العدوى الأمريكية: الأوبئة والقانون

غلاف.jpg

جون فابيان ويت

محمد السماك

يُشكل انتشار الأوبئة، وكان آخرها وباء "كوفيد 19"، حالة استثنائية في العلاقات بين الناس، وحتى بين أفراد الأسرة الواحدة، وكذلك في العلاقات بين الدول المتجاورة، وحتى بين القارات. لذلك فإنَّ الوباء يفرض سنّ تشريعات جديدة للتعامل مع الحالات الطارئة والاستثنائية التي يفرضها. ذلك أنه أثناء انتشار الأوبئة تتغيّر أوضاع كثيرة مما يتطلب تشريعات جديدة تواكب هذه المتغيرات، كما أنَّ السلامة العامة تصبح جزءاً من السلامة الفردية، والسلامة في دولة ما، تصبح جزءاً أيضاً من سلامة دول العالم الأخرى. يؤكد على ذلك التداخل بين الدولة الواحدة والتداخل بين الشعوب والأمم.

ويتناول هذا الكتاب هذه الظاهرة من خلال التركيز على التحولات والمتغيرات التشريعية التي أسفرت عن انتشار الأوبئة. ويأخذ مثلاً لذلك الولايات المتحدة؛ فالتشريعات سرعان ما اعتُمدت في دول عديدة أخرى، أو أُقرّت ولو بصيَغ مختلفة في مؤسسات دولية (منظمة الصحة العالمية - اليونيسيف.. وغيرها).

أمَّا المؤلف جون فابيان ويت فهو أستاذ التاريخ القانوني في جامعة يال في الولايات المتحدة. وقد تناول في كتابه "العدوى الأمريكية: الأوبئة والقانون، من الجدري حتى كوفيد 19" مسيرة التشريعات الأمريكية التي واكبت هذه الأوبئة، وهي التشريعات التي أصبحت جزءا من التراث القانوني العالمي.

يقول المؤلف إنَّ القاعدة العامة في الولايات المتحدة تقوم على مبدأ التأكيد على أن حرية الفرد تحتلّ سلّم الأولويات، وأنها تتقدم حتى على التضامن الجماعي.

ولكن في حالات الأوبئة، تنقلب هذه القاعدة رأساً على عقب، وتصبح حرية الفرد أساساً لسلامة الجماعة أو لتدميرها. هناك جماعات دينية في الولايات المتحدة ترفض اللقاح ضد الأمراض. فإذا احترم القانون حريتها في الاختيار، فإن هذا الاحترام يعرّض السلامة العامة للخطر عندما يكون المرض معديًا، كما كان الأمر بمرض الحصبة.. وكما هو بمرض كوفيد 19. هنا تتوقف حرية الفرد أمام سلامة الجماعة.

وفي العام 1918 انتشر وباء الإنفلونزا الإسبانية. ومن تلك التجربة المأساوية تعلّم العالم درسين أساسيين:

- الدرس الأول هو أنَّ السلامة الفردية هي المدخل إلى السلامة العامة، وأنه من أجل السلامة الفردية لا بد من فرض قيود على الحرية الشخصية.

- الدرس الثاني هو أنه على علماء الأمراض المعدية أن يكونوا مؤهلين ومستنفرين لإيجاد علاج للمرض وعلاج مقاوم له ومانع لانتشاره (التطعيم). ولكن عندما صدر هذا الكتاب كان عدد ضحايا كوفيد 19 في الولايات المتحدة وحدها الذين فقدوا حياتهم قد وصل إلى 235 ألف ضحية. وتواصل ارتفاع عدد الضحايا في الولايات المتحدة وفي سائر دول العالم؛ لأنَّ الوباء أخذ الإنسانية على حين غرَّة رغم أنه يتحدر من عائلة فيروسية قديمة وغير مجهولة.

هنا.. ينقل المؤلف عن هيئة الصحة في ولاية ماساتشوست نصًّا صدر في العام 1850 (أي قبل 170 عاماً) جاء فيه: نحن مخلوقات اجتماعية متلازمون مع بعض وتربطنا علاقات لا انفصال لها، ولذلك فإن السياسات الصحية العامة تحتم حماية مجموعة من الناس من أن يكونوا ضحايا مرض أو موت تنقله إليهم أو تسبّبه لهم جماعة أخرى تفتقر إلى حسّ المسؤولية !!

وبالفعل فإن انتشار الوباء كوفيد 19 الذي أودى بحياة مئات الآلاف من الناس في كل أنحاء العالم، أدى أيضاً، حسب الأرقام التي أعلنها البنك الدولي، إلى زيادة عدد الفقراء في العالم (الذين يقلّ دخل الفرد منهم عن دولارين في اليوم) بحوالي مائة مليون (في عام 2020 وحده). ويعني ذلك ليس فقط فشل مشروع تخفيض عدد الفقراء أو من هم تحت خط الفقر الذي سبق أن أقرّته الأمم المتحدة، ولكنه يعني إضافة عدد جديد إليهم يصل هذا العام وحده (2020) إلى 490 مليوناً.

لقد بيّنت الدراسات حول نتائج التعامل مع وباء كوفيد 19 أن السويد مثلاً، التي لم تتبع سياسة الإغلاق واعتمدت على وعي المواطن، تجاوزت نسبة ضحايا الوباء 58.1 من كل عشرة آلاف. وتراجع الدخل القومي السويدي بنسبة 8.3 بالمائة. وبالمقابل، فإن دولة مثل نيوزيلندا التي فرضت الإغلاق الاقتصادي والحجر العام على المواطنين، لم تتجاوز نسبة الضحايا لديها 0,5 من كل عشرة آلاف مواطن، مع تراجع النمو الاقتصادي بنسبة 12.2 بالمائة.

إنَّ المقارنة بين الرقمين تبيِّن أن تراجع الاقتصاد في نيوزيلندا يزيد 4 بالمائة على السويد، مقابل زيادة في عدد الضحايا في السويد 53 من كل عشرة آلاف.

وتطرح هذه الأرقام جدلية توقف المؤلف أمامها، وهي: هل تعطي التشريعات القانونية الأولوية للمحافظة على وتيرة النمو الاقتصادي، أم أن الأولوية يجب أن توجه للمحافظة على السلامة العامة؟ أيهما يجب أن تكون له الأفضلية في الرعاية والاهتمام: الاقتصاد الوطني أم الإنسان المواطن؟

مشكلة إذا تراجع الاقتصاد وارتفعت نسبة البطالة والفقر. ولكن المشكلة تكون أكثر فداحة إذا كان البديل عن ذلك هو تضخم عدد الضحايا. وهنا تأتي عملية التشريع التي تقوم على إحدى القاعدتين اللتين يمكن أن تعتمدهما الدولة.

يقدم المؤلف صوراً عن كيفية تعامل الولايات المتحدة مع السكان الملونين (السود والصينيين خصوصاً) لدى انتشار الأوبئة؛ فيقول إنه في عام 1900 انتشر وباء الطاعون في ولاية كاليفورنيا ؛ وبعد أن مات مواطن أبيض في مدينة سان فرنسيسكو فرضت السلطات الحظر الكامل على الأحياء الصينية في المدينة. ولم تسمح لغير الأمريكيين البيض بحرية التجوّل. ويقول المؤلف أيضاً إن السلطات مارست الإجراءات ذاتها ضد الأمريكيين الذين يتحدرون من دول أمريكية لاتينية، وخاصة من المكسيك. وحتى عندما انتشر وباء الملاريا بعد ذلك بعقدين من الزمن، اتُهم الأمريكيون السود بأنهم هم مصدر هذا الوباء الفتاك.

ووُجهت التهمة بعد الحرب العالمية الأولى إلى الأمريكيين السود في بالتيمور بأنهم مصدر مرض السلّ. ويقول إنه من أجل التخلص من المرض، كان لا بد من التخلص من مصدره. فكانت الإبادة الجماعية للسود في بالتيمور، وقد التهمت النيران منازلهم وأحياءهم التي منعوا من الخروج منها.

بدأ التحوّل، كما يروي المؤلف، في العام 1867. في ذلك الوقت كانت نيويورك السباقة، إذ فرضت سلطات المدينة إجراءات صحية وقائية، منها تحديد عدد المراحيض في كل منزل نسبة إلى عدد سكانه، وشملت الإصلاحات توزيع الحليب على البيوت من أجل تغذية الأطفال وصيانتهم من الأمراض.

ومن هذه الإجراءات أيضاً: إلزام سكان الأحياء بالمحافظة على نظافة شوارعهم وجمع النفايات منها، ومعاقبة المخالفين. في ذلك الوقت لم تكن هناك مجالس بلدية، ولم تكن هناك إجراءات منظمة لجمع النفايات والتخلص منها، أو استثمارها في إنتاج الأسمدة وحتى في إنتاج الطاقة كما هو الحال في الوقت الحاضر. كانت السلطات المحلية تفرض بالقوة الإجراءات التي تراها مناسبة للمحافظة على النظافة العامة بدلاً من الحجر الصحي.

وكان التركيز على المسؤولية الفردية وليس على العمل الجماعي. من أجل ذلك دعا المحافظون في المجتمع الأمريكي -أو في المجتمعات الأمريكية- إلى تعليم الفقراء عادات النظافة وأصولها. ووجدوا في ذلك أداة لتحقيق عدة أهداف أهمها:

- السلامة العامة.

- قطع الطريق أمام الأوبئة وانتشارها.

- حماية مُجتمعات النخبة من أخطار العدوى التي تنطلق من الأحياء الفقيرة.

وكانت المعادلة: إذا كان لا يمكن القضاء على الفقراء، فعلى الأقل يمكن عدم تحويلهم إلى أدوات لإنتاج الأمراض القاتلة.. للجميع !!

ومن هنا، كان الجمع بين فلسفة حماية الأغنياء وتوفير فرص العمل للفقراء، مما يُوفر السلامة الصحية للجميع. ويقول المؤلف جون ويت إنَّ هذه الفلسفة مستمرة حتى اليوم ولكن بصيغة أخرى.

وفي فصل خاص يُلقي المؤلف الضوء على قضية بالغة الحساسية واجهها عالمنا المعاصر لدى انتشار وباء كوفيد 19. وهي قضية العلاقة بين الحرية الدينية (حرية ممارسة الشعائر في المساجد والكنائس والمعابد) والسلامة العامة؛ فالحرية الدينية محترمة ومصانة وحتى مقدسة. وكذلك حتى الأفراد والمجتمع؛ فالحجر الصحي يفرض تباعداً بين الناس لمنع انتشار العدوى، وصلاة الجماعة (في المسيحية واليهودية لا تكون الصلاة إلا جماعة وفي الكنيسة، والكنيس وبرئاسة قسيس أو حاخام) في صفوف متراصة كتفاً إلى كتف، قياماً وركوعاً وسجوداً، قد تكون مصدراً لنقل العدوى.

ويقول المؤلف إن قواعد وأسس احترام الحريات الدينية تصطدم بشدة هنا مع الإجراءات الوقائية التي تفرضها الدولة -أي دولة- على أساس أن الأولوية لديها هي السلامة.

ويقول المؤلف إن هذا الأمر ينطبق أيضاً على نزلاء السجون، الذين يعتبرون العزل الفردي مع السجن الجماعي عقاباً آخر.

وفي الحسابات الأخيرة، فإن الأوبئة المعدية وضعت مجتمعات الماضي، وهي تضع مجتمعات الحاضر أيضاً أمام صراع دقيق ومعقد بين الحرية الفردية والإجراءات التنظيمية التي تتخذها الدولة.

---------------------

- الكتاب: "العدوى الأمريكية: الأوبئة والقانون".

- المؤلف: جون فابيان ويت.

- الناشر: جامعة يال، 2020م.

- عدد الصفحات: 174 صفحة.

أخبار ذات صلة