«حياة مترابطة»

Picture1.png

كيف يمكن للفطريات أن تشكل عالمنا، وتغير من عقولنا، وتحدد مستقبلنا ؟

مارلين شيلدريك

طلال اليزيدي

الفطريات ليست نباتية ولا حيوانية، وتوجد في جميع أنحاء الأرض والهواء وحتى أجسادنا، يُمكن أن تكون مجهرية ومن الممكن أن تشاهد بالعين المجردة. تمثل أيضًا أكبر الكائنات الحيَّة -من حيث النوع- تم تسجيلها على الإطلاق. الفطريات مكّنت الحياة الأولى على الأرض، ويمكنها البقاء على قيد الحياة بدون حماية في الفضاء والازدهار وسط الإشعاع النووي. في الواقع، تعتمد الحياة كلها تقريبًا بطريقة ما على الفطريات. هذه الكائنات المدهشة بلا حدود ليس لها دماغ ولكن يمكنها حل المشكلات والتلاعب بسلوك الحيوانات بدقة مدمرة. شكلت الفطريات تاريخ البشرية، من خلال إعطائنا الخبز والكحول والأدوية المنقذة للحياة، وقد ثبت مؤخرًا أنَّ خصائصها المخدرة تخفف عددًا من الأمراض العقلية. من الممكن تسخير قدرتها على هضم البلاستيك والمتفجرات ومبيدات الآفات والنفط الخام في تقنيات عالية الدقة، واكتشاف أيضاً أنها تربط النباتات في شبكات تحت الأرض، "شبكة الغابة الواسعة" (wood wide web) التي بدورها غيرت الطريقة التي نفهم بها النُظم البيئية. ومع ذلك، فإنَّ أكثر من تسعين في المائة من أنواعها لا تزال غير موثقة. كتاب حياة مترابطة يضمن رحلة تغير العقل إلى عالم مذهل وملهم، ويوضح أنَّ الفطريات توفر مفتاحًا لفهم الكوكب الذي نعيش عليه وفهم الحياة نفسها. فهذا الكتاب أحد تلك الكتب النادرة التي يمكنها حقًا تغيير الطريقة التي ترى بها العالم من حولك.

تعيش الفطريات في جميع أنواع الكائنات الحية، على الأسطح، وداخل التربة وتحتها، وفي الهواء، وفي الماء، وفي أرضيات المحيط العميقة وداخل الصخور الصلبة. في هذه الأماكن، الفطريات ليست موجودة فحسب بل إنها أيضاً تلعب دوراً هيكلياً. لقد لعب تفاعلها مع المواد الأخرى دورًا أساسيًا في صنع العالم الذي نعيش فيه. الاندماج التكافلي للطحالب مع الفطريات لتكوين الأشنات مكّن الأسلاف الخالية من الجذور لجميع نباتاتنا من الظهور من الماء إلى اليابسة في المراحل الأولى التطويرية للكائنات الحية. في الوقت الراهن 90 في المائة من جميع النباتات تعتمد على الفطريات لامتصاص المعادن. يمكن للفطريات أن تأكل معظم القمامة وحتى انسكاب الزيت. يمكننا استخدامها بعدة طرق، كصناعة العقاقير الطبية والطبخ وحتى بناء الأثاث.

في هذا الكتاب مارلين شيلدريك Merlin Sheldrake عالم الفطريات الذي يدرس شبكات الفطريات تحت الأرض يجوب بالقارئ في عالم الفطريات بحماس ودقة. بدأ مارلين افتتانه بالفطريات في الطفولة. فمنذ نعومة أظافره أحب ألوانها وأشكالها الغريبة ورائحتها الشديدة وقدراتها المذهلة. مارلين أيضاً فخور بالطريقة التي يتحدى بها هذا المجال الأكاديمي غير العصري افتراضاتنا وفهمنا للحياة في عمق جذور النباتات. كتاب حياة مترابطة كتاب يتحدث عن كيفية تداخل أشكال الحياة وتغيير بعضها البعض باستمرار. في ثنايا الكتاب ينتقل مارلين بسلاسة بين القصص والأوصاف العلمية والقضايا الفلسفية. مارلين شيلدريك عالم أحياء فطرية حصل مؤخرًا على الدكتوراه من جامعة كيمبريدج. أجرى الكثير من أعماله في جزيرة بارو كولورادو في بنما، حيث درس التفاعلات بين الأشجار عبر الفطريات. يكتب عن بعض أعماله في بحث الدكتوراه ولكن أيضًا يكتب عن الفطريات المبهمة لغير علماء الفطريات.

