طالب الوهيبي
يقول الكاتب صلاح سالم: "إنَّ الأخلاق ليست قصراً على أرباب دين بذاته، بل معلم على كل إنسان قادر على التسامي إلى مستوى طبيعته الجوهرية، مستخدماً في ذلك إيمانه الروحي ولو بدين وضعي، وقدرته على الشعور بالحب اتجاه الآخرين، ولو لم يكونوا من بني وطنه أو دينه". وهي مقولة سطرها في مقالته "بين الشرق والغرب، نحو نموذج فلسفي عالمي.. تعدّدي وإنساني"، والمنشور بمجلة "التفاهم".
إذ إنَّ ثمة ضرورة لصياغة مبدأ أخلاقي إنساني ليكون نموذجاً فلسفيا عالميا، قادرا على مجابهة الظواهر السلبية المتزايدة؛ كالتطرف والعنف، ونمو الفجوة بين الثراء والفقر، ومحاصراً لها لتخفيض حدة ضغوطها وشدة وطأتها على المصير البشري. ويشير الكاتب إلى أن هذا المبدأ يدور في فلك مفهوم "الخير العام الكوني"، حيث إنَّ هذا المفهوم كمبدأ أخلاقي لا يحرم أي شخص من التطلع إلى تحقيق ذاته وزيادة رفاهيته، على أن يضع المصلحة في سياق الصالح العام؛ فلا تصبح أولوية مطلقة لديه ولو سار إليها على جثث الآخرين، حتى يكون ممكناً الحديث عن مجتمع واحد.
ويرى الكاتب أنَّ هذا المبدأ الأخلاقي "الخير العام الكوني" يتجذر في شعور عميق بالمسؤولية عن المصير المشترك للبشرية، والذي ينبع بدوره من القوة الروحية المتنامية للنزعة الإنسانية، والتي ألهمت ذوي العقول الراجحة في جميع الأمم. وقد لا يكون سهلاً بلوغ المثال الأعلى لمجتمع عالمي يقوم على أساس مبدأ الخير العام، وعلى الجماعات البشرية كلها أن تسعى صوب هذا الهدف؛ كي تصيب ولو قدراً منه، لكي تتمكن من وقف الحركة في الاتجاه العكسي له؛ لأنه إذا تركت النزعة الفردية الضيقة تصل إلى ذروتها المطلقة سيكون الجميع أمام أنانية جديدة، قادرة على النيل من الآخرين بل تدميرهم.
ويوضح الكاتب صلاح سالم أن العالم أحوج ما يكون إلى إعادة بناء مُثُل التنوير العليا، والتي بلغت نقطة ذروتها في النزعة النقدية وأخلاقيات العقل العملي لدى الفيلسوف كانط، وخصوصاً في مفهومه عن "الواجب الأخلاقي" الذي يتوجب تحويله إلى نص شبه مقدس عن (الواجب الإنساني المشترك). باختصار نحتاج إلى ضمير إنساني جديد، وينبع الإيمان بهذا الضمير من إيمان أصلي بوجود أخلاقية إنسانية ضرورية عابرة للأديان والثقافات، كما تقول فلسفة التنوير خصوصاً لدى روسو في تصوره الإيجابي عن الإنسان وقابليته إلى الكمال الروحي والأخلاقي، بحيث يصبح أكثر الأبواب اتساعاً على عالم الفضيلة أن يكون المرء إنسانا حقاً، فإن لم يستطع صار وغداً مهما كانت أديانه أو معتقداته. ويفسر شوبنهاور التوافق الفطري بين البشر حول مفهوم الفضيلة أو الخير العام بحقيقة "أن العالم -كتمثل- إنما يتألف من نصفين جوهريين ضروريين ومتلازمين، النصف الأول هو الموضوع، وهو ما يخضع لصورتي المكان والزمان اللذين تنشأ من خلالهما الكثرة، أما النصف الآخر -وهو الذات- فلا يقع في إطار المكان والزمان؛ لكونه يمثل كلاً مجملاً لا يتجزأ في كل موجود".
وفي الفلسفة الأخلاقية الأبرز "الكونفوشيوسية" في الشرق الأقصى من العالم، يقول كونفوشيوس: "إن الطبيعة الإنسانية مستقيمة، فإذا افتقد الإنسان هذه الاستقامة أثناء حياته افتقد معها السعادة، وإن سبيلنا إلى الأفعال الخيرة هو تمسكنا بالقانون الأخلاقي الذي يحقق صلاح الفرد والمجتمع"، وفي سياق الفكر الصيني نفسه يكمل (لاوتسو) عمل كونفوشيوس، مؤكداً أن المرء ما لم يحيَ وفقاً لقوانين الكون الداخلية التي يسميها (الثوابت)؛ فإنه ينتهي بكارثة. وبرهن فيلسوف التنوير الأكبر إيمانويل كانط بثلاثة براهين حول تحويل مفهوم الواجب الأخلاقي إلى نظرية كاملة حيث تصبح الأخلاق لديه عقلية وقبلية:
- أولها: إن كل المعاني (التصورات) الأخلاقية مصدرها أو مقرها في العقل.
- ثانيها: إن القبلية المطلقة للتصورات أو المعاني الأخلاقية هي وحدها القادرة على تأمين مكانة هذه التصورات وضمان وظيفتها بوصفها مبادئ عالية.
- ثالثها: إن الأخلاق ينبغي أن تقبل التطبيق على كل موجود عاقل بوجه عام.
وهناك من قد أخذوا على كانط نزعته الصورية/الشكلية التي أغرقت في التشدد وازدراء الحساسية والوجدان، فمن غير الممكن إنكار أهمية تلك النقلة التي أحدثها في مسيرة الوعي الأخلاقي.
ويقول الكاتب إنَّ لدى الإمام محمد عبده، الأصل الرابع من الأصول الخمسة للإسلام هو الاعتبار بسنن الله في الخلق، ويعني لديه: "ألا يعول بعد الأنبياء في الدعوة إلى الحق على غير الدليل، وألا ينظر إلى العجائب والغرائب وخوارق العادات، بل إلى سنة الله فيمن مضى ومن حضر من البشر وفي آثار سيرهم فيهم، وقد جاء في الكتاب العزيز مقرراً لهذا الأصل".
هنا.. ينظر الكاتب إلى أن النزاعات المتجذرة على الخير العام والدين كلها تصب في طور من العلمنة الفائقة (الوجودية)، والذي لا يكتفي بإزاحة الدين من المجال العام؛ بل يسعى -من دون إعلان ذلك، وأحيانا من دون وعي به- إلى نفيه من الوجدان الفردي والوجود الاجتماعي، ويدفعه عن الحق. يتناقض هذا الحق ليس فقط مع الرؤية الروحية للوجود، بل مع مبدأ الخير العام الكوني، بسعيه إلى كسر الفطرة الإنسانية، فرغم أن الاعتداء الجنسي العابر للنوع يبقى فعلاً محرماً في كل الأديان، يسمى مرتكبه (زانياً)، فتمثل كسراً للطبيعة الإنسانية يفضي إلى إفساد حركة الكون، لدافعين أساسيين:
* الأول: كونه هدما لحال العمران وتعطيلاً لمسيرة النمو البشري التي ترعاها العلاقة الجنسية الطبيعية.
* الثاني: كونه هدما للأسرة التقليدية، كنواة أثبت التاريخ أنها الأقدر على رعاية الأطفال، والأكثر فاعلية، بدءاً من القبيلة ووصولاً إلى الدولة الوطنية الحديثة.
ويقول الكاتب قد يرى بعضهم ثمة تناقض بين مبدأ الخير الكوني العام وما يمليه من التزامات؛ بوصفه قيداً على الإرادة الإنسانية، وبين النظريات الليبرالية التي ترى أن الخير العام هو مجرد حاصل لخيارات الذوات الفردية الحرة. ولو عُمل بالقاعدة الأساسية للسلوك الأخلاقي لدى كانط -وهي أن يتصرف الإنسان تجاه العالم بالشكل الذي يأمل أن يتصرف به العالم اتجاهه، وأن يسلك وكأن الآخرين جميعاً سوف يشاركونه غداً في السلوك الذي يقوم به اليوم، ثم ينظر ليرى هل حققت هذه المشاركة خير العالم أم لا؟- لإدراك الجميع خطورة إعمال مبدأ الحق المطلق في الاختلاف". هذا الحق المطلق في الاختلاف هو نفسه الذي رفعت سَيْفَه فلسفة ما بعد الحداثة، عندما رعتْ تيارات تفكيكية على مستويات عدة، وأبدت حذراً شديداً إزاء الأنساق الفكرية الشاملة. وهنا يعطينا ليوتار مثالين متناقضين في الاتجاه ومتفقين في الدلالة على تلك النزعة التفكيكية:
1- المثال الأول عن الدين، الذي تمحور حول قصة (الإله) العليم بأحوال البشر.
2- المثال الثاني عن الإلحاد نفسه، والذي يعده ليوتار سردية كبيرة معارضة.
وعلى هذا لا تصرح ما بعد الحداثة برفض الألوهية، أو بمعاندة الإلحاد، بل تسعى إلى التشكيك في الأسس الجوهرية التي تجعل من كليهما -الإلحاد والإيمان- سردية كبرى وإطاراً ناظماً. لذا؛ يرفض نزعتها التفكيكية التي لا تقدم حلاً حقيقياً للمآزق الإنسانية المختلفة.
ويتبدى مفهوم هابرماس عن "المجتمع ما بعد العلماني" طريقاً آخر لديه أن يتجاوز التطرف الديني والعلماني معاً، يرفض هيمنة الديني أو اللاديني، ويدعو إلى تفاعل الجميع على أرضه. ويقترح الكاتب تغييراً في قاعدة النموذج الفلسفي للحداثة؛ كي تتمكن من استيعاب جماع الثقافات، وإن النموذج الفلسفي للحداثة قد نهض على قاعدة مكونات ثلاثة أساسية هي: العقل والإرادة والطبيعة.
وخلص الكاتب إلى أن النزعة الإنسانية ولدت في الفكر الغربي ونمت على حساب الإله، ولم تر إمكانية لصوغ إنسان حر.
