عملية الإصلاح الاقتصادي في الصين

Picture1.jpg

تأليف: وو جينج ليان

عرض: حسام المغربي |  باحث ومترجم عربي مقيم في الصين

من دولة عانت في الماضي من الحروب والتباينات والصراعات الأيديولوجية، واقترن اسمها بالفقر والمجاعات، إلى بلد يضمُّ أكبر عدد من أصحاب المليارات في العالم، وصار كل ما فيه من إنجازات على مختلف الأصعدة يوصف بـ"المعجزة".. تلك هي الصين الحديثة التي أصبحت لا تتمتع باقتصاد هو الثاني في قوته عالميا بعد الولايات المتحدة منذ العام 2010 فحسب، بل غدت تمسك بكثير من خيوط الاقتصاد العالمي. كل ذلك كان بفضل مسيرة "الإصلاح والانفتاح" التي بدأتها الصين قبل أربعين عاما على يدي دينغ شياو بينج، السياسي والمنظّر الذي قاد جمهورية الصين الشعبية التي تحتفل بذكرى تأسيسها السبعين هذه السنة، وأسهمت في أن تتبوأ البلاد مكانتها الحالية.

 

وفي كتاب "عملية الإصلاح الاقتصادي في الصين" الصادر عن "دار النشر لموسوعة الصين" عام 2018، للمؤلف وو جينج ليان، أبرز علماء الاقتصاد الصينيين، يمكن للقارئ أن يستطلع إنجازات السنوات الأربعين الماضية من عمر مسيرة الإصلاح والانفتاح وعملية المد والجزر التي صاحبتها بشكل منهجي، وكذلك التباينات بين الاقتصاد الموجّه والاقتصاد المخطّط، وموجات التطوّر أو الانكماش لاحقا على الاقتصاد الصيني.

فالصين بعد أربعة عقود على إطلاق مسيرة "الإصلاح والانفتاح" حققت تحولا ملحوظا واكبه تضاعف الاقتصادي الوطني 33.5 مرة بين عامي 1978 و2017، لتزيد قيمته من 367.9 مليار يوان إلى 82.7 تريليون يوان مشكلا نسبة قدرها 15% من الاقتصاد العالمي. وبحسب بيانات منظمة التجارة العالمية، تعتبر الصين أكبر مصدِّر للسلع في العالم، بقيمة 16.4 تريليون يوان في 2018، فيما كانت صادراتها في عام 1978 لا تتجاوز 16.8 مليون يوان. كما تعتبر الصين ثاني أكبر مستورد للسلع على مستوى العالم، بقيمة 14.1 تريليون يوان في 2018.

ويعد المؤلف وو جينج ليان باحثا بارزا في مركز بحوث التنمية التابع لمجلس الدولة (مجلس الوزراء)، وهو كذلك عضو اللجنة الدائمة للمجلس الاستشاري السياسي للشعب الصيني ونائب رئيس اللجنة الاقتصادية التابعة لها، ونائب رئيس اللجنة الاستشارية لخبراء تكنولوجيا المعلومات في مجلس الدولة، ونائب رئيس اللجنة الأكاديمية لمركز بحوث التنمية لمجلس الدولة. ويتولى رئاسة تحرير مجلة «الإصلاح» ومجلة «المقارنة» ومجلة «تعليقات هونغ فان» والتي تعنى بالدراسات القانونية والاقتصادية.

وقد حصد الكاتب والاقتصادي الشهير العديد من الجوائز المرموقة منها جائزة «سون يه فانغ» الوطنية في الاقتصاد والعلوم لخمس مرات متتالية من العام 1984 وحتى العام 1992، وجائزة «الإنجازات البارزة» لجمعية الإدارة الدولية في العام 2003، وجائزة «الإسهام البارز» الوطنية لعلوم الاقتصاد لعام 2005. وقد سبق له كتابة العديد من العناوين التي تتناول الأوضاع الاقتصادية بشكل خاص منها «نظام السوق التنافسي» و«الإصلاح الاقتصادي المعاصر في الصين» و«اختيار نموذج النمو في الصين» و«توجّه جديد للاقتصاد الصيني» وحققت جميعها مبيعات قياسية في داخل الصين وخارجها.

 

انفتاح السوق هو الحل

يُرجع المؤلف، بوصفه مشاركا وشاهدا وباحثا في مسيرة الإصلاح الاقتصادي الصيني، الفضل في نمو اقتصاد بلاده إلى "انفتاح السوق وتوسّعه"، معلّلا ذلك بأن هذه الخطوة الجريئة منحت الشركات والمواطنين على السواء فرصة الاختيار. وأشار في كتابه «عملية الإصلاح الاقتصادي في الصين» إلى أنه على الرغم من أنه لا تزال هناك قيود متمثّلة في أنماط تنظيم الإنتاج وسلوك تسعير السلع وتوفير اليد العاملة وأسلوب استهلاك السلع والخدمات، إلا أن المواطنين أصبحت لديهم حرّية الاختيار التي لم يكن ممكنا تخيلها قبل تنفيذ "الإصلاح والانفتاح".

