نوتردام الكُتاب: سرد وشعر وفن حول الكنيسة منذ القرون الوسطى إلى الغد

81fBlA8m6IL.jpg

ميشيل كريبي وأنطوان جينيزي

محمود عبد الغني

في ظهر يوم الإثنين من شهر أبريل/نيسان 2019 التهم حريق رهيب سقف كنيسة نوتردام، أحد أشهر الصروح الدينية والسياحية في العاصمة الفرنسية، بعد وقت قصير انهار برج الكنيسة، وانهارت معه مشاعر المسيحيين في العالم أجمع. فالخسارة، التي لم تصدقها عيون متابعي الصور على الشاشات، لم تعصف ببناية دينية عريقة فقط، بل بغرفة مليئة بصدى القرون، تمتد بين السماء والأرض، دنيوية ومقدسة، الأمس واليوم وغداً. غرفة صدى مهيبة تتردد فيها، دون توقف، خيالات الروائيين والشعراء، وأسئلة المؤرخين والفلاسفة. ذلك الإثنين صرخ الفرنسيون صرخة مسيحية جريحة:" رجال الإطفاء أخمدوا النيران، والشعراء جففوا دموعنا". هذا ما يجده القارئ في الكتاب الصادر عن دار "غاليمار" الفرنسية سنة 2020: نوتردام الكُتّاب: سرد وحلم الكنيسة من القرون الوسطى إلى الغد".

    يقترح الكتاب، الذي انتقى نصوصه "ميشيل كريبي" و"أنطوان جينيزي"، وترجم نصوصه المكتوبة باللاتينية وعلق عليها "إيمانويل أريولي"، مجاورة ومواجهة بين ثمانين مؤلفاً مثلت الكنيسة لبعضهم الملاذ الآمن أحياناً، والمذبح الذي يتذوقون فيه لذة التدنيس، وموضوعاً للندم أو للرغبة في البدء من جديد وبشكل مختلف أحياناً أخرى. ورغم أنها فضاء مألوف، فإنها ظلت على امتداد الأزمنة المحك الذي تجري فيه الأحلام الشعرية، وتجوز فيه التخيلات الإباحية. وبقيت هكذا تحت حماية الذين عاصروا تشييدها، أوالعُشاق المتيمين بباريس (بوريس فيون، جاك بريفير، لويس أراغون، إرنست هيمنغواي، أناييس نين...)

      من زار باريس، زار كنيسة نوتردام، ومن زار كنيسة نوتردام زار باريس. تصبح المعادلة، أدبياً أكثر جاذبية، مدينة، رواية، كنيسة، بفضل رواية لفيكتور هيغو في "نوتردام باريس" (1831، 940 صفحة)، التي تُرجمت إلى العربية تحت عنوان "أحدب نوتردام"، الشخصية المثيرة،كوازيمودو، التي اختبأت داخل الكنيسة لإخفاء عاهتها عن العالم. وقد كانت روايته بمثابة ختم على ميثاق بين المكونات الثلاثة: المدينة، الرواية، الكنيسة. وقد كان أيضاً ختماً على انتصار الأدب في تمثيل هذه الهندسة المُبهرة التي كشفت عن عبقرية كبيرة، فلا وجود خارج فرنسا، في العالم الأوربي، نموذجا لنضج الهندسة والدين في آن واحد، المرئي وغير المرئي. ويؤكد مقدم الكتاب، ميشيل كريبي، أنه إذا أردنا مثالاً مجسداً لما رآه القديس أوغسطين من زاوية لاهوتية، فإنَّ نوتردام حاضرة لتلبية هذا الطلب. إلى درجة أن المشاهدين المذهولين أمام حريق أبريل/نيسان 2019 لا يشكون فيها أبداً.

    حلم الفرنسيون بالتقاط صورة سيلفي رفقة كوازيمودو. وبينما تلتهم النار خشب البناية، رأى الحالمون المتيمون بحب الكنيسة المقدسة أن للنار أقوالاً تريد التلفظ بها. لسان حالهم يقول: تكلمي، إذن، أيتها النار!  قولي لنا ماذا تمزقين! تكلمي إلى حزننا! قولي لماذا نحن حزانى!

     كان هناك شيء ما جميل في هذه الكارثة، مثلما يحدث غالبا، أو نادراً، مع الكوارث التي تغرس مخالبها بقوة في الأشياء الإنسانية المتعالية.

   إذا كنَّا نمتلك تفاصيل كثيرة عن مجموعة من المعالم المعاصرة، فإن المعلومات عن تشييد كنيسة نوتردام باريس بقيت غير دقيقة. وإذا استثنينا السجل الكنسي الخاص بها، ويتكون من مجموعة نسخ من الوثائق القانونية، فإن النصوص التي يذكرونها في فترة تشييدها (من سنة 1163 إلى منتصف القرن الرابع عشر) نادرة جداً ومختصرة. وبصفتها الثمينة هذه، فهي تسمح بتأسيس الخطوط الكبرى لتاريخ المعلمة وردود الفعل التي أحدثتها.

الحجر الأول للكنيسة الجديدة والفن الديني

     إنَّ أسقف باريس "موريس دي سيلي" هو من قرر بناء كنيسة قوطية جديدة، على غرار كنائس أخرى في شمال فرنسا، مكان الكنائس الرومانية. وأغلب المعاصرين لهذا الحدث عبروا عن حبهم لهذا الرجل الذي، الذي نشأ طفلاً فقيراً ومتسولاً، واستطاع بروحه الصافية الوصول إلى أهم أسقفية في فرنسا، وعمل على تحسين مظهر باريس منافساً في ذلك الملوك. وقد كانت نتيجة عمله كنيسة نوتردام التي شكلت إبداعه الرئيسي في أسقفيته، إضافة إلى تشييده لقصر الأسقفية، والعديد من الجسور والأديرة.

    وُضع أول حجر للكنيسة الجديدة سنة 1163 من طرف البابا ألكسندر الثالث، حسب شهادة لصحفي من القرن الرابع عشر اسمه جان دي سانت-فيكتور. كان التأسيس الأول للفضاء النصف دائري المخصص للكورال قد اكتمل في سنة 117، حسب المؤرخ روبير دي توريغني.

   كان للعديد من المؤرخين الفرنسيين، ذكر منهم الكتاب اثنين منهم: جورج ديبي، المتخصص في القرون الوسطى، وجاك لوغوف، جَدٌّ روحي واحد هو "إيميل مال" (1862-1954)، مؤلف العمل الخالد " الفن الديني في القرن الثالث عشر بفرنسا"، بعنوان فرعي: "دراسة للأيقونات في العصر الوسيط ولمنابع إلهامها"، المنشور سنة 1898، وقد كان مارسيل بروست من بين المعجبين به.

 

  فيكتور هيغو، في حب نوتردام 

    كتب فيكتور هيغو روايته الضخمة "نوتردام باريس" سنة 1831. ورغم تعدد شخصياتها، فقد اعتبر النقاد الفرنسيون آنذاك أن "الكنيسة هي أكبر شخصية في الرواية، وربما هي بطلتها الحقيقية" (بول لاكروا، 1831). حضرت أبواب الكنيسة، واجهاتها، زخرفتها بكل قوتها الرمزية. بدت وكأنها تتحدى الزمن لأنها فريدة نوعها، ضخمة، شُيدت لاستقبال كل سكان المدينة خلف جدرانها. والرواية جاءت لتقوم بنفس الدور لأنها ستُطبع في آلاف النسخ وتصبح كتاباً شعبياً. الكنيسة تنتمي إلى الشعب، لكن الفئة العالمة فقط هي من تعرف كيف تقرؤها، دون حاجة إلى التأكيد طبعاً، أن القارئ الحقيقي الوحيد هو الأحدب الذي يقرع أجراس الكنيسة: كوازيمودو. ولذلك اشتهرت رواية هيغو تحت عنوان " أحدب نوتردام".

   يطرح هيغو جيداً مجموعة من النقط المحورية أمام التأويل:"الأفعى التي تعض ذيلها، هذا الرمز القروسطي الذي يرتبط خصوصاً إلى العلم". وأيضاً الاستطراد الذي يكرسه للغة الشعارات البليغة، التي هي في نفس الآن علم وفن الرسم. وهي تدعو إلى قراءات رمزية كثيرة، ليست بالضرورة دينية كنسية: "لمن يعرف كيف يفكها، إن الشعار عبارة عن علم جبر، الشعار لغة. وكل تاريخ النصف الثاني من العصر الوسيط مكتوب داخل الشعار، مثل النصف الأول من رمزية الكنائس الرومانية. في هذا السياق أشار نقاد رواية "نوتردام باريس" إلى أن هيغو كان قد اطلع على نص غريب لمؤلف اسمه "إيسبري  غوبينو دي مونتلويزان"، وهو هرمسي من القرن السابع عشر، يشرح فيه مجموعة من الرموز والأساليب على بوابات كنيسة نوتردام.

أندري جيد: كنيسة السماء، كنيسة الأرض

   أوَّل نص نشره أندري جيد كان هو "دفاتر وأشعار أندري فالتر". كان عمره حينها عشرين عاماً. وقد ألفه بين مايو/ أيار وسبتمبر/أيلول من سنة 1890. وقد جاء في شكل يوميات ومذكرات، باح فيها رجل شاب لابنة عمه بمشاعر حب روحانية وعفيفة. كان بطل اليوميات على نفس حال أندري جيد حين كتب إلى أمه رسالة مؤرخة في 18 مارس/آذار من سنة 1890، حين كان هو الآخر تحت وطأة حب تملؤه المشاعر الدينية نحو ابنة عمه "مادلين".

  إن النظر في أبعاد النصين يسمح بالإعجاب بالطريقة التي مرت بها كنيسة نوتردام من وضعية المكان الملهم إلى منظر يشكل الفضاء الروائي. في النصين يظهر طفل الكورال داخل رحم الكنيسة له أثر رؤية وفرصة لاضطراب حسي: الكنيسة منظورة لكنها مسموعة أيضاً.

  في الرسالة التي وجهها إلى أمه، يقول أنطوان جيميزي، نشعر بإدراك الحقيقة التي تغمر الزمن اليومي والمعارف المحكية. وهذا ما يجعل من روح الكنيسة قادرة على التمدد في عالم الرواية بأسره، وتصبح الرغبات الطبيعية المتغيرات الناتجة عن التناغم الظاهر في الكنيسة. لذلك كتب جيد بلغة واضحة:"أردتُ الحديث عن أشياء كثيرة، لكنها تتدافع كلها مرة واحدة. أردت أن أثبت رمزيتي التي ترسم نفسها، ثم بعد ذلك، هذه النظرة في نوتردام، عبر بوابة المدبج الرئيسي، وأطفال الكورال بثيابهم البيضاء، وضوء المصابيح: الكل يغني، أغنيات واضحة، وتعطي انطباع كورال الملائكة...".

شاعر ونحات: شارل بودلير وشارل ماريون

  ارتكزت تمثيلات نوتردام على تراث فني ألهم خيال الشعراء وكل من أحبها على طوال العصور. من بين الآلة المليئة بالصور التي تؤسس لتمثيل مشترك لنوتردام، نجد منحوتات شارل ماريون (1821-1868)، التي عرفت صدى طيباً. تُضاف أيضاً أسماء فالتر بنيامين، شارل بودلير مروراً بالمصور الفوتوغرافي براساي (1899-1984).

  كان شارل بودلير يتوقع دوماً ولادة حقيقية لفن تشكيلي مديني، وحين التقى النحات شارل ماريون(1821-1868)، أعجب بفنه فحاول الانخراط معه في مشروع إنجاز ألبوم يضم منحوتات ترافقها نصوص شعرية ونثرية. لم يخب ظن بودلير فالنحات أنجز أعمالاً وضعت الجمهور أمام غلو معين: فبواسطة خدعة المنظور أعطى النحات لمنحوتات نوتردام أبعاداً شبيهة بأبعاد برج "سان-جاك".

  لكن كل انتباهه تركز حول وضع تناغم جديد، بعيداً عن الانحصار في رفض "الحداثة الجشعة"، حسب تعبير "أنطوان جينيزي" التي كانت تتهدد عالم الكنائس، فقام النحات بربط علاقة جديدة مع السماء عملت على قلب مفاهيم سيميائيات الكنائس.

ميخائيل باختين: الكنيسة وأجراسها

   نقاشات وجدالات ميخائيل باختين (1895-1975) مع الشكلانيين الروس، وأيضاً إعادة اكتشافه من طرف الباحثين الفرنسيين في سبعينيات القرن الماضي، عوامل جعلت منه في مقدمة مفكري القرن العشرين. وقد هدفت دراسته عن أعمال رابلي إلى الكشف عن تقليد شعبي شفوي، تتبعه منذ العصور القديمة، وبقاؤه في العصر الوسيط والنهضة: الرؤية الكرنفالية للعالم. هذا التقليد، الذي شكل فرانسوا رابلي تجسيده الأدبي، يتجاوز سؤال اللغة الوحيد. إنها رؤية حقيقية للعالم. الكرنفال هو عيد يتم فيه الاحتفال بالحياة، وينتصر على الشيخوخة، التي تُفهم بكونها مجموع القوى التي تعارض الولادة. قلب هذا الفكر الفلسفة السائدة آنذاك، مند أفلاطون حتى المسيحية، والتي تعارض الواحد بالتعدد، والأبدية بالنهاية، السماء بالأرض. كان الكرنفال يحتفل بالأرض التي تحتها يرقد الموتى وتنبت فوقها البذور. وبالتشابه، فكل ما هو سفلي هو جسدي يعلن عن نفسه باعتباره علامة على الولادة الجديدة.

 في هذا الفصل من الكتاب، يحلل باختين الحلقة التي تلي تحليق أجراس نوتردام في السماء. الكنيسة وأجراسها حسب اللاهوت الرسمي، توجد في سماء لا تتغير.

سيلفان توسون: العزاء الكرنفالي

بعد حريق الكنيسة في 2019، كتب الكاتب الفرنسي "سيلفان توسان" (1972-...) يحكي عن ولادة جديدة بفضل نوتردام باريس: الولادة الأولى لجسد تمت معالجته، بعد انهيار قوي، والثانية كانت بفضل الإيمان القوي بالكنيسة.

 كتب توسان نصاً في مساء نفس اليوم الذي شب فيه الحريق. نص ألهبه بمشاعره تجاه الكنيسة، كما لو أنه يختبر فيه وعيه بهذا الحدث. هل صعود الأبراج أو السهم في الكنيسة، يمكن النظر إليهما باعتبارهما تدنيساً، وقد اعتبره عزاء "كرنفالياً" للكنيسة نفسها، مستعيراً مفهوم باختين عن أعمال "فرانسوا رابلي" السالف الذكر. 

------------------------------------------

العنوان: نوتردام الكُتّاب: سرد وشعر وفن حول الكنيسة منذ القرون الوسطى إلى الغد

المؤلف: ميشيل كريبي وأنطوان جينيزي

الناشر: دار غاليمار

سنة النشر: 2020

اللغة: الفرنسية

 

أخبار ذات صلة