روتجر بريجمان
محمد الشيخ
لَئِنْ كان المفكر الفرنسي الكبير روني جيرار (1923-2015) -صاحب كتاب "العنف والمقدس" (1972) ـ قد اهتدى في كتابه "أمور مخفية عن العالم منذ تأسيسه" (1978) إلى أن الشأن فينا -معشر البشر- ألا نرغب في الأشياء، اللهم إلا إن رغب فيها غيرنا؛ بحيث ما ثمة من رغبة إلا الرغبة في الرغبة أو الرغبة في المحاكاة؛ فإن المفكر الهولندي الشاب -33 سنة- روتجر بريجمان يذكرنا في كتابه هذا عن مروءة البشرية (2020)، بأن طيبة بني البشر أمر متأصل فيهم منذ أن صار الإنسان إنسانا... وإذا كنا قد تعوَّدنا على القول بأن "الواقعية" تقتضي منا الإقرار بأن بني البشر شريرون لطبع متأصل فيهم، وأن "المثالية" تكمن في القول بأنهم أخيار، فإن المؤلف يقلب هذه المعادلة قلبا جذريا: إنما تكمن الواقعية -كل الواقعية- في القول بأن بني البشر أخيار بالطبع... وذلك ضد ما يطلق عليه "النزعة الكلبية" التي تستلذ بالإمعان في ترديد أن سلوك البشر مدلِّلٌ على ما يشي بخوارم المروءة، وأن بني آدم كائنات أنانية وعدوانية، وأن من شأن "الكلبيين" أن يكونوا دوما على صواب في ما يدّعونه بشأن طبيعة بني البشر الأنانية والعدوانية.
وهكذا، يدور هذا الكتاب حول ما سماه صاحبه "فكرة جذرية". وما هذه الفكرة الجذرية؟ هي فكرة قوامها القول: إن معظم بني البشر لطفاء أَوِدّاء وذوو مروءة. وإذا ما نحن تساءلنا: هل ، نعيش، يا ترى في عالم متآزر؟ أم نعيش، بالضد، في عالم لا تآزر فيه؟ فإن معظم الناس يخطئون في الحكم حين يعتقدون أننا نعيش في العالم الثاني، بينما كل البحوث العلمية ومنذ الحرب العالمية الثانية ما تفتأ تثبت العكس. والحال أن هذه الفكرة الجذرية التي يدعو إليها المؤلف يرى أن من شأنها أن تحمل من يحكموننا على إبداء قلقهم؛ ما داموا هم يقتاتون على نقيضها. هي فكرة تنكرها الأديان والأيديولوجيات، وتتجاهلها وسائل الإعلام، وتخفيها حوليات تاريخ العالم: فكرة أن بني البشر طيبون في أصلهم، وأن هذه الطيبة تبدو في أجلى صورها عند النوائب. والغريب المريب، كما يرى المؤلف، أن هذه الفكرة، وعلى عكس ما يُعتَقد، تُسَوِّغها كل فروع العلم تسويغا، ويعززها التصور، وتشهد عليها ماجريات الحياة اليومية. ثم يستأنف المؤلف القول: وماذا لو تشجعنا على أن نحمل فكرة طبية النوع البشري وخيريته على محمل الجد؟ وإنها لفكرة إِنْ نحن عملنا بها أحدثت ثورة تقلب المجتمع رأسا على عقب؛ إذ تعد بمثابة البلسم الشافي الذي يضمن ألا يعود الإنسان يرى العالم كما كان يراه من ذي قبل: عالما مليئا بالشرور محملا بالآثام.
ومن ألطف ما في هذا الكتاب أنه كتاب في كتاب؛ بمعنى أن صاحبه، وهو يمضي في فصوله قدما، لا يكف عن التذكير بلحظات تأليفه؛ بحيث يذكر الفكرة ويحكي كيف واجهها محيطه ما أن أعلن نيته تدوينها. إذ يذكر أنه خلال السنين الماضية التي كان يُعِدُّ الكتاب فيها، فإنه لما كان يحدث أن يحدّث الناس عن فكرته، عادة ما كانوا يواجهونه بتقطيب حواجبهم تعبيرا عن ذهولهم وقلة تصديقهم، حتى إن ناشرا ألمانيا اعتذر عن نشر الكتاب معللا ذلك بأن الألمان لا يعتقدون في خيرية البشر الفطرية، وقال مثقف من علية القوم: ألَا ما أحوج الفرنسي إلى قبضة الحكومة الصارمة. وواجهه العديد من الأمريكيين، بعد انتخابات عام 2016، هل جُننت يا رجل؟ فحتى في الدول التي رسخت فيها الديمقراطية، شأن فرنسا وألمانيا وبريطانيا، يتشاطر أغلب الناس تلك النظرة "المعوزة" عن البشر.. بينما يصفون كل من يدافع على عكسها بأنه "ساذج" و"عبيط...".
والسؤال الذي لطالما أخذ بمجامع عقل المؤلف هو: لماذا يا ترى يتم تبني مثل هذه النظرة السلبية عن البشرية؟ ولماذا إذ نميل إلى الثقة بأقربائنا وبجماعتنا، سرعان ما يتغير موقفنا عندما يتعلق الأمر بالبشر كافة؟ ولماذا تبادر الكثير من القوانين والتشريعات، والعديد من الشركات والمؤسسات، إلى ادعاء أنه لا ثقة في بشر؟ ولماذا إذ يثبت العلم أننا نعيش في عالم مروءة وتآزر نميل إلى الاعتقاد بضد هذا؟ أفهل يتعلق الأمر، يا ترى، بعادة منشئية نُشِّئنا عليها؟ قد يكون ذلك. وفي هذا الكتاب يورد المؤلف عشرات الآراء التي توحي بذلك. أم هل هي قناعة عقدية؟ قد لا يصدق ذلك، فقط بعض الأديان تعتقد أن من صحيح الاعتقاد القول بأن البشر منذورون إلى الخطيئة. أهي قناعة اقتصادية إذن؟ عديد من الرأسماليين يزعمون أننا تحركنا جميعا المصلحة الشخصية. أم هي قناعة علمية؟ كثير من علماء البشرية يرى في البشر قوة مدمرة تسعى على وجه الأرض بالفساد. والحال أن هذا التساؤل يدفع المؤلف إلى الاستفسار: لماذا نتخيل البشر بهذا السوء؟ ما الذي يجعلنا نعتقد في خور طبيعة نوعنا البشري؟
ثمة "أسطورة" تأسيسية مستدامة تنص على أن البشر بطبيعتهم أنانيون وعدوانيون، وأنهم سرعان ما يصابون بالذعر في زمن الحاجة والجائحة. وهي الأسطورة التي يسميها عالم سلوك الحيوانات الهولندي فرانس فال: "نظرية الصفيحة". هي نظرية تتخذ دريئة وذريعة تقول بأن الحضارة مجرد "صفيحة" و"واجهة" و"واقية" رقيقة يسرع إليها الصدع ويعروها الكسر عند أدنى رجة أو هزة. والحال أن الأمر، عند المؤلف، على الضد: إذ لما تضرب الأزمة ضربتها يغدو البشر أكثر غيرية وإيثارا وتآزرا، ويمسي شعارهم: "الإنسان هو آخر بالشخص إلا أنه أنت بالنفس".
والحال أنه ما أخطأ أفناء الناس وحسب في سوء تقدير خيرية الإنسان، بل وُجد ذلك عند بعض الفلاسفة. يقول المؤرخ البريطاني الشهير تيموثي كارتون آش: "من الناس من يعتقد أننا إِنْ نحن نزعنا لوازم الحياة المنظمة والمدنية ـ من غذاء وإيواء وماء شريب وحد أدنى من الأمان ـ فإننا سرعان ما سوف نعود القهقرى إلى حال الطبيعة على النحو الذي وصفه هوبز: حرب الجميع ضد الجميع [...] إذ من شأن القلة النادرة أن تمسي مؤقتا ملائكة، بينما من أمر الكثرة الكاثرة أن تمسخ قردة". ها نحن أولاء نظرية الصفيحة الصفيقة من جديد. وما حدث في تصور كارثة نيو أوليانز، مثلا، إنما أحدث ثقبا صغيرا في "القشرة الصفيقة التي نضعها على بوتقة حمأة الطبيعة، بما في ذلك الطبيعة البشرية". ومن شأن الديكتاتوريين والمستبدين والحكام والجنرالات أن يخرجوا من مخيلتهم دوما القوة الغاشمة بغاية تفادي سيناريوهات لا توجد اللهم إلا في أذهانهم، قائسين بذلك على أنفسهم قائلين: من شأن المواطن البسيط العامي إلا تحكمه اللهم إلا مصلحته.
ينبشُ المؤلف في نسابة هذه النظرة إلى بني البشر بوسمهم كائنات أنانية بالطبع، ويجد أن ثمَّة تقليدا عريضا طويلا في الغرب مكونا من سلسلة طويلة من المفكرين -من توقيديدس إلى فرويد مرورا بأوغسطينوس ومكيافلي وهوبز ولوثر وكالفين وبيورك وبنتام ونيتشه وآباء أمريكا المؤسيين- كل واحد منهم أقام نظرية الصفيحة الحضارية، وذهب إلى أننا إنما نحيا في عالم بلا مروءة. وقد عُدَّ هؤلاء "واقعيون"، وكم تم الاستهزاء من الذين آمنوا بمروءة بني البشر. خذ على سبيل المثال كتاب هوبز (1588-1679) اللوفياتان (1659)، تجد ثمة الفيلسوف المتشائم الذي حملنا على الإيمان بضعف الطبيعة البشرية، والذي أكد على أن المجتمع المدني وحده كفيل بأن ينقذنا من غرائزنا الجوهرية. وخذ روسو الذي أعلن أننا في قلب قلوبنا أناس طيبون، وبدلا من أن تكون الحضارة منقذتنا، فإنها هي من يفسدنا. الحال أنه حتى لو لم يكن المرء قد سمع بهذين الفيلسوفين من ذي قبل، فإنهما لا زالا يحكمان كل خلافاتنا حول تصور المجتمع وأمر صلاحه.
ولئن نحن أردنا -وفي هذا مجمل دعوى الكتاب- أن نواجه التحديات الكبرى في أزمنتنا هذه -من التغير المناخي إلى تنامي انعدام الثقة ببعضنا البعض- فإن ما ينبغي أن ننطلق منه هو نظرتنا إلى الطبيعة البشرية. وذلك بأن ننتقل من نظرة متشائمة لا ترى في طبيعة الإنسان سوى الأنانية والعنف والشر، إلى نظرة متفائلة ترى في الطبيعة البشرية الخير والتآزر والتسالم. هذا مع تقدم العلم أن المؤلف يؤكد على أنه ما كان هذا الكتاب عظة عن خيرية البشر؛ إذ يقر بداهة بأننا ما كلنا بالملائكة، وإنما نحن مخلوقات شديدة التعقيد، ذات وجه طيب ووجه لا. والمسألة مسألة إلى أي وجه ننقلب.
وتتلخَّص حجة المؤلف فيما يلي: نحن بالطبيعة -ونحن أطفال، ونحن نحيا على جزيرة مهجورة، ونحن نواجه حربا نشبت، ونحن نواجه الأزمات والجائحات- جُبلنا على تفضيل الإبانة عن الوجه الطيب منا والالتفات إلى خيريتنا. وبغية الكتاب عرض الحجج العلمية التي تبدي، في شق أول، كيف أن هذه النظرة، وليس النظرة التشاؤمية التي لطالما تم تقديمها صحيفة ودريئة، هي النظرة الواقعية، وهي النظرة الأكثر إيجابية حول طبيعة البشر. وفي شق ثاني يظهر المؤلف قناعته بأن هذه النظرة سوف تغدو هي النظرة الواقعية إذا ما نحن آمنا بها وتبنيناها. ويشدد على أن العلم الذي لطالما أكد على فساد النوع البشري وأنانيته وخطورته لعقود، عاد إلى الإقرار بالضد، وأن علم الاقتصاد الذي لطالما صوّر "الإنسان الاقتصادي" على أنه ذاك الذي يسعى على وجه الدوام إلى الربح الشخصي، كما لو كان البشر مجرد "إنسان آلي" أناني حيسوبي، وبنى على هذا التصور عشرات النظريات؛ ها هو اليوم سائر إلى مراجعة مفترضاته.
هذا.. وقد عجَّ الكتاب بالمحكيات والمرويات، وضج بالبرهنات والحجج؛ تلك التي ساقها المؤلف للتدليل على صحة دعواه. وأغلبها مشتق من الماجريات والجائبات (الحروب، الأعاصير، الجائحات) التي تروي عن المصائب والنوائب وعن تضام البشر وتطامنهم وتضامنهم في هذه الأحوال والأهوال. ومجمل ما تنتهي إليه من عبرة يتمثل في ما يلي: من أمر النوائب ألا تبدي أسوأ ما في الإنسان، ومن شأنها أن تجلي عن أفضل ما فيه.
افتُتح الكتاب بالتذكير بمشهد قصف قوات هتلر للندن بدءا من يوم 7 شتنبر من عام 1940، وقد استبد الذعر بالسياسيين والعسكريين قلقا على مصير المدنيين والمدنية، وبإشارة إلى كتاب عالم الأنتربولوجيا وعالم النفس الاجتماعي الفرنسي جوستاف لوبون (1841-1931) -الذي نعرفه جيدا في العالم العربي بفضل نقل أهم كتبه إلى اللسان العربي- الموسوم "سيكولوجية الجماهير" (1895) -أو بالأولى "نفسانية الحشود"- والذي طالعه كل من هتلر وموسوليني وتشرشل وروزفلت. وفيه يعرض المؤلف كيف تكون ردة فعل الناس زمن الأزمة؛ بحيث يشير إلى أن من شأن بني البشر أن يرتدوا وقتها إلى أسفل دركات سلم الحضارة؛ إذ ينبثق الذعر وينفجر العنف آنها، بما يُفتَرض أن يعبر عن خبيئة طبيعة البشر وحقيقتهم التي يخفيها التمدن. ويتساءل المؤلف عن رد فعل سكان لندن: أترى كان تقهقريا بحسب ما توقعه نفساني الحشود؟ والجواب: لا؛ بحسب شهادات أهل ذلك الزمان نفسه، ولربما اندهاشهم؛ إذ نزلت السكينة بالساكنة. أكثر من هذا، لربما ما كان شأن الأزمات أن تخرج من الإنسان ما هو أسوأ ما فيه، وإنما الشأن فيها، بالضد، أن تبدي أفضل ما فيه. وقد ترقى الإنسان آنها في درجات سلم التحضر إذ أبدى أفناء الناس عن الشجاعة والدعابة واللطافة. أكثر من هذا، أثبت البحث أنه لم يحدث للبريطانيين أن تدنى حسهم الخلقي، وطالبوا بالمعاملة بالمثل وحتى بالأسوأ، على خلاف سياسييهم. وأبدى الألمان السكينة نفسها، بل حتى ضربا من الحبور الذي لا يشاهد نظيره إلا عند ربح الحرب. وبالجملة، ما تبدت أية هستيريا جماعية، قائمة على الأنانية والعدوانية، بل بالضد تآزر الناس فيما بينهم البين. والدرس الذي يستخلصه المؤلف هنا أن السياسيين وقعوا في الفخ، ومهروا على ادعاء لوبون أن حال حضارتنا ما كان أكثر من قشرة ظاهرة. وكلّا؛ ما كان هذا الأمر خصيصة بريطانية حصرية، وإنما هو شأن بشري مشترك وكوني؛ وإنما "الطيبة" لازمة من لوازم طبيعة البشر... إلا أن الخطاب السائد يخفيها الإخفاء .
واختتم المؤلف الكتاب بالقول: لَئِنْ كان ثمة من شيء مهم سعيت إلى القيام به في هذا المؤلَّف، فإنما هو تغيير معنى "الواقعية". ألم تكن تترادف في البداية مع "الكلبية" -أي مواجهة الناس بما يكرهون سماعه، والتمتع بملاحظة امتعاضهم من ذلك: أيها البشر حقيقتكم أنكم أشرار بالطبع؟ إنما الكلبي هو من يزعم أنه يعيش في عالم بلا مروءة، بلا لطافة، بلا مؤازرة. وها قد تبدى أننا نعيش في عالم مخالف لذاك الذي نزعم أننا نعيش فيه حقا؛ حيث يميل البشر بأشد ميل إلى أن يكونوا طيبين اتجاه بعضهم البعض. أن تكون واقعيا هو أن تكون أريحيا. أن تكون صادقا مع طبيعتك البشرية، وأن تمنح ثقتك إلى أغيارك. ففعل الخير يحدث على نطاق واسع كل يوم. فلا تخجل من أريحيتك. سوف يقولون عنك في البدء: يا له من ساذج وعبيط، لكن تذكّر أن ما يعد سذاجةً اليوم سوف يصير أمرا مشتركا في الغد: ألَا إنه آن الأوان لواقعية جديدة، وحان موعد نظرة جديدة إلى النوع البشري. وبعد وقبل، هل من مستمع إلى صرخة الفيلسوفة الروسية إيما كولدمان (1869-1940): "أيتها الطبيعة البشرية المسكينة، كم من الجرائم الفظيعة ارتكبت باسمك ![...] إذ بقدر ما يشتد دهاء امرئ شعوذي، يشدد على ضعف الطبيعة البشرية".
-------------------------
- الكتاب: "النوع الإنساني.. تاريخ طافح بالأمل".
- المؤلف: روتجر بريجمان.
- الناشر: بلومسبوري، 2020م.
