القصة الحقيقية للتوسع الأوروبي وخلق النظام العالمي الجديد
جي سي شارمان
محمد السالمي
ما الذي يُفسِّر قيام الدولة، وهيمنة الغرب؟ قبل قرون كانت أوروبا راكدة. لم تكن هناك مدن كبرى باستثناء قرطبة المسلمة في إسبانيا وبقايا من روما وأثينا. كان الشرق الأوسط والهند والصين في المقدمة. لقد كان العرب هم الذين أبقوا على قيد الحياة تعاليم الإغريق القدماء في العلوم والطب والعمارة والفلسفة. ولكن بحلول عام 1914 كان الأوروبيون يحكمون السيطرة على أكثر من ثلثي الكرة الأرضية، كيف فعلوا ذلك؟
تُؤكد الإجابة التقليدية أن التكنولوجيا الفائقة، والمؤسسات التي صاغتها المنافسة العسكرية هي التي أعطت الأوروبيين ميزة حاسمة في الحرب على الحضارات الأخرى منذ عام 1500 فصاعدًا. في المُقابل، يسجل التاريخ أن الأوروبيين في الواقع لم يكن لديهم تفوق عسكري كلي في أوائل العصر الحديث على الإمبراطوريات الأخرى. يوضح جي سي شارمان في هذا الكتاب، أن التوسع الأوروبي من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر يتمثل في مراعاة الأنظمة السياسية القوية في آسيا وأفريقيا، بالإضافة إلى التفوق البحري المكتسب افتراضيًا لكون قوى الأنظمة السياسية الأخرى متمركزة نحو اليابسة وكانت غير مبالية إلى حد كبير بالحرب والتجارة في البحر.
وللتعريف بالكاتب، فجي سي شارمان هو أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كامبريدج، كما شغل رئاسة قسم السياسة والدراسات الدولية بنفس الجامعة. تتمحور اهتمامات شارمان البحثية في دراسة الفساد الدولي وغسيل الأموال والملاذات الضريبية، إلى السياسات العالمية للعالم الحديث.
أين تنتهي قصة التوسع الأوروبي وخلق النظام العالمي الجديد؟ بالنسبة للمؤرخين، يمكن الإجابة على هذا السؤال غالبًا عبر طريقة تفسيرهم للماضي. تشير معظم كتب التاريخ في القرن العشرين إلى أن أوروبا "فازت" بتاريخ العالم. لكن من منظور اليوم، يبدو أن هذا الادعاء يصعب الدفاع عنه. يرى شارمان أن الأوروبيين لم ينتصروا في النهاية، حيث سقطت إمبراطورياتهم، وتضاءلت قدرتهم العسكرية. حتى الولايات المتحدة شهدت هزائم أكثر من انتصارات ضد قوى غير غربية على مدى نصف القرن الماضي. كما يؤكد شارمان، أنه منذ عصر التنوير إلى الحرب العالمية الثانية، تمثل هذه حقبة تاريخية وقد انتهت. وربما الأهم من ذلك، أننا نبدو اليوم على أعتاب العودة إلى حالة أكثر انتظامًا، حيث ستصبح الدول الكبرى في آسيا مرة أخرى القوة المهيمنة في العالم.
يفسر الكاتب، أن الفترة الحديثة المبكرة والتي يرجع تاريخها تقليديًا من 1500 إلى 1800م، كانت الأكثر فائدة للتأمل في رسم المسارات التي سنسلكها. في تلك القرون، كانت إمبراطوريات الشرق مثل: تشينغ والعثمانيين والمغول أكثر الدول رعباً على وجه الأرض، وكانت تسيطر على أغلب الأراضي.
في جزء كبير من هذا الكتاب يعمد الكاتب إلى هدم نظرية "الثورة العسكرية"، والفكرة القائلة بأن التقنيات العسكرية المتقدمة أدت إلى هيمنة أوروبا على العالم بدءًا من عام 1500م. يوضح شارمان أن هذا غير صحيح، حيث يشير إلى أن الإمبراطوريات الضخمة في آسيا لم تهتم كثيرًا بسواحلها مما أدى بالأوروبيين لقضم شواطئهم. حتى عام 1750م تقريبًا، لم يكن للأوروبيين، حتى في أوروبا، أي ميزة عسكرية على القوى الأخرى، وخاصة العثمانيين. يذكر الكتاب العديد من الأحداث التاريخية البارزة، حيث لم ينجح التفوق التقني العسكري في حسم المواجهة.
في أمريكا اللاتينية، الذين أقدموا على الغزو، لم ينتصروا بسبب التكنولوجيا العسكرية المتطورة، ولكن عن طريق التحالفات مع الممالك المحلية الصغيرة وانتشار الأمراض الأوروبية. على سبيل المثال، كان بيثارو، الذي غزا الإنكا، يملك جيشًا قوامه 170 فقط. لاريب، أن لدى بيثارو أسلحة لم تكن تمتلكها الإنكا، لكنها كانت مجرد عدد قليل من المدافع والبنادق الأساسية. أما في إفريقيا، فقد أقدم الغزاة الإمبرياليون على شراء العبيد من الزعماء المحليين. كانت عمليات التوغل في الداخل عندما حدثت لاحقًا تمثلت مع مجموعات صغيرة من الجنود، وكانت الاشتباكات باليد.
يجادل شارمان بأنه باستثناء الأمريكتين، لم يكتسب الأوروبيون تفوقًا عسكريًا خلال فترة التوسع الأوروبي من القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر. لا يجب التقليل من التوسع الأوروبي الناجح خلال هذه الحقبة، فالتفوق البحري الذي تم تحقيقه كون الأنظمة السياسية في الشرق تمركزت قواتها على اليابسة وكانت غير مبالية إلى حد كبير بالحرب والتجارة في البحر. ويذكر التاريخ قيام أميرال صيني ذات مرة بقيادة رحلة تفقدية إلى إفريقيا لكنه تجاهلها بعد ذلك.
ويشير الكاتب إلى أن الأوروبيين لم يرسلوا إلى الخارج الجيوش الكبيرة كالتي استخدموها في أوروبا. قادت مجموعات صغيرة من المغامرين والقوات الاستكشافية والشركات الخاصة المستأجرة التي اعتمدت على دعم الحلفاء المحليين للتوسع. لم تستطع أوروبا مجاراة انتشار الإمبراطوريات الآسيوية مثل العثمانيين في الشرق الأدنى، والمغول في جنوب آسيا، ومانشو كينغ في الصين. في الوقت الذي بدأت فيه أوروبا عهد استكشافاتها، كانت الإمبراطوريات الصينية والمغولية أكثر تطوراً من الناحية الاقتصادية من أوروبا. يؤكد شارمان: "بشكل عام، كان الأوروبيون واقعيين لأنهم لم يحظوا بفرصة كبيرة لمنافسة الأعداء في ميدانهم، ولذلك خضع الأوروبيون لسلطة الإمبراطوريات الآسيوية.
فقط مع ظهور الثورة الصناعية، بدأت أوروبا في عام 1760م في التفوق على الإمبراطوريتين الآسيوية والعثمانية وهزيمتها. دفعت المنافسة بين دول أوروبا لغزو إفريقيا، باستثناء إثيوبيا المسيحية.
حتى القرن التاسع عشر، لم تكن أوروبا تهيمن حقًا على إفريقيا أو آسيا، لكنها هيمنت على البحار والمؤاني، وقد سمح هذا للقوى الغربية بوهم الهيمنة. لم تكن القوات العسكرية في الغرب هي الجيوش الكبيرة التي طُرحت في نظريات "الثورة العسكرية". كانت بدلاً من ذلك قوات استكشافية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقوى البحرية للإمدادات والتعزيزات ودعم المدفعية البحرية .في النهاية، تمكن الغرب من الهيمنة على آسيا وأفريقيا. يقول شارمان إنها ليست مجرد "ثورة عسكرية"، لقد كانت الجيوش لا تزال تجريبية ولم تكن المقاومة العسكرية موجودة إلى حد كبير. لقد كانت تكنولوجيا الثورة الصناعية فقط هي التي وضعت الأسس (العسكرية، والاتصالات، والتكنولوجيا اللوجستية) في أشرعة الغرب.
ولكن كيف يمكن تفسير الحقيقة التي لا يمكن إنكارها وهي أن الأوروبيين سيطروا على العالم منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى؟ يفسر شارمان أنه كان مزيجًا من الانقسامات الداخلية داخل الإمبراطوريتين تشينغ والعثمانية، فضلاً عن ميل الأوروبيين إلى الاعتقاد بأن بناء الإمبراطورية كان الطريق إلى السيادة الوطنية. لم تكن الإمبريالية التي من خلالها سيطرت فرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة ودول أوروبية أخرى على العالم مجرد وظيفة للتكنولوجيا العسكرية المتفوقة أو القوة البحرية أو التنظيم الإداري. نادرًا ما كان الأوروبيون في وضع يسمح لهم بالسيطرة على العالم فقط من خلال قوتهم العسكرية. وبدلاً من ذلك، قاموا باحتواء النخب الأجنبية بمهارة من خلال التجارة معهم، وتوظيفهم كمرتزقة، ودعمهم في كفاحهم ضد الأعداء المحليين، وإذا فشل كل شيء آخر، يتم اللجوء للرشوة أو محاصرة موانئهم. في بعض الأحيان، أدى انتشار الأمراض المعدية إلى القيام بهذا العمل. ومع ذلك، في عصر يبدو فيه أن المنافسة بين القوى العظمى في تصاعد، يذكر هذا الكتاب القراء بأن القليل من الدول الحديثة، إن وجدت، كانت قوية بما يكفي للسيطرة على كل من حولها من خلال القوة الغاشمة وحدها.
أدى الصعود المستمر للصين والعديد من الدول النامية في القرن الحادي والعشرين إلى إعادة وضع القصة التقليدية للاستثنائية الأوروبية جانباً. إنه يدعو إلى إعادة تقييم بعض اللحظات التاريخية المهمشة. في الواقع، لماذا يجب أن نفترض أن الحروب المتكررة هي وضع مرغوب فيه، حيث تقدم الصين والهند أحداثا تاريخية مهمة لمفهوم الحداثة. حتى مع أفضل الأسلحة، لم يفز الأوروبيون دائمًا في جبهة المعركة. وربما يضيف شارمان أن تلك القوى غير الغربية التي سعت إلى محاكاة الغرب في الحروب جعلوا أنفسهم في بعض الأحيان أكثر عرضة للخطر. كانت فيتنام، الأقل شأناً من الناحية التكنولوجية، قادرة على هزيمة الولايات المتحدة القوية في القرن ال 20. وبهذا المعنى، فإن شارمان يحذر بشأن ملاءمة التكنولوجيا لتبدو الظروف المحلية مبررة. ومن جهة أخرى، صُبغت العديد من الدراسات التاريخية السابقة بالبعد العرقي والوطني. وبالتالي، يدعو شارمان لمزيد من التطلع للدراسات التاريخية غير الغربية لإثراء العلوم في فهم العلاقات الدولية.
كما تظهر الهيمنة الغربية على النظام الدولي الحديث بشكل كبير، وبالتالي يجعل الأمر أقل إثارة للدهشة إذا كانت هذه الهيمنة موجودة الآن، وإلى أي مدى تستطيع القوى الخارجية مجابهة هيمنة الغرب. كما يكشف الكاتب أيضًا عن العديد من الظروف التاريخية التي نادراً ما تمت مناقشتها حتى الآن، مثل الدور الذي لعبه الدين في بناء الإمبراطورية الحديثة. كما يبرز أن جميع الأسلحة كانت مستخدمة طواعية، حيث اخترعت الصين البارود في البداية، وصنع العثمانيون أسلحة بكثرة. ومع ذلك، بحلول عام 1700م كل تلك الإمبراطوريات تعتمد بشدة على الذخيرة الغربية.
في الختام، يتحدى كتاب "إمبراطوريات الضعفاء" الروايات التقليدية في العلاقات الدولية. يعتمد تحليل جي سي شارمان الحاد والثاقب على المعرفة التاريخية لتقديم فهم جديد للنظام العالمي المعاصر ورؤية جديدة مقنعة للمستقبل. هذه دراسة مضيئة ومقنعة للسياسة العالمية. كما أثار هذا الكتاب الجدل من منطلقاته، وخاصة في تفسير هيمنة الغرب، حيث ينظر النقاد إلى أن العدد الصغير نسبيًا من الصفحات التي خصصها شارمان في الكتاب قابلة للدحض. تم إنفاق العديد من هذه الصفحات في تفكيك "أطروحة الثورة العسكرية". في المقابل، يضع كتاب شارمان نقاشًا حقيقيًا على الساحة الأكاديمية، والنظر للتاريخ من زويا مختلفة.
اسم الكتاب: إمبراطوريات الضعفاء: القصة الحقيقية للتوسع الأوروبي وخلق النظام العالمي الجديد
المؤلف: J C Sharman
الناشر: Princeton University Press
سنة النشر: 2019
اللغة: الإنجليزية
عدد الصفحات: 216 صفحة
