الإسلام ثلاثة أطوار: أول من افتتح القول في هذا المجال وشغل المتكلمين إنما هو ابن الراوندي. ثم ما لبث علماء الأصول المسلمون أن عنوا بهذا الجانب، متأثرين بما جرى في علم الكلام، وكان أن أنفذوه على الأصول مستعيضين عن الأمثلة الكلامية بالأمثلة الأصولية. وسرعان ما اجتهدوا في ذلك الاجتهاد؛ لا سيما في قسم الاعتراضات، أما في قسم السؤال، فقد اتبعوا نظام السؤال الكلامي عينه. ثم حدث تطور ثان مهم تمثل في التأثر بطرائق المنطق؛ حيث استأنس الأصوليون غاية الاستئناس بهذه الطرائق في مباحث الجدل. أكثر من هذا، أعادوا صياغة قواعد الجدل الكلامية القديمة على ضوء قواعد المنطق التي نزّلوها على المناظرة الأصولية تنزيلا. وسرعان ما ظهر الوجه الأخير من هذا التطور نحو نظرية عامة في الجدل تمثل في ما عُرف باسم "آداب البحث" أو "آداب المناظرة"، والذي يعد توليفة لكل ما تقدم من الجهود.
ويقف المؤلف في كل فصل عند لحظة من لحظات هذا التطور. ففي الفصل الأول التأسيسي يذهب إلى أنه حوالي نهاية القرن التاسع الميلادي كتب ابن الراوندي كتاب "أدب الجدل"، مدشنا بذلك القول في هذا المضمار. وبعد جيل أو جيلين كتب أبو القاسم البلخي كتابا في الجدل سعى فيه إلى تقويم ما افترض أنها غلطات في كتاب الأول. ورد الأشعري على رد البلخي منتصرا لابن الراوندي، وكذلك فعل الماتريدي الذي دافع بدوره عن ابن الراوندي. على أن كل هذه الأعمال ضاعت، ومن حسن الحظ أن المفكر اليهودي القرقساني -صاحب كتاب الأنوار والمراقب- حفظ لنا بعض تلك النصوص التي تعزى إلى ابن الراوندي من الضياع؛ هذا فضلا عما حفظه المعتزلي المقدسي والشيعي الكاتب والظاهري ابن حزم والأشعري ابن فروك. وبناء على هذه المظان، يعيد المؤلف بناء الأعمال الجدلية من فترتها المبكرة، مقابلا إياها بأعمال الفارابي في الجدل؛ وذلك عبر خمسة أقسام: صلة الجدل بالنظر، السؤال والجواب، المعارضة، دلائل الانقطاع في الجدل، آدب الجدل. ومن خلال هذا العرض، يخلص إلى "إجماع" المتكلمين الذين تكلموا في الجدل على جملة القواعد الإسلامية للمناظرة: قواعد الشروع في المناظرة، طبيعة الأسئلة المسموح بها، نوع المعارضات المباحة، كيفية تحديد من انقطع، قواعد السلوك وآداب المناظرة. وقد وقف عند بعض الأمور التي لم يتم التنظير لها، لكنه وجد على العموم أن النظرية كانت قد أقيمت على أساس سليم.
وفي الفصل اللاحق، ناقش المؤلف أنظار الفلاسفة في الجدل. فذكر مظان من سماهم "الفلاسفة الأرسطيين العرب" [الفاربي، ابن سينا، ابن رشد]، وأشار إلى كتابي "المواضع" و"الجدل" الأرسطيين باعتبارهما المنهل الذي استقى منه هؤلاء الفلاسفة في الحديث عن الجدل. وتناول في هذا الفصل مواضيع شأن: ما الجدل؟ وطبيعة الأسئلة الجدلية سواء من حيث الصورة أو المادة، وقواعد الجدل الخاصة بالسائل والمجيب، ثم الشركاء في الجدل. وختم بنظرة عامة عن الجدل في علم الكلام والفلسفة، مركزا على فكرة أن فلاسفة العرب وإِنْ هم أقروا بصناعة الجدل، فإنهم اعتبروها أقل منزلة من صناعة البرهان؛ ومن ثمة خالفوا المتكلمين.
وفي الفصل الموالي، تناول المؤلف الجدل في أصول الفقه. وذهب إلى أنه بعد انصرام قرن بالكمال على عمل ابن الراوندي الرائد، شهد مجال القول في الجدل تعالقا بين الأصلين ـ أصول العقيدة وأصول الشريعة ـ منذ البدء تأدى إلى تآثر. وما هو مثير، في نظر المؤلف، إنما هي الطريقة التي استُنبت بها الجدل في علم الأصول، وصار جزءا منه لا يتجزأ بدءا من القرن التاسع الميلادي. فكان ثمة الجدل الأصولي والجدل الفقهي. وحدثت حقبة مبكرة في خلوصها (أبو إسحاق الشيرازي: "معونة المبتدئين وتذكرة المنتهين في الجدل"، تبعه في ذلك تلامذة شأن ابن عقيل (كتاب الجدل على طريقة الفقهاء) والباجي (المنهاج في ترتيب الحجاج)، واختتمت هذه المرحلة بالكتاب المنسوب إلى الجويني "الكافية في الجدل"). ثم سرعان ما مازجها المنطق الممازجة على الطريقة التي سميت "طريقة المتأخرين". وقد ناقشوا أقسام السؤالات الجدلية الأربعة وطبيعة المطالبة والاعتراض والمعارضة والممانعة وفساد الوضع والقلب والاشتراك في الدلالة والنقض والمناقضة والقول بموجب العلة وعلامات الانقطاع وأدب الجدل ... أعقبت هذه مرحلة وسطى استجدت فيها طرائق في الجدل؛ نظير طريقة أبي اليسر البزدوي (التي ضاعت) وطريقة ركن الدين العميدي. هذا فضلا عن طريقيتين في الجدل أخرتين: طريقة المروزي وطريقة السرخسي. وحدثت بين هذه الطرق تآلفات وتخالفات. ثم صير إلى المرحلة الختامية، وفيها غلب المنطق غلبته. وأفضل ممثل لها هو برهان الدين النسفي ـ صاحب "المقدمة البرهانية" أو "الفصول" ـ والذي لعب دورا محوريا في النظرية العامة للمناظرة التي سوف تعرف بمسمى "آداب البحث"؛ لا سيما مع مؤسسها شمس الدين السمرقندي الذي تلمذ للنسفي.
وفي الفصل الأخير، تناول المؤلف التخصيص "منطق المناظرة" أو "آداب البحث". إذ أخيرا صار للجدل بُعدٌ شمولي؛ بحيث ما عاد يتعلق بعلم بعينه (الكلام، الأصول، النحو ...)، وإنما بات يشمل كل المعارف الإسلامية التي تبنى بالنظر. وقد أشّرت على هذا الرسالة السمرقندية الشهيرة. ونبه المؤلف إلى أن فرعي الجدل الكلامي والأصولي شكلا رافدين للنظرية العامة في المناظرة التي هي "آداب البحث". وركز المؤلف على كيف أن "آداب البحث" بزغت مبحثا مستقلا وجنسا تأليفيا منفصلا عن طريق تبنيها للمنطق وللفلسفة الأرسطيين، كما للقواعد التي صيغت في سياق الجدلين الكلامي والأصولي. وقد ركز المؤلف في هذا الخصوص على عمل السمرقندي. ذلك أنه فضلا عن كون هذا العمل كان عملا مبكرا صين من الضياع، فإن صاحبه زعم أنه اهتدى إليه بكده. وتناول الباحث بالدرس الرسالة السمرقندية في آداب البحث وشروحها وتعاليقها؛ فضلا عن كتاب القسطاس للمؤلف نفسه -لا سيما منه الفصل الخاص بالبحث والمناظرة؛ وبالأخص باب التعريفات والمسائل والدليل والأمارة. والجديد الذي طرأ هنا أنه تمت الاستعاضة عن اسم "الجدل" باسم "النظر" أو "المناظرة" عنوانا للمبحث؛ لا سيما وأن "المجادلة" بقيت تحمل الدلالة القدحية الأرسطية من حيث إنها تتغيا الإقناع وليس الحق. وقد عني المبحث الجديد -"علم المناظرة" أو "آداب البحث" ـ بقواعد التناظر. والحال أن هذا التبديل في التسمية حمل معه التغيير في الموضوع؛ بحيث صار المنطق الآن هو الحَكَم بما أن المادة ما بقيت تستقى من أصول الفقه أو علم الكلام وإنما من "المسائل". وكانت الرسالة السمرقندية أول الغيث، تلتها أعمال الإيجي والجرجاني والمرعشي والكلنبوي وطاش كبرى زاده. وكل هذه الأعمال عمدت إلى تهذيب الرسالة وتشذيبها، على أنها لم تغير في جوهرها؛ إذ بقي نظام المناظرة هو هو، وظلت التعريفات والاصطلاحات والوظائف هي هي.
لا مجال لإنكار أن المؤلف بذل جهدا كبيرا في عمله التأسيسي هذا. يكفي أن ننوه هنا إلى الجهد الترجمي المعاكس -من العربية إلى الإنجليزية- الذي بذله في نقل مفاهيم المناظرة. لكن، وعلى الرغم من الجهد الذي قام به المؤلف بالعودة إلى قراءة عشرات المخطوطة التي لم تكن قد طبعت بعد آنذاك، فإنه لربما مما يمكن أن يأسف له المرء أنه لم يهتد إلى أحد أهم كتب الجدل وأدب المناظرة في علم الكلام. وهو كتاب عبد القاهر الجرجاني: "عيار النظر في علم الجدل". والغريب أنه التقى معه في رسم معالم ظهور علم الجدل، على اختلاف في التقويم، حتى وإِنْ فاته العثور على كتابه. يقول البغدادي: "وأما المتكلمون المصنّفون في الجدل؛ فالسابق منهم إلى التصنيف ابن الراوندي، وإنما بيّن في كتابه أقسام الأسئلة والأجوبة، ووجوه المعارضة في الكلام، واعترض الكعبي عليه في أشياء رغم أنه أخطأ فيها، وصنّف شيخنا أبو الحسن الأشعري بعدهما "رسالة في نقض اعتراضات الكعبي على ابن الراوندي في جدله"، وأوضح فيها عن عذر ابن الراوندي وأحال بالخطأ على مُخطِّئه. وصنّف الأشعري بعدهما كتابا وجيزا في "أدب جدل المتكلمين"، مقصورا على وجوه الأسئلة والأجوبة والمعارضة، وليس لأهل الفقه فيه ولا في كتب ابن الراوندي طائل في جدلهم. وصنّف الكعبي بعدهما كتابا وسمّاه "تجديد النظر"، وليس فيه تحقيق حدّ، ولا إيضاح قانون من قوانين النظر، وإنما حشّاه بذكر نصوص سرقها من كتاب ابن الراوندي، وطوّل كل باب من كتابه بتقريظ بعض أسلافه من القدرية، وأمعن في مدح الجاحظ الذي ليس له، مع كثرة كتبه، ورقة في آداب الجدل، ولا في أصول الدين"!
وأخيرا.. يذكر صاحب كتاب "نصيحة المحب في ذمّ التكسب بالطب" مصيبة ابتلي بها طلبة الطب في زمانه والذين ما عادوا يكبّون على التصانيف الطبية ويتدارسوها، وإنما باتوا "يتصفّحوها" مجرد التصفّح على طريقة مرور الكرام؛ فيقول: "ولقد حضرت رجلا من الصدور كان يشتغل بعلم الطب على بعض مشايخه، وكان يقرأ بابا ويصفّح بابين، وإذا قطع في أمسه إلى الباب العشرين مثلا ثم حضر اليوم وسأله الشيخ: "أين بلغت"؟ قال: "إلى العشرين"؛ فخلوت به وقلت له: "ما الفائدة التي تحصل بهذا الاشتغال وأنت تصفّح أكثر الكتاب، والذي تقرأه أيضا تقرأ منه سطرا وتهمل سطرين؟" فكان جوابه أن قال: "علم الطب علم يمكن الإنسان أن يطالعه ويفهم معانيه من غير شيخ ولا موقّف، وليس المراد بقراءتي على الشيخ إلا أن يكتب لي على الكتاب، ويسهّل لي الإجازة والأهلية". كلا؛ ما كان كتاب النظرية الإسلامية في المناظرة بالكتاب الذي يكتفى معه بتصفُّحه، أو حتى ليُقرأ قراءة الوهلة الواحدة، وإنما كلما أعدت قراءته وقفت على استبصار جديد للمؤلف كأنك لم تقرأه من ذي قبل أو لم يخطر ببالك التلبث عنده.
------------------------------
- الكتاب: "النظرية الإسلامية في المناظرة".
- المؤلف: لاري بنيامين ميلر.
- الناشر: سبرينجر، 2020م.
