أليغ بوريسوفيتش أوزيروف
فيكتوريا زاريتوفيسكايا*
"بفضل القوى الروحانية لهؤلاء الرومانسيين، الذين يحرقون أنفسهم في شعلة التاريخ، يتم بناء المُستقبل. وعلينا التذّكُر أنَّ مثل هؤلاء الناس بالذات يصبحون ضحايا للتغييرات السياسية وللحسد والغيرة والافتراء من الدوائرالداخلية التي لا تستطيع دائمًا رؤية حجم شخصيتهم العظيمة وتقييم ما يفعلونه من أجل الصالح العام".
بهذه الكلمات يختم الكاتب الروسي أليغ أوزريوف كتابه الذي كرسه لشخصية مُؤثرة في التاريخ السياسي الروسي الحديث، كريم حكيموف. يحمل كتاب "كريم حكيموف... سجل حياة" طبيعة مميزة، فإلى جانب القيمة التاريخية التي تحتلها الشخصية محور العرض والاستقصاء، ثمة قرابة بين مؤلف الكتاب وبطله؛ فالأوَّل دبلوماسي سوفيتي وروسي بارز، شغل منصب سفير روسيا لدى المملكة العربية السعودية بين أعوام 2010-2017، أما الثاني فهو أوَّل رئيس لبعثة دبلوماسية سوفيتية في هذا البلد (بداية كان في مملكة الحجاز) في أعوام 1924-1928 و1936-1937، حيث ترك أثراً بالغ الأهمية في تاريخ الدبلوماسية الروسية بوجه عام، وفي التاريخ المُعقد لعلاقات بلاده مع هذه الدولة العربية الصاعدة على وجه الخصوص.
نشأ بطل الكتاب في أسرة فلاحين فقيرة من أصول بشكيرية مُسلمة، تلقى دروسه الأولى في المسجد، وكان يستقصي علومه ويُنمّي مداركه ضمن سياقات دينية، جنباً إلى جنب مع ما كان ينشأ آنذاك من حركات سياسية مًختلفة، حتى قاده الطريق إلى الانخراط التام في العمل السياسي والحزبي بُغية الدفاع عن حقوق المواطنين البسطاء والذود عن مصالحهم أمام ضغط السياسة القيصرية التي قيدت حياة الأقليات المسلمة بإجراءات حازمة، ثم اتخذ بعدها توجهاً ثورياً أهّله في العهد السوفيتي لشغل العديد من المناصب في آسيا الوسطى، قبل أن يدخل عالم الدبلوماسية حيث عُيّن قنصلاً عاماً في مدينتي مشهد ورشت الإيرانيتين، ثم مفوضا في جدة وفي الجمهورية اليمنية عام 1929- 1931 وبعد رحلة ثانية إلى جدة سقط ضحية القمع الستاليني جرّاء اتهامه بالتورط مع مُنظمة إرهابية تركية. طواه النسيان بعد ذلك ردحٍ من الزمن قبل أن يُعاد له الاعتبار، ويُسمح لموطنه الأصلي، جمهورية باشكورستان الروسية بالاحتقاء به ومنحه رمزية شعبية مستحقة، والأمر ينطبق على جمهورية تاترستان الروسية التي تَعُده مشتركا تاريخيا لها.
يكشف الكتاب عن صفحات غير معروفة من سيرة واحد من الدبلوماسيين السوفيت البارزين الذين ساهموا في بناء دبلوماسية البلاد بعد ثورة أكتوبر من عام 1917 وأرسوا أسس العلاقات بين الاتحاد السوفيتي والمملكة العربية السعودية واليمن. وقد قيّض للمؤلف تكوين صورة متكاملة عن حياة وأنشطة حكيموف، والاقتراب من فهم نفسيته، وقراءة شخصيته، ما أوصله في الختام إلى إنكار فكرة تورطه بمنظمات تركية مشبوهة وهي التُّهمة التي أعدم بسببها. سوى ذلك فنحن حيال دراسة لا تجري على ضفة شخصٍ واحد، بقدر ما جعلت من ذلك الشخص منفذاً إلى نظرة شاملة على أحوال تاريخية هامّة. وليس مصادفة أن يجعل المؤلف لكتابه عنوانا فرعيا يشير إلى مقاصد بحثه: "مصير الإسلام والشيوعية". فلعقود من الزمن، شكّل هذا الموضوع الشائك حقلاً بحثياً خاض فيه زمرة بارزة من العلماء الروس والأجانب، كما شهد الحقلُ مناظرات حامية وصدامات فكرية وإعلامية ما زال أوارها مشتعلا حتى يوم النَّاس هذا. وفيما يخص هذا الكتاب، ومن خلال منظور حياة البطل المليئة بالأحداث، يتفحص أليغ أوزيروف حلقات مهمة من التاريخ الدرامي الروسي في سنوات الاضطرابات الثورية وتشكيل الدولة السوفيتية. وعلى خلفية الأحداث التاريخية الكبرى لتلك الفترة، يقدم الباحث تحليلاً للعلاقة بين التيارات الأيديولوجية المختلفة التي تشابكت وتحاربت في فترات ما قبل الثورة البلشفية وما تلاها، ثم في الاتحاد السوفيتي وما نشأ فيه من صراع بين الشيوعية والأديان، ومنها الديانة الإسلامية التي تشكلت في روسيا عبر المنظور التركي.
في المقدمة التي وضعها للكتاب، يستقرئ المستعرب الروسي، مدير معهد الدراسات الشرقية، فيتالي ناعومكين، البعد التاريخي والعمق النظري للعمل فيقول: "عند النظر إلى عنوان الكتاب واسم مؤلفه، يتبادر إلى ذهن القارئ أنه حيال قضايا سياسية خارجية مثيرة للاهتمام، وذلك قياسا لاسم المؤلف الذي ينطوي على احترافية في الشأن الدبلوماسي الروسي، وبأنه سيروي لنا صفحات شيقة من حياة حكيموف. بيد أنه، ومنذ الصفحات الأولى من الكتاب، تنكشف أمامنا نية المؤلف وسعة نظرته، حيث لا يكتفي بنقل أخبار عن حياة وعمل شخص واحد، بصرف النظر عن مدى أهمية حكيموف ودوره الفعّال في الدبلوماسية الروسية، فنجده يشاركنا وجهة نظره حول ماضي بلدنا. لقد تمكن من إلقاء نظرة جديدة على قضية تشكيل السياسة الخارجية لروسيا وسياستها الوطنية ومواجهة التيارات الوطنية المختلفة في مناطقها المسلمة وتطور هيكلها الفيدرالي". (ص: 5)
من بين القضايا التاريخية الرئيسية التي يناقشها الكتاب، اهتمام روسيا المتزايد بالشرق الأوسط، والتي تكمن، مثلما يمكن استنتاجها من منطق البحث، في المجالات الدينية والتجارية. لقد بدا هذا الاهتمام أكثر سطوعا بعد انضمام أراضي آسيا الوسطى الشاسعة إلى الإمبراطورية الروسية ومنها ممالك قوقند وخوارزم وبخارى ذات الساكنة المسلمة. وفي واقع الحال فإن روسيا الأرثوذكسية قد تحولت في الفترة بين 1864 – 1886 من وجهة نظر ديموغرافية إلى بلاد أرثوذكسية مسلمة على حد سواء. وقد كانت الصعوبة الرئيسية في هذا السياق أن الكيان الروسي في ذلك الزمن كان يقوم على أساس مَلكية مطلقة ودين أرثوذكسي رسميّ، سوى أنه اضطُر، من الآن فصاعدًا، إلى بلورة تفاعل مع الجزء المسلم ذي النسبة السكانية الكبيرة. كما اتخذت زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة أهمية سياسية قصوى، ما نتج عنه افتتاح أول قنصلية روسية في شبه الجزيرة العربية عام 1891 في جدة وذلك من أجل تأمين مصالح الحجاج الروس في المقام الأول. وفي سياق آخر يصف لنا المؤلف ولادة السياسة الروسية تجاه الخليج العربي في نهاية القرن التاسع عشر، والتي سميت بسياسة الأعمال التي أدت في عام 1903 إلى تدشين خط بحري بين أوديسا والخليج العربي واستخدام الاتصال المباشر لتوسيع تجارة الكيروسين الروسي الذي كان سلعة رئيسية للإمبراطورية الروسية في الشرق الأوسط في الفترة ما بين 1890-1914.
إن من أصعب وأخطر الأسئلة التي حاول الكاتب الإجابة عنها: ما الذي جعل المسلمين في تلك الفترة التاريخية من نشأة الدولة السوفيتية الفتية أقرب إلى الشيوعيين؟ وللإجابة عن هذا السؤال المشروع والذكي، يشير المؤلف إلى أن الأرثوذكسية في روسيا القيصرية ما قبل الثورة كانت الدين الوحيد للدولة، وأن الإسلام، على الرغم من الاعتراف الرسمي به، إلاّ أنه كان لا يزال في موضع اجتماعي وحقوقي متدن؛ فغالباً ما تموضع مسلمو روسيا في أسفل السلم الاجتماعي، ولم يستشرفوا أي آفاق لأنفسهم في ظل هذا النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وذلك حتى انهيار السلطة القيصرية وانغماس روسيا في خضمّ التحولات الاجتماعية العظيمة.
يُشير المؤلف إلى حقائق عديدة تؤيد فكرته، فعلى سبيل المثال، وبعد الثورة مباشرة، بإيعاز من لينين نفسه، تم توجيه عددٍ من الرسائل الرمزية، ولكن المهمة للغاية، إلى مسلمي روسيا، ومنها إعادة مجمّع "كرافان سراي" في مدينة أورينبورغ إلى المسلمين عام 1918 وهو مجموعة مبانٍ ذات رمزية دينية للمواطنين المسلمين، وقد تمّ الأمر فور استتباب الوضع للسلطة السوفية في المدينة المذكورة. وكانت السلطة القيصرية قد وضعت يدها على المجمّع التابع للشعب البشكيري المسلم عام 1865 بحجة الاستفادة منه للصالح العام.
ومن بين الوقائع التاريخية التي سعى المؤلف إلى عرضها من أجل تعزيز نظرته تجاه السياسة السوفيتية وطريقة تعاملها مع الشعوب المسلمة، هناك وثيقة سايكس بيكو السرية التي نشرتها جريدة "إزفستيا" عام 1917 بتوجيه من لينين شخصيا.
ويقدم الباحث رزمة من البيانات حررتها وزارة الخارجية السوفيتية تؤيد فيها مسعى الحركات الوطنية العربية، كهذا المقطع المأخوذ من أحد البيانات: "إننا نهتم بما يحدث في شبه الجزيرة العربية ونؤيد اللحمة الوطنية للعرب وإقامة دولة عربية موحدة وقوية. وبذلك تتطابق مصالحنا مع مصالح العرب، ما يمكّننا من إرساء أسس التعاون السياسي الذي سيعود بالفائدة على الطرفين " (ص: 151)
مع ذلك يُظهر المؤلف الجانب التكتيكي الذي رسم مصالح البلاشفة وحدود تحالفاتهم الداخلية حيث يبيّن طرحهم البرغماتي تجاه مطالب الشعوب المسملة في الاتحاد السوفيتي بالاستقلال أو الحكم الذاتي. ففي إبريل من عام 1918 قامت السلطة السوفيتية بحلّ الهيئات الحاكمة لدولة إيدل – أورال الإسلامية التي تمّ إنشاؤها في المؤتمر الثاني للمسلمين الروس وذلك بعد استيلاء الجيش الأحمر على مدينتي قازان وأوفا المسلمتين.
ويعرض المؤلف التغير الذي طرأ على موقف السياسة الخارجية السوفيتية تجاه الدول الإسلامية وتفسيرها للعقيدة الإسلامية باعتبارها على طرف نقيض من الشيوعية، فراحت تهمل رسائل كريم حكيموف القادمة من السعودية ولا تهتم بتوصياته التي تتحدث عن تغيّر الأحوال في هذا البلد الإسلامي، إذ توقفت عمليات سرقة الحجّاج وازداد عدد المدارس وظهرت السيارات والنقل الجوي وتجملت المدن. ومع ذلك فقد أسفرت مجهودات حكيموف عن زيارة الملك فيصل إلى موسكو عام 1932. بيد أنه، وعلى الرغم من روعة الاستقبال، فقد نتج عن الزيارة خيبة أمل من كلا الطرفين، السعودي والسوفيتي.
وانطلاقاً من مثال حكيموف ومصيره، يحاول أليغ أوزيروف الإجابة عن سؤال ماهية العلاقة بين سياسة الدولة من جانب وبين الفرد الذي ينفذها من جانب آخر. بمعنى آخر، هل على الدبلوماسي أن يتّبع تعليمات المركز فقط أم أن الواجب يحتّم عليه المشاركة في رسم المسار السياسي لبلاده؟ فإذا كان الأمر يقرُّ بمشاركته البناءة، إذن كيف سيتسنى له ذلك في مراحل تاريخية مختلفة؟ هل لدينا خريطة تاريخية توضح فعّالية دور الفرد في بعض فترات التاريخ، وفعاليّة قراراته الشخصية، بينما في فترات أخرى يكون دوره غير ذي أهمية، فيتم تقييم جدارة الدبلوماسي من خلال دقته في أداء مهام وزارته؟
يأتي أليغ أوزيروف في كتابه بمواد إرشيفية جديدة يعود جزء منها إلى مصادر إنجليزية تم تسليمها للروس في عام 2019 وهي تكشف عن مدى الافتراء والكراهية التي ووجِه بها حكيموف من قبل أعداء روسيا الذين اعتبروه خصمًا قويًا إلى درجة أن لورنس العرب كان واحدا من مناهضي أنشطة حكيموف وقام بمواجهتها شخصيا. ومن نتائج التنافس الشرس بين حكيموف والأجانب، أن نشأت بينه وبين الملك السعودي الصاعد عام 1926 علاقة راسخة استطاع من خلالها تحقيق أول اختراق بين السوفيت والسعودية، حيث يعود إليه الفضل لأن يصبح السوفيت أول المعترفين بسلطة ابن سعود على أراضي المملكة الموحدة، في حين جاءت لندن ثانيا في هذا السياق، تبعتها فرنسا وهولندا بعد شهرين ونصف.
-------------------------------------------
الكتاب: كريم حكيموف... سجل حياة.
المؤلف: أليغ بوريسوفيتش أوزيروف .
دار النشر: جمعية النشر العلمية/ موسكو/ 2020.
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 232.
*أكاديمية ومستعربة روسية