ويرى الكاتب أن هذا التوسّع في الاختيار القائم على السوق أوجد ظروفا مواتية للمزج الفعّال بين اليد العاملة ورأس المال والتكنولوجيا في وقت وفضاء محدّدين؛ وبالتالي أطلق إمكانات النمو الاقتصادي في الصين.

ومن هذا المنطلق، عزا الكاتب عملية تعميق الإصلاح الاقتصادي التي شهدتها الصين إلى مواصلة توسّع السوق من حيث النطاق الجغرافي ومدى التوسع. وذكر أنه بحسب السياق التاريخي للاقتصاد المخطّط، فإن انفتاح السوق وتوسّعه ليست "عملية خطية سلسة". معتبرا أن تلك النظرة التي ترى أن الإصلاح والانفتاح في الصين خيارٌ سياسي قائم على "العقلانية الاقتصادية" بحسب مبدأ فلفريدو باريتو، وصفٌ مبسّط ومجتزأ لعملية الإصلاح الاقتصادي التي شهدتها الصين، كونها لا تتطرّق إلى الأسباب التي دفعت الصين إلى فتح السوق "بحذر" في ظل العبء التاريخي الثقيل للاقتصاد المخطّط، وافتقارها لتفسر أسباب العديد من التحوّلات والانعطافات خلال مسيرة التحوّل من الاقتصاد المخطّط إلى اقتصاد السوق، وإغفال أخطار الركود والتراجع التي واجهتها عملية الإصلاح والانفتاح من وقت لآخر في مسيرتها.

 

بديل منطقي

وتابع الكاتب شرحه لتلك النقطة مشيرا إلى أن الصين طرحت ونفّذت خيار الإصلاح الاقتصادي الذي اعتبرته بديلا منطقيا للاقتصاد المخطّط المسيطر في ذلك الوقت، وحلا مقبولا للسياق التاريخي لإفلاس خطوط التصنيع التقليدية.

وكانت الحكومة الصينية قد بدأت تجربة واستكشاف فرص نجاح الإصلاح الاقتصادي المقدِمة عليه في القطاعات التي كانت سيطرة الدولة عليها أقل صرامة (مثل الزراعة والخدمات العامة الحضرية)، وفي المناطق المعزولة نسبيا (مثل المناطق الاقتصادية الخاصة الساحلية). أما بالنسبة للقطاع الاقتصادي الذي تملكه الدولة، والذي يعد الهيكل الرئيسي للاقتصاد التقليدي المخطّط، فقد تأثرت قواعد إصلاحه المبكرة بالنظرية الاشتراكية لأسواق أوروبا الشرقية.

وفي مسعى لتحقيق الهدف المتمثّل في تحسين الكفاءة الاقتصادية تم دمج مؤشرات أسعار السوق وآليات الحوافز بشكل جزئي مع حفاظ الإطار الأساسي للنظام الاجتماعي والاقتصادي على النمط السوفيتي. لكن النتيجة كانت التأرجح بين فقد السيطرة على الرقابة الداخلية للمؤسسات المملوكة للدولة وتعزيز سيطرة الدولة عليها، ما أظهر بوضوح أن الإصلاحات المبكرة في الصين لم يكن لها هدف واضح تجاه السوق، بل حاولت التخلص من التحديات الناتجة عن الاقتصاد المخطّط الجامد والأيديولوجية المتمثلة في "دولة قوية تستطيع فعل أي شيء" من خلال تنفيذ بعض التدابير الاقتصادية المرنة والممزوجة بالبراجماتية.

إلا أن الكاتب عاد وقال إن البراجماتية في الأيديولوجية التوجيهية للإصلاح والانفتاح كانت "سيفا ذا حدّين"، وأثّرت بشكل عميق على مسار الإصلاح الاقتصادي الصيني وأدائه على المدى البعيد. فمن ناحية، نجحت الصين في تخطي العقبات بإتباع مبدأ "عبور النهر بتحسّس الأحجار"، وشرعت في المضي قدما على طريق تنمية اقتصادية تتميّز بـ"الإصلاح التزايدي"، الذي حقق نجاحا كبيرا في قطاع السلع والخدمات العامة، وعزّز احتياجات الصين للتنمية الموجّهة نحو السوق وسيادة القانون.

ومن ناحية أخرى، فإنه ونظرا للافتقار إلى التفكير الشامل والإجماع الواسع حول الأسباب الجذرية لعيوب الاقتصاد المخطّط، فإن النموذج الاقتصادي الموحّد الناتج عن الفكر الاقتصادي القيادي والتأكيد على سيطرة عالية الدرجة للدولة على الاقتصاد قد نال دعما ضمنيا وظاهرا على المستوى النظري، وجعل تحكّم سلطة الدولة في المؤسسات والسوق يتوسّع بشكل مفرط من وقت لآخر ارتكازا على الصعوبات والمشاكل المؤقتة التي تعترض عملية الإصلاح الموجّهة نحو السوق، مثل تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء وانتشار الفساد، ما جلب مقاومة كبيرة للإصلاح الموجّه نحو السوق وسيادة القانون وبشكل خاص في أوائل القرن الحادي والعشرين. فلم يقتصر الأمر على الإصلاحات الراكدة في أسواق الأراضي ورؤوس الأموال وغيرها، ولكن تشكّلت ظاهرة "تقدّم الدولة وتخلف الشعب" في بعض المؤسسات الصناعية في مواجهة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة التعقيد.

 

العبور للمستقبل

ومع ذلك، كما يقول المثل الصيني القديم "ليس كل ما ظاهره سيئ فهو ضار"، فقد دفعت المشكلات الناجمة عن ركود الإصلاحات إلى تشكيل إجماع على أن تعميق الإصلاح هو السبيل الوحيد للعبور للمستقبل، مما دفع المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني في عام 2012 إلى اتخاذ قرار تاريخي متمثل في "اغتنام الفرصة لتعميق الإصلاح في المجالات الرئيسية مع قدر أكبر من الشجاعة السياسية والحكمة".

وفي العام 2013، وضعت الجلسة العامة الثالثة للجنة المركزية الثامنة عشرة للحزب الشيوعي الصيني خطة رئيسية وتصميما على أعلى مستوى وخريطة طريق لتعميق الإصلاح الشامل، حيث أكدت على تركيز القطاع الاقتصادي على جعل السوق تلعب دورا حاسما في تخصيص الموارد لتعميق الإصلاح الاقتصادي. كما وسّعت الإصلاح ليشمل المجالين الاجتماعي والسياسي، وحدّدت "ابتكار نظام الإدارة الاجتماعية" و"تحديث نظام الحكم الوطني وقدرة الحوكمة الوطنية" و"تسريع إضفاء الطابع المؤسسي على السياسة الديمقراطية الاشتراكية" كأهداف عامة لتعميق الإصلاح الشامل؛ الأمر الذي فتح صفحة جديدة في مسيرة الإصلاح والتنمية في الصين.

وبحسب المؤلف، فإن عملية الإصلاح الاقتصادي في الصين تشير بوضوح إلى أنه كلما أصبح وضع اقتصاد السوق توجيها وإرشادا للإصلاح الاقتصادي مع فتح الباب أمام استخدام المزيد من آليات السوق لتخصيص الموارد، ستكون جودة النمو الاقتصادي وسرعته في الصين أفضل، وسيزدهر الابتكار وريادة الأعمال في القطاعات الاقتصادية غير المملوكة للدولة، ما يوفر بيئة خارجية مريحة أكثر لإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة.

ويرى المؤلف أنه لكي تتمكّن الصين من معالجة التحديات التي تواجه عملية الإصلاح الاقتصادي، يتوجب عليها مواصلة تعميق الإصلاح الشامل الموجّه للسوق وتعزيز سيادة وحكم القانون وزيادة دور السوق في عملية تخصيص الموارد، دون الحاجة إلى تدخل مركزي من الدولة لكي تنظم عملية تنسيق الإنتاج.

ولكن المؤلف قال إنه على الرغم من إدراج هدف "جعل السوق تلعب دورا حاسما في تخصيص الموارد " ضمن قائمة قرارات الجلسة العامة الثالثة للجنة المركزية الثامنة عشرة للحزب الشيوعي الصيني، إلا أن الخلاف بين توجّه اقتصاد السوق والعودة إلى النموذج الاقتصادي المخطّط سيظل قائما، وستواصل مسيرة الإصلاح والانفتاح في الصين مواجهة التحديات الهائلة، مضيفا أنه في غياب فهم واضح وإلمام بجميع هذه التعقيدات، فإن الطريق إلى تعميق الإصلاح الشامل الموجّه للسوق وسيادة القانون سيكون صعبا وقد يتعرض لمخاطر الفشل.

 

النسق الناظم للكتاب

يحتوي الكتاب -الذي تطلب إنجازه قرابة الثلاثة أعوام- على مدخل ومقدمة واثني عشر فصلا، أفضت إلى رصد محاور اهتمام جوهرية تدور أفكارها حول الحقل الاقتصادي والخطوات الإصلاحية التي قطعتها الصين، وعرض خصائص ومميزات الاقتصاد الموجّه وتحليل تفريعاته بشكل منهجي.

في حين أن القيمة المعرفية المضافة للكتاب تتحدّد في دراسته لقضية مستمرة ومتواصلة؛ فالمؤلف تناول الوضع الاقتصادي في الصين وتأثيراته بداية من العام 1978 وحتى 2018، فاتحا أمام القارئ المشهد المستقبلي؛ حيث يناقش الفصلان الأول والثاني على التوالي حتمية الإصلاح الاقتصادي الصيني والقيود التاريخية لاختيار مساره المبكّر ارتكازا على الخلفيتين الاجتماعية والاقتصادية.

فيما تقدم الفصول الثالث والرابع الخامس فكرة "الإصلاح التزايدي" في المرحلة المبكرة، واستكشاف أهداف الإصلاح في منتصف الثمانينيات، وخلفيات قرار تنفيذ الإصلاح الاقتصادي الشامل في التسعينيات، وكذلك تأثير هذه القرارات على الوضع الاقتصادي الوطني بأسره. ليركز الفصلان السادس والسابع على الزخم الكبير للنمو الاقتصادