أورسيتا جيولو
عزالدين عناية *
تقوم المقارَبة المعتمَدة في تأليف هذا الكتاب على فلسفة القانون وعلى سوسيولوجيا القانون في الآن نفسه؛ حيث تحاول المؤلّفة الإيطالية أورسيتّا جيولو أن تنسج علاقة بين إنتاجات المثقّفين العرب والأبعاد القانونية. وذلك بقصد تتبّع التطوّرات الجارية في المجالات الحقوقية والفكرية والسياسية، وفي مسعى لرَصدِ مظاهر الالتزام ضمن السياق العربي في التمازج الحاصل بين الثقافة والسياسة والدين. وزّعت الكاتبة مؤلَّفَها، ضمن ذلك الاهتمام، على خمسة أقسام، أرادت من خلالها الإحاطة بسائر قضايا الفكر العربي المعاصر في صلته بمجاليْ القانون والتشريع.
وفي القسم الأول، نجد سعيًا لحصر أصناف المثقّفين، مع بيان إسهاماتهم في النقاش الدائر داخل العالم العربي في مجالات الدين والسياسة والاقتصاد والتنمية والتحول الديمقراطي وقضايا الحريات. وفي القسم الثاني، تحاول الكاتبة جَرْد المواضيع المطروحة للنقاش، مع بيان ارتباطها بقضايا قديمة وطروحات جديدة، أي بما يعكس جدل التراث والحداثة، جراء التأثر بالسياق الفكري العالمي وما له من أَثر على أوضاع العالم العربي.
وفي القسم الثالث تحاول الكاتبة تحديد الفضاءات التي يجري فيها النقاش: الرمزية منها والواقعية، كما تتعرّض للسياقات التي يَرِد ضمنها عرض القضايا. ثمّ في القسم الرابع تثير أورسيتّا جيولو مسألة اللغة/ اللغات التي يُعبّر بواسطتها العرب عن قضاياهم في التاريخ المعاصر. تتناول هذا الموضوع سواء بالحديث عن التنوع اللغوي في المجتمعات العربية، أو بالتعرض إلى دور اللغات الأجنبية ضمن السياق الفكري والسياسي العربي، مع الحديث عن تأثير مسألة اللغة على التكوين وعلى الإنتاج المعرفي وعلى المسلك السياسي. ثم في القسم الخامس والأخير، تُحوّل الكاتبة متابعتها صوب أوساط ثقافية تقع خارج العالم العربي، عبر تتبّع ملامح النقاش الثقافي السياسي الدائر في أوساط المثقفين العرب المهاجرين سواء في أمريكا أو أوروبا.
وتستهلّ أورسيتّا جيولو كتابها بالتطرق إلى مولد المثقّف العربي الحديث، المتأخّر مقارنة مع نظيره الغرب، مما خلق تعكرات اجتماعية، وذلك اعتمادا على حكم أطلقه المفكر واللاهوتي الألماني السويسري هانس كونغ في أحد مقالاته المنشورة. كما تسعى الكاتبة إلى رسم صورة لخاصيات المثقف العربي الحديث، حتى وإن وُجدت صورة متوارثة للمثقف الكلاسيكي متمثلة في الفقيه، أو الحكيم، أو العالم، أو الأديب.
واستنادا إلى هذه الفكرة التي تمحورَ حولها كتاب "المثقّفون والقانون"، عملت الكاتبة على تتبّع الكتابات العربية الفكرية مبرزة ما لها من تداعيات قانونية. معتبرة أنّ صعوبة الأوضاع المحيطة بالمثقف العربي لم تَحُل دون الاحتفاء بدوره والإيمان بإسهامه في صنع التغيير. فما من شكّ أنّ انغماس المثقّف في أعمال التغيير في البلدان العربية، سواء كان على مستوى سياسي أو ثقافي أو اجتماعي، بوصفه مترجما أصيلا للواقع، يستبطن آثارا قانونية على صلة بحقوق الناس ونظام سير مؤسسات المجتمع وحضور الدولة. كما تتّبعُ الكاتبة انخراط المثقفين العرب في الجدل القانوني الجاري في الساحة العالمية (تحديدا في الأوساط الغربية) بشأن جملة من القضايا على صلة بحقوق الإنسان، ومسألة الحريات الشخصية كما الشأن في ما يتعلّق بالردة، أو بمراجعة قوانين الإرث، أو أدوار المرأة وسط مجتمعات ذكورية، أو بما له صلة بحرية الفن في مجتمعات محافظة. حيث تحاول الكاتبة تتبّع تداعيات تلك القضايا في أوساط المثقفين العرب.
وأثناء معالجة هذه المسائل، يُهيمن على الكتاب سؤال: ما طبيعة علاقة المثقف بالسلطة؟ تسعى الكاتبة جاهدة، عبر مختلف الأقسام، إلى حصر الساحات الفعلية والفضاءات الرمزية لأنشطة المثقفين، ثم تحديد طبيعة تلك العلاقة بالاعتماد على صيغ متنوّعة منها الموالاة والرفض والانسحاب والمشاركة. كما تتناول الكاتبة ازدواجية عدد من الكتّاب، الحداثيين والتقليديين على حد سواء، موالين لأنظمة سلطوية، وهو ما جعل حضورهم ضعيفا في الساحة الثقافية لتراجع الثقة في طروحاتهم.
وتبدو محاور انشغال المثقّف العربي متعدّدة، وتتوزّع بين ما هو محلّي وما هو عالمي. ولطبيعة التحولات التي شهدتها البلاد العربية في العقد الأخير، أَوْلت الكاتبة الشأنَ الحقوقيَّ ومسألة الحريات أهمية بارزة، مستعيدة الجدل حول ما حدث في فترة "الربيع العربي". فبرغم النتائج الكارثية الحاصلة تشير الكاتبة إلى تبدّل الرؤية الثابتة في الغرب عن أوضاع البلاد العربية، كون العرب ليس قدرهم العيش في ظلّ نُظُم سلطوية وتراجع للحريات وانتفاء للحقوق، بل بإمكانهم السير باتجاه إرساء نظم ديمقراطية تترسّخ فيها حقوق الإنسان السياسية والمدنية. وضمن هذا السياق تحاول الكاتبة متابعة مواقف النّخب الثقافية العربية من مختلف القضايا التي حصلت بعيد العام 2011. فهناك مواقف متباينة من "الربيع العربي" تحاول الكاتبة التعرّض لها بالتوضيح والشرح والتحليل.
ليس موضوع دراسة المثقفين العرب، ووضعهم على محك التحليل والتتبّع والدور جديدا، فقد تعرّضت جملة من الكتابات إلى النّخب العربية، بل الجديد في هذا الكتاب وهو الزاوية القانونية التي أرادت الكاتبة تناول الموضوع من خلالها. فضمن الخطة العامّة لبحثها حرصت الكاتبة، ضمن سياق أوّلي، على عرض القضايا الكبرى التي تناولها المثقّفون العرب عبر ترحّلهم من التقليد إلى الحداثة، وتتبّع انغماس هؤلاء المثقّفين، المشارقة والمغاربة والمهاجرين، في مقولات مثل "صراع الحضارات" وتداعيات الإسلام السياسي، وظهور الحركات الدينية العَدميّة مثل "القاعدة" و"داعش" و"السلفيّين" والرد عليها. وضمن سياق آخر حرصت الكاتبة على متابَعة المنزع القانوني في خطاب المفكر العربي، من خلال الحديث عن مفهوم الدولة والأمة ودار الحرب، وتعريف مفهوم الإرهاب ومعالجة القضايا الأخلاقية الجديدة مثل التدخلات في عالم الأجنّة وما له صلة بأخلاقيات علم الأحياء (البيوإيتيك) عموما.
لا تغفل الكاتبة كذلك شتات المثقفين العرب في الغرب، والبحث عن الهواجس الرئيسة بينهم، والتساؤل: هل بقيت رهينة التصورات المهيمِنة في الداخل العربي أم ساهَمَت إسهاما فعليا وتجديديا في طرح قضايا أمّة وفي حضورها في العالم؟ كما تتعرّض الكاتبة من جانب آخر إلى المثقّف العربي المنشقّ والمعارض، المتواجد في الداخل أم في الخارج، وما يمثّله فعله من زاوية قانونية، مستعرضة العديد من الحالات المقيمة بالداخل واللاجئة إلى الغرب.
وممّا يُلاحَظ في محاولة الكاتبة للإحاطة بتوجهات النخب الفكرية وحصر مختلف أنشطتها، أنها تأتي في غالب الأحيان متسرّعة ومتداخلة ولا تفي بالغرض. ولعلّ من نقائص تناول أثر النُّخب الفكرية ضمن السياق الثقافي العربي، عدم التنبّه إلى أنّ أثر تلك النخب متفاوت من بلد إلى آخر ومن وسط إلى غيره. وبالتالي نلحظ تضخيم دور المثقف، المضلّل أحيانا.
وضمن التعرض لثنائية النخبة الفكرية من جانب والأبعاد القانونية من جانب آخر، التي اختارتها الكاتبة محورا لكتابها يحضر عنصر الدين قويّا في طروحات التغيير في البلاد العربية. في هذا السياق تحاول الكاتبة معالجة السُّبل المطروحة أمام المثقّفين في التعاطي مع الشأن الديني على أمل إحداث تغيير حقيقي، مبرزة الخيارات المطروحة في ذلك: آفاق تأويل النص الديني ومخاطر تجاوزه، حظوظ تقبّل الطروحات العلمانية في الأوساط المحافظة، محاولات خلق تعايش مع الحداثة بروح تنويرية، سُبل الخروج من التصادم بين التراث والمعاصرة، كيفيات الخروج من الثنائية الإسلاموية والعلمانية إلى طرح مدني مقبول بين الجميع.
نُشير إلى أنَّ الكاتبة أورسيتّا جيولو أستاذة جامعية تدرّس فلسفة القانون في قسم الدراسات القانونية في جامعة فيرّارا في إيطاليا. ويأتي اهتمامها بالثقافة العربية من باب التفرّع في أبحاثها، وليس من باب التخصّص. وكتابها "المثقفون والقانون في العالم العربي المعاصر" هو الكتاب الثاني في سياق اهتمامها بالمجتمعات الإسلامية، حيث سبق لها أن أصدرت عملا آخر بعنوان: "القضاة والقضاء والقانون ضمن التقليد العربي الإسلامي" (2005). لكن تبقى المقارَبة التي عالجت من خلالها المسألة القانونية العربية في الكتابين المذكورين مقارَبة عامة، وهي أقرب إلى المقارَبة الثقافية. كما سبق لها أن أصدرت عملا في مجال القانون العام بعنوان "القانون النيوليبرالي" (2020)، فضلا عن إصدار كتاب مشترك مع أليساندرا فاكي "الاختيار الحر والوضع الحر.. وجهة نظر نسائية" (2020). يمكن القول إن الكاتبة أورسيتّا جيولو، التي تخطّت العقد الرابع، هي بصدد تلمّس الطريق نحو تأسيس مشروعها المنشغل بالقضايا الفكرية والقانونية، وما الثقافة العربية سوى مكوّن من مكوَّنات ذلك المشروع.
وبشأن المرجعية التي استقت منها الكاتبة مادة مؤلفها تكاد تكون المراجع العربية فيها منعدمة. فهي حتى وإن دَرَست العربية أثناء تحصيلها الجامعي، فإنَّ مستوى توظيفها يبقى متواضعا ولا يؤهّلها للاطلاع بشكل يسير على المؤلفات العربية. مستعيضة عن ذلك النقص بالعودة إلى كتّاب عرب كثيرين يكتبون وينشرون بالإنجليزية والفرنسية، الأمر الذي جعل خريطتها للمثقفين العرب يطغى عليها الكتّاب العرب الفرنكفونيون والأنجلوفونيون. حيث يهيمن الكتّاب العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية أو المترجَمة أعمالهم إلى اللغات الأجنبية على مرجعية الكاتبة وعلى حضورهم في نصّها، وأما ما دون هؤلاء فغائبون. لذا؛ يتحوّل كثيرٌ ممّن يكتبون بالفرنسية أو الإنجليزية إلى ممثّلين أساسيين للحراك الثقافي الدائر في البلاد العربية، وهي مغالَطة تسرّبت إلى الكاتبة بفعل نقص إلمامها بما يُنتَج باللسان العربي.
ومن جانب آخر، لا تُبدي الكاتبة في مؤلّفها، أو في أعمالها الأخرى، ميولات صريحة نحو المركزية الغربية أو اعتدادا عند استحضار النموذج الغربي. فما يلوح من خلال مؤلفها المتابَعة الهادئة لقضايا بحثها دون استعلاء، إذ يبقى الموضوع دراسةً محايدة للقضايا العربية السياسية والاجتماعية وتداعياتها القانونية، وإن لم نلمس نظرة تأصيلية لدى الكاتبة في تناول القضايا المعالَجة. حيث طغى على البحث الطابع القانوني، مع توظيف أدوات السوسيولوجيا في فهم الوقائع وتناول الشخصيات وشرح الأحداث. فعلى سبيل المثال في حديث الكاتبة عن النسوية العربية، اعتمدت على بعض المؤلفات الصادرة في جامعات غربية بشأن قضايا النسوية العربية المطروحة من خلال الأدب أو مسائل الدين والسياسة، ودون أن تعود في ذلك إلى شخصيات نسوية عربية مطالبة بحقوق أو مندّدة بأوضاع. الأمر ذاته ينطبق على مسعى أورسيتّا جيولو عند استخلاص هوية للمثقف العربي الراهن، حيث تحاول الاعتماد على كتّاب غربيين (جيل كيبيل، وأوليفييه روا، ويان ريتشارد) ودون الذهاب مباشرة إلى تحليل المعطيات واستخلاص الأحكام.
ومن هذا الباب، لا أعتبر مؤلّفة الكتاب موفّقة في منهجها الرامي إلى الإلمام بالعنصر الثقافي والبعد القانوني. فالكتاب لم يركّز على قضايا قانونية كما هو منتظَر من عنوان بهذا الشكل: "المثقفون والقانون في العالم العربي المعاصر" لينشغل بالمقاربة الثقافية. فالكتاب هو أقرب إلى العرض التلخيصي لمسائل شغلت المفكرين والسياسيين العرب، وتناولها المتابعون الغربيون لأوضاع المجتمعات العربية المعاصرة. أمّا من جانب الأدوات المساعدة فقد ضمّ الكتاب فهرسا وحيدا للأعلام ومسردا للمراجع والمصادر لا غير. وإن كانت الحاجة واضحة إلى فهرس للمصطلحات يشرح ما يمكن أن يثير من إشكالات لدى القارئ الغربي، وكذلك الحاجة إلى كرونولوجيا تاريخية للأحداث، تساير التطورات الثقافية والقانونية التي أزمعت الكاتبة رصدها.
لم أَلمس معالجة معمَّقة للقضايا المطروحة لدى المثقفين العرب على اختلاف مشاربهم ضمن إطار قانوني، سواء باعتماد مقارَبة فلسفة القانون أو سوسيولوجيا القانون، وهما من مجالات تخصّص الكاتبة. وقد كان أحرى أن يُصاغ الكتاب على أساس إعادة قراءة مواقف القانونيين وفقهاء القانون العرب من عديد القضايا التي تهمّ الدولة والمجتمع.
لا أعتبر الكتاب وفَّى الموضوع المزمَع دراسته حقّه بحثًا وتحليلًا وإحاطةً. فقد كنتُ أنتظر مراجَعة للطروحات القانونية في الفكر السياسي العربي، تُبيّن الكاتبة من خلالها مدى الانسجام والتنافر الحاصليْن مع الأوضاع القانونية العالمية والمواثيق الدولية، فضلا عن إجراء مقارنات مع تشريعات قانونية أخرى، وليس مجرّد استعراض خاطف للقضايا السياسية والفكرية التي تشغل العالم العربي. فما تبيّنَ لي بشكل واضح أنّ الكاتبة لا تزال بصدد بلورة رؤية قانونية في استيعاب القضايا الفكرية التي تشغل الواقع العربي، وكأنّ هذه الرؤية لديها لم تنضج بعد؛ ومن جانب آخر أنّ مؤلفة الكتاب لا يمكن اعتبارها مرجعًا في مجال تخصّصها، أو أن إنتاجها يُعَدّ عملا متفرّدا يستحقّ التنويه. لقد أرادت الكاتبة أن تتحدّث عن كلّ شيء على صلة بالمثقّفين العرب في مئة وأربعين صفحة (حجم المتن دون احتساب الفهارس) وهو اختزال مجحف.
----------------------
- الكتاب: المثقّفون والقانون في العالم العربي المعاصر.
- تأليف: أورسيتّا جيولو.
- الناشر: منشورات كاروتشي (روما)، باللغة الإيطالية، 2020م.
- عدد الصفحات: 185 صفحة.
