للمفكر الشيخ أبي مسلم البهلاني
فاطمة بنت ناصر
كتبت الأكاديمية والمستعربة الروسية فيكتوريا زاريتوفسكايا Victoria Zarytovskaya ورقة بحثية مهمة حول المنطلق الإباضي لتراث أبي مسلم البهلاني، نشرتها مجلة لوغوس (LOGOS) الليتوانية في عددها الأخير 105. وقد وجدت الباحثة أنَّ نسبة الثلثين 2/3 من قصائد البهلاني هي ذات طابع ديني إصلاحي ومسلك الاعتراف بخطاياه وطلب المغفرة قد سخر له في بعض قصائده 90 بيتاً، وبحسب الباحثة فهذا يعكس رغبته الصميمة والصادقة في الإصلاح على المستوى الشخصي والمجتمعي.
وسنقوم في القادم بتلخيص هذه الورقة البحثية، لما فيها من أهمية ليس فقط لأنها معنية بشخصية عُمانية فذة، ولكن بوصفها مثالاً على كيفية تناول الباحثين من غير العرب للشخصيات العربية والإسلامية. وتتضاعف أهمية هذه الورقة كذلك كونها تتناول شخصية إسلامية من المذهب الإباضي الذي قلما يتم تناوله وبحثه. ولعل اختيار اليونسكو لأبي مسلم كشخصية مؤثرة عالمياً في عام 2019 سيُسهم في رؤية المزيد من الأوراق البحثية حوله وحول غيره من الشخصيات الفكرية العمانية المظلومة على الصعيد العالمي.
عمان النائية تحضر للساحات الدولية
تقول الباحثة إنَّ عُمان من الدول المنعزلة في محيطها الشرق الأوسطي، وهذا ليس بوليد اليوم ولكنه يعود لحقب بعيدة للفترة الأموية وما بعدها مع استثناءات بسيطة بين حين وآخر. ويلعب المذهب الإباضي دوراً بارزاً في تشكيل حضور عُمان السياسي وكذلك في رسم سمات الشخصية العمانية، الغالب عليها طابع المسالمة والنأي عن المشاكل. وقد حافظت عُمان على حذرها من التواصل مع العالم الخارجي حتى عهد قريب وهو عهد السيد سعيد بن تيمور – والد السلطان قابوس – رحمهما الله-. ورغم الانفتاح الذي أتى بعهد السلطان قابوس إلا أنَّ حضورها ظل خجولا وهادئاً يتسم بالعمل الصامت وعدم التدخل في شؤون الغير.
اليونسكو تكشف عن جواهر العقول العمانية
قامت اليونسكو خلال السنوات الماضية بالاحتفاء بشخصيات عُمانية فذة، عبر إدراجها ضمن قائمة الشخصيات المؤثرة عالمياً وهذا سوف يسهم في زيادة البحوث العلمية العالمية التي تسلط الضوء على إسهامات عُمان الحضارية. ومن هذه الشخصيات:
- في 2006 – صاحب معجم العين ومؤسس علم العروض العماني الخليل بن أحمد الفراهيدي.
- في 2013 الطبيب العماني راشد بن عميرة الذي عاش بين القرنين 15-16 .
- في 2015 الشيخ العالم نور الدين السالمي وهو مؤرخ وعالم موسوعي.
- كما أدرجت شخصية الطبيب والفيزيائي العماني أبو عبدالله الأزدي (ابن الذهبي)
- 2019 الشاعر أبو مسلم البهلاني
أسباب الاهتمام الخاص بتراث أبي مسلم البهلاني
بحسب الباحثة، فإن هناك عدة أسباب تدعو للاهتمام بتجربة أبي مسلم وهي :
أولاً: ساهم بشكل كبير في تطور الفكر الإباضي وأيديولوجيته.
ثانياً: عكست أشعاره التناغم بين الفكر الإباضي والحركة السياسة والاجتماعية
ثالثاً: نتاجه الفكري كشف عن مراحل تطور تاريخية للمجتمعين العماني والزنجباري – بوصفه تابعا لعمان لفترة طويلة- وكيف أثر تطور المجتمعين في تشكيل صورة الفرد العماني الحالي.
رابعاً: أعمال البهلاني ساهمت في تطوير ونهوض الحركة الأدبية العمانية، كما أن أسلوبه المميز الذي جمع بين الأدب والدين والسياسية والتعليم عكس الدور الذي لعبه الدين في الأرض العمانية وفي المنطقة بشكل عام وعلى المجتمع بشكل خاص.
أسئلة شائكة
كتبت الباحثة سؤالين مهمين في ورقة بحثها، ولعل ما أثار هذه الأسئلة في نفسها هو تأخر الحضور الإباضي في المؤسسة الرسمية إلى القرن العشرين بعد أن خمدت حرب الجبل:
- لماذا هذه المعارضة الإباضية القوية للسلطة خاصة ذات الطابع الغربي العلماني؟
- لماذا هذه المعارضة لم تنتهِ إلا بتسلح حربي كبير قام به السلطان الراحل قابوس بن سعيد؟
لا تجيب الباحثة بشكل مباشر عن هذه الأسئلة. ولكن ما تناولته من عمق تأثير إرث البهلاني الفكري على الحركة السياسية والاجتماعية الإباضية و علاقته الوطيدة بالإصلاحيين في البلاد العربية وخاصة الإباضيين منهم، يجيب عن الكثير من التساؤلات.
الإباضية المعتقد والمحرك
للعقيدة الإباضية ارتباط وثيق بالسياسة، فقد نشأت في ظل صراع يتعلق بالحكم والسياسة وخروجهم على جماعة كبيرة من جمهور المسلمين. وهذا من وجهة نظري دليل على قوة وصلابة هذه العقيدة التي لا تقبل في معتقدها لومة لائم وإن كان معارضها أقرب منهم لبيت النبي قربة ونسباً. عن هذا تقول الباحثة إن الإباضية صنفت من قبل الكثير من الباحثين كأكثر الفرق الإٍسلامية ديموقراطيةً وثورية وشعبية. وتستعرض الباحثة عددا من مبادئ الفكر الإباضي التي تميزه عن غيره من المذاهب منها:
- مسألة اعتقادهم بتخليد المُصرِّ على الكبيرة في النار.
- تعيين إمام المسلمين لا يخضع لقبيله ولا لتوريث، فالرسول لم يعين خليفته وترك الأمر لشورى الجماعة.
البهلاني شاعر وقاض في بلاط السياسة
ولد البهلاني في 1860، وكان والده قاضيا في نزوى بيضة الإٍسلام ومنارة العلم في وقتها، ولعدم وجود تعليم ومدارس نظامية فقد تتلمذ على يد الشيوخ، وقد حظي بتعليم ومصاحبة أبرز رجالات العلم والدين في ذلك الوقت ومنهم:
- صالح بن علي الحارثي
- راشد بن سيف بن سعيد اللمكي
- ماجد بن خميس العبري
في سن العشرين غادر البهلاني إلى زنجبار برفقه والده الذي عين قاضياً هناك. وأصبح لاحقاً قاضياً كأبيه وعينه السلطان حمد بن ثويني بن سعيد مستشارا له. وقد عمل البهلاني مُرافقاً لسلاطين زنجبار منذ ( 1893 وحتى 1911). وقد قال فيهم الشعر وكتب عنهم وأبرز ما كتبه هو كتاب رحلته لشرق أفريقيا برفقه السلطان حمود بن محمد بن سعيد.
البهلاني متفرغاً للإصلاح
بعد خروجه من بلاط السلطة في زنجبار تفرغ البهلاني لمسيرة الإصلاح حيث كانت زنجبار مهداً للتطور ورغد العيش بينما البلد الأم عمان كانت تعيش في ضنك وضيق من الحال. وقد حاول البهلاني عبر الصحافة في زنجبار إيصال صوت إباضية الخارج إلى إباضية الداخل العماني. وفي عام 1911 أًصدر البهلاني صحيفة النجاح من زنجبار بالشراكة مع رفيقيه الشيخ أحمد بن حمود الحارثي والشيخ أحمد بن سيف الخروصي، وشعارها قوله تعالى: " إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ". كانت الصحيفة قليلة التعرض للسياسة حتى مسك زمامها الشيخ ناصر بن سليمان اللمكي. الذي انتقد من خلالها بشدة نشاط الإنجليز في الخليج العربي وسمى فيها شخصية بلفور ببلفور الدموي. وقد أغلقت الصحيفة في 1914 ونفي اللمكي إلى الهند. وقد استمر البهلاني في تواصله مع المصلحين في شتى الدول العربية خاصة المصلحين الإباضيين ومنهم: الجزائري محمد بن يوسف أطفيش و الليبي سليمان باشا الباروني والليبي المصري المولد قاسم سعيد الشماخي والمصطفى رياض باشا رئيس وزراء مصر 3 مرات.
وتختم الباحثة بأن انغلاق الداخل العماني حتى عهد السلطان سعيد بن تيمور غيب عن العالم شخصيات فكرية عظيمة عاشت وازدهرت تجربتها خارج عمان.
