طالب الوهيبي
حصلت جملة من النقاشات حول العالم المعاصر؛ بحيث صار من الممكن تصنيف الفلاسفة بحسب موقفهم من حالة الأزمة في العالم المعاصر: أهي أزمة العالم الحديث، أم قلقا في الحضارة، أم أزمة الإنسان، أم أزمة الثقافة، أم أزمة شرعنة؟ ويبدو أنَّ ارتقاء حالة "الأزمة" إلى رتبة المفهوم الفلسفي أو إلى أداة تفكير "نقدي" في معنى "العالم" حدث نظري خاص بالقرن العشرين، بعد الحربيْن العالميتيْن خاصة، طال كُلَّ "آفاق الوعي المعاصر". هكذا فنَّد الكاتب فتحي المسكيني عصر الأزمة في مقاله المنشور بـ"مجلة التفاهم"، بعنوان "حالة الأزمة في العالم المعاصر... وإلى أين يتّجه العالم والإنسان؟".
إنَّ "النقد" و"الأزمة" مُصطلحان ينتميان إلى جذرين لغويين مختلفين؛ فإنّ النظرية النقدية المعاصرة مثلاً يمكن قراءتها -في كل أبعادها- على أنها "كوكبة مثلثة من الأزمات التاريخية" تشمل أزمة الرأسمالية وفشل الحركة العمالية وأزمة الماركسية. بيَّن الكاتب أنَّ حالة الأزمة تبدو في العالم المعاصر ليس فقط بمثابة نقطة انطلاق نحو شيء آخر، بل هي -بحسب تعبير كارل ياسبرز- "الوضعية الروحية للعصر"، والتي تسودها أزمة في تنظيم كياننا الحاضر، ويمكن القول: إنَّ كارل ياسبرز قد كان سبَّاقاً إلى التصدّي الفلسفي لمعنى الأزمة في العالم المعاصر، ومن المتفق عليه بين الباحثين الغربيين عامة فهْمُ مصطلح الأزمة في ضوء استئناف كثير أو قليل لمعانيها اليونانية القديمة، التي تدلّ غالباً على"القرار الحاسم".
ويُكمل الكاتب المسكيني أنَّ المؤرّخ الألماني راينهارت كوسلك قام في أطروحته على تعريف "الحداثة بوصفها عصر الأزمة"، وهو يشخّص هذه الأزمة بوصفها عبارة عن "نشأة مَرضية للعالم البورجوازي"، وقال كوسلك: "كان الحكم المطلق هو شرط نشأة التنوير؛ وكان التنوير هو شرط نشأة الثورة الفرنسية". وما يشير إليه كوسلك هو أنَّ دولة الحكم المطلق قد انتصرت على الحروب الأهلية باسم الأديان، وحصرت مسائل الضمير في الحياة الخاصة؛ لكنّ التنوير هو الذي قام في القرن الثامن عشر بتكسير هذه الحدود بين الفضاء العمومي (القوانين السياسية) والحياة الخاصة (الأخلاق والدين)، بواسطة خطاب النقد الذي قاد الشعوب إلى الثورة بوصفها تجسيداً للأزمة، وإنّ نقد التنوير هو الذي أنتج الفضاء العمومي البورجوازي للقرن الثامن عشر الذي قاد نظام دولة الحكم المطلق إلى نهايتها. إذن، الفكرة الناظمة لدى الكاتب هي أنَّ (الأزمة مفهوم حديث)؛ لكنّه لم يكن ممكناً من دون وجود (أزمة الحداثة) الأوروبية نفسها.
وفي مايو 1935، ألقى إدموند هوسرل محاضرة بعنوان: "الفلسفة في أزمة الإنسانية الأوروبية" لم تُنشر في حياته، وظهرت لأوّل مرة سنة 1954 تحت عنوان منقّح قليلاً هو "أزمة الإنسانية الأوروبية والفلسفة"، ومنذ أوّل فقرة من النص يستعمل هوسرل مفهوم (الأزمة) وهو لا يقصد إلّا أن يمنح اهتماماً جديداً، وذلك بأن يطوّر الفكرة التي أعطتها فلسفة التاريخ عن الإنسانية الأوروبية، ويعترف هوسرل بأنَّ الإنسانية تتحرك في فضاء تاريخي كوني؛ حيث يصفها بأنّها "حياة واحدة مؤلفة من الشعوب والبشر، لا يربط بينها غير العلاقات الروحية، حياة تتميّز بوفرة من الأنماط البشرية والثقافية التي تتجاوب فيما بينها"؛ ولأنَّ أوروبا تمتلك شيئاً إضافيًّا على بقية الشعوب -بحسب وصفه- "يوجد فيها شيء فريد من نوعه، يجعل المجموعات البشرية الأخرى حسّاسة تجاهنا، وذلك من جهة أنّه شيء ما، بقطع النظر عن أيّ مقصد نفعي، من شأنه أن يصبح دافعاً بالنسبة إليهم..."، ويوضح الكاتب هنا أنَّ هوسرل لا يتكلم عن أوروبا الجغرافية بل عن (أوروبا روحية)، ورأس الأمر لديه هو أنَّ الإنسانية الأوروبية ليست جسماً حيًّا بل هي كيان روحي يحرِّكه مبدأ نحو الاستكمال المستمرّ لذاته، من شأنه أن يمنح تحوّلات شكل الحياة الأوروبية. ولم تصبح أوروبا شكلا روحيًّا إلَّا عندما تَوَلِّدَ نوعا جديدا من الأشكال الروحية وهو "الفلسفة"، والإغريق هم من أطلقوا هذا الاسم. الفلسفة هنا غير موقف روحي يقوم على الرغبة في معرفة العالم المحيط بنا بمقتضى طبيعة عقولنا فحسب، وليس بمقتضى أي سردية أخرى، ولا توجد حقيقة كلية غير حقيقة العالم.
وفي نظر الكاتب، تَعني الأزمة عندئذ التخلّي عن أفق السؤال الذي كان الفلاسفة القدماء قد أسَّسوا عليه السلوك النظري في العلوم، وهم كانوا على بيِّنة من خطر الاستعمال النظري للعقل بمجرَّده دون أي تأصيل معياري أو سياسي، وما تمَّ التخلي عنه مع الأزمنة الحديثة هو أفق السؤال عن الإنسان.
ويُشير فتحي إلى أنَّ الحداثة بالنسبة إلى هوسرل ضربا من "الفشل الروحي"، وهو فشل العلم الجديد الذي نجح في البداية، ونكتة الإشكال في هذا الفشل هي عدم القدرة على إيضاح طبيعة العلاقة بين العلم الجديد والذاتية الإنسانية التي تأسس عليها؛ فما وقع في أفق أوروبا هو أنَّ العلوم الحديثة قد تنكَّرت للإنسان الذي أنتجها. ويقع مشكل العالم إذن خارج نطاق علوم الطبيعة؛ لأنَّه يظل بالنسبة إليها لغزاً، وعلامة على محنة تعيشها إنسانية فلسفية وهي تلك التي قرَّرت أن تحول تاريخها إلى صراع من أجل معنى الإنسان. ولكن لا نُعجّل في الحكم على طبيعة هذا الصراع؛ لأنَّه ليس حرباً ضد الشعوب الأخرى، بل هو كفاح روحي ضد الطابع العرضي لوجود الإنسانيات على الأرض، ولن تكون فلسفتها تلك التي لا تعدو أن تكون بضاعة العقل الكسول، ومن يقرأ كلام هوسرل في أصالته الألمانية سوف يلمح الإيحاء في لفظ "السيادة"، وقد أجاب الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغمبن في مقابلة له سنة 2013 عن "الأزمة الحاضرة لحياتنا اليومية" قائلاً: "اليوم أصبحت الأزمة أداة هيمنة، فهي تُستخدَم من أجل شرعنة القرارات السياسية والاقتصادية التي تقوم في واقع الأمر بتجريد المواطنين وحرمانهم من كل إمكانية للقرار"، وبالتالي قد فقد مفهوم "السيادة" -الذي قامت عليه الدولة الحديثة- كثيراً من صلاحيته، ودخلت المجتمعات في ضرْبٍ جديد من أفق المخاطر؛ حيث لم تعد الأشياء تُعرف بثباتها؛ بل بطابع الاضمحلال والتغيّر الصادم، وإنَّ التشخيص الأخير الذي لخَّصه زيجمونت باومان هو الحديث عن أزمة "سائلة" هي عبارة عن وصْفٍ سوسيولوجي للوضع "ما بعد الحديث".
والختام بما يذهب إليه الكاتب، يقول جورجيو أغمبن: "يجب علينا أن نبدأ باستعادة المعنى الأصلي للفظة (أزمة) بوصفها لحظة الحكم والاختيار، ولا نستطيع أن نؤجّل ذلك إلى مستقبل غير محدّد"، ويذهب الكاتب إلى أنّ البحث عن حل للأزمة لم يعد يمكن أن يتمّ بشكل اجتماعي؛ أي خارج التنظيم الاجتماعي؛ حيث يكون محتواه كونيّاً، ويفرض نفسه على المؤسسات، وأيضاً مما يبدو أنّه لم يعد يمكن الفصل بين أزمة العالم الحديث (العولمة أو الرأسمالية ما بعد الصناعية) وبين أزمة الهويّة الحديثة، وإنّ أزمة العالم المعاصر هي تصدّع في نموذج المجتمع الحديث، ومن ثم في نموذج الهويّة الحديثة، ومن ثمّ استشراف طريقة الخروج من (عصر الأزمة).