كتاب شيلدريك هو مجمع للفطريات في كتابه تحدث عن العديد من أنواع الفطريات. الفطريات التي ترسل إشارات للخنازير من تحت الأرض، الفطريات التي استعمرت الأرض من البحر ومكنت النباتات من الانتقال إلى الشاطئ، الفطريات التي تربط الأشجار في شبكة نظام تبادل، الفطريات التي تسيطر على عقول الحشرات، والفطريات التي تنتج الكحول وتمكن من صنع الخبز، والتي كانت ترقص مع الإنسانية منذ ما قبل فجر الزراعة. يمكن للفطريات أن تحتوي العشرات من الأجناس المختلفة ويمكن أن تحول حتى أكثر الكائنات غير الحية (سواء كانت خشبية أو حتى صخرية) إلى حياة. يمكنها الشعور بما يمكن أن نسميه الروائح أو الأذواق من خلال مجمل أجسامها الخيطية. في هذه المراجعة سوف ألقي الضوء ببعض من التفصيل على أنواع الفطريات التي وردت في الكتاب.

هناك أكثر من مليوني نوع من الفطريات. ويوضح مارلين أن معظمها يتخذ شكل خيوط متعددة الخلايا تسمى خيوط (hyphae) تنمو عند أطرافها، وتتفرع في جميع الاتجاهات، وتتزاوج، وتندمج، وتتشابك، مما يؤدي إلى إنشاء الشبكات المعروفة باسم الميسيليا (mycelia). الفطريات التي نراها، الفطر، والأقواس، والعفن، هي أجسام الثمار التي تنبت من الفطريات وتتكون من شبكة من الخيوط لإطلاق الأبواغ، يبلغ حجم الأبواغ الفطرية التي تطلق في الجو خلال عام واحد حوالي 50 ميجا طن. تتركز الأبواغ في الغلاف الجوي، وأحيانًا تغير الطقس، تتشكل قطرات من الماء على الأبواغ، لتحبس تلك الأبواغ المزيد من الرطوبة، فتصبح نواة قطرة من المطر أو حجر البرد.

يقول مارلين شيلدريك إن شبكة الميسيليا الفطرية هي النسيج الذي يربط أنحاء العالم بعضه بعضاً. تتداخل الشعيرات الفطرية في التربة خلال الأجسام الحية والمتحللة، النباتية أو الحيوانية. ثم يبحث كل طرف استكشافي عن الماء والمغذيات التي ستبدأ في امتصاصه، وإرسال إشارات كيميائية إلى أجزاء أخرى من الشبكة. في بعض الأنواع من الشبكات الفطرية اكتشف العلماء انتقالا لموجات كهربائية. بعد انتقال الإشارة تتجه الخيوط الفطرية الأخرى التي تتلقى هذه الإشارات نحو موقع الماء والغذاء. اكتشف العلماء أن هذه الشبكة الفطرية يمكنها تخزين المعلومات؛ فحاولوا إزالة مصدر الغذاء وقطع جميع التوصيلات بين الخيوط الفطرية، فظهرت خيوط فطرية جديدة نمت و توجهت في الاتجاه الصحيح نحو الغذاء و الماء. من وجهة نظر الكاتب، يصعب عدم تسمية هذه الظاهرة "بالذاكرة"؛ لأن الخيوط الفطرية نمت وشكلت وصلات جديدة وتوجهت نحو الغذاء. تقوم الأطراف بتوزيع "المعلومات" إلى باقي الشبكة، واستجابة لذلك، تقوم شبكة الفطريات بإجراء تغييرات مفيدة على سلوكها. فهذا النظام الشبكي أكثر من مجرد تفاعل كيميائي بل كيان متجاوب لأفعال من الممكن أن تخدم أو تضر. يطرح شيلدريك فكرة ذكاء السرب على هذه الشبكة الفطرية، لكن السرب يتكون من أفراد منفصلين، في حين أن شبكة الفطرية المتواصلة والمتشابكة تعمل ككل مادي.

التساؤلات في الكتاب تصبح أكثر تعقيدًا بالأخص عندما يبدأ الكاتب بالحديث عن فطريات الميكوريزال (Mycorrhizal). فطريات الميكوريزال هي الأنواع التي شبكتها الفطرية (mycelia) تخترق وتتشابك مع جذور النباتات. فيحدث التبادل التكافلي بين الفطر والنبات، حيث يقوم النبات بعملية التمثيل الضوئي بإطعام الميسليا بالكربون ويتلقى منه النيتروجين والفوسفور والعناصر الغذائية الأخرى. تقوم النباتات بنقل المعلومات الكيميائية من الهواء إلى الفطريات، والفطريات كذلك تحمل إشارات مماثلة للنبات من تحت الأرض. في الغابات تتكون شبكة تضم العديد من الأنواع، شبكة واسعة النطاق وكثيفة لدرجة أن الأشجار تكتشف ما يحدث لبعضها البعض عبر مسافات طويلة تحت الأرض. بعض العلماء يسمون هذا الشبكة "شبكة الغابة الواسعة". أدرك العلماء أن في أجزاء من الشبكة التي يكون فيها الفوسفور نادرًا، يتعين على النبات توفير المزيد من الكربون من أجل تحفيز عملية إطلاق الفسفور عن طريق شبكة المايسيليا. استجابةً إلى إشارات الكربون، تحمل المايسيليا الفسفور من حيث يتوافر إلى مكان طلبه. يسأل الكاتب نفسه عما إذا كانت النباتات والفطريات، على الرغم من أنها بلا عقل، تقيِّم المقايضة وتتخذ القرارات. التعقيدات في هذه الإشارة الكيميائية تجلب مصطلحات إلى الذهن مثل "المغازلة" أيضًا. فعلى سبيل المثال تستخدم الخيوط الفطرية (Hyphae) العلامات الكيميائية لجذب الأزواج المتوافقين، وتستخدم الكمأة والفطريات الأخرى الرائحة لإغراء الحيوانات التي ستأكلها لتنشر أبواغها وتتكاثر.

بعض الفطريات يعيش حياة تكافلية مع الحيوانات. فطر أوفيوكورديسيبس أحادي الجانب (Ophiocordyceps unilateralis) هو فطر يستخدم النمل بشكل طفيلي. تتحول البوغيات الجراثومية التي تسقط على النملة إلى خيوط تختبئ وتنمو إلى فطريات لتشكل في النهاية 40٪ من كتلة جسم النملة. فقط دماغ النملة يبقى غير مخترق من قبل الخيوط الفطرية، لكن عدم نمو الفطر على دماغ النملة يجعل هذه القصة أكثر شراً، حيث يبدو أن هذا الدماغ أصبح سجينًا عاجزًا. تفرز الفطريات النامية على النمل مواد كيميائية تتلاعب في سلوك النمل، ويدفع الحشرة إلى مغادرة العش، وتسلق ساق نبات طويل، وبعدها تثبيت فكها في الجانب السفلي من الورق، ثم تظهر الخيوط الفطرية من القدمين وتربط النملة بالنبات، ثم تقوم الفطريات بهضم النمل. كما يقول شيلدريك، فإن العملية دقيقة للغاية، لأن الفطر قادر على نقل النملة إلى مكان به الرطوبة ودرجة الحرارة المناسبة تمامًا لجسم الثمار، وهو فطر طويل نحيف، ينمو الآن من جثث النمل، متموضع على عش النمل لتسقط جراثيمها على العش أدناه. هذا الافتراس من قبل فطر أوفيوكورديسيبس مرعب بعض الشىء، حتى لو لم تختبر النملة شيئًا من الممكن أن نسميه المعاناة، ولكن مشهد نهاية حياة النمل بالفطر مروعة مثل الدراما المرعبة. حقيقة إن أوفيوكورديسيبس Ophiocordyceps قد تطور طبيعياً للقيام بذلك وليس لديه خيار آخر لا يحدث فرقًا يذكر في تحسين صورة المشهد المرعب، فتحولت تصورات النمل ورغباته إلى أعداء يوجهونه إلى الموت، ولا يوجد تكافل أو تفاوض في هذا الموقف. حتى حيوان المزرعة، وهو حيوان حر على أي حال، لديه بعض الفاعلية أثناء حياته، لكن هذه النملة ليس لديها أي تأثير على الإطلاق، بل تصبح مجرد وسيلة لتحقيق غاية يريدها فطر الأوفيوكورديسيبس.

 

يفعل البشر أحيانًا ما يفعله فطر الأوفيوكورديسيبس، وأشياء أخرى بغيضة ينجحون غالبًا في اعتبارها صحيحة، أو طبيعية، أو لا تستحق الملاحظة. ومع ذلك فإنَّ البشر وحدهم، على حد علمنا، لديهم القدرة على رؤية سلوكهم الطبيعي على أنه خطأ. جعلتني القراءة عن مصير هذا النمل أمسك بفكرة وجود ضمير، يجعلنا مختلفين عن الفطريات، أو عن نمر ذكر يقتل أشبال أنثى لإحضارها إلى القطيع. على الرغم من أن كتاب حياة مترابطة لا ينطوي أبدًا في جانب الجدال أو الوعظ، إلا أن الكتاب يحتوي على رسالة نبيلة واحدة: الإنسانية ليست بالفطرة مميزة ولا هي الجنس المسيطرة حقًا. بدلاً من ذلك، تستخرج البشرية وتستمد قوتها من شبكة الترابط بين الأنواع المختلفة من المخلوقات وقرابتهم المتنوعة، ومفهوم أن الجنس البشري متميز ومسيطر بتفرد ليس إلا فكرة واهية. الكتاب عبارة عن دعوة للتفاعل مع الفطريات على مستواها. يقول الكاتب "هل من الممكن للبشر، بأدمغتنا وأجسادنا ولغتنا الحيوانية، أن يفهموا مثل هذه الكائنات الحية المختلفة؟ كيف يمكن أن نغير أنفسنا في هذه العملية؟ "مثل الفطريات، "نحن عبارة عن أنظمة بيئية تمتد عبر الحدود وتتجاوز الفئات، وتنبثق ذواتنا من التشابك المعقد للعلاقات الاجتماعية ."

كتاب حياة مترابطة واحد من تلك الكتب النادرة التي يُمكن أن تغير حقًا الطريقة التي ترى بها العالم من حولك، قراءة كتاب حياة مترابطة سلسلة، وكاشفة لحقائق مذهلة حتى للمتخصصين، فالسرد في الكتاب يبعث الحماس. كتاب حياة مترابطة تحفة حقيقية، وذو نظرة ثاقبة مثيرة ورائعة للعالم الحي، مكتوبة بشكل جميل ومسل ومرح وملهم، مع تمثيل العلم بعناية ومسؤولية.

 

الكتاب: حياة مترابطة: كيف يمكن للفطريات أن تشكل عالمنا، وتغير من عقولنا، وتحدد مستقبلنا

الكاتب: مارلين شيلدريك.

دار النشر: Bodley Head

سنة النشر: سبتمبر، 2020.

لغة النشر: الإنجليزية.

عدد الصفحات: 368 صفحة.

 

أخبار ذات صلة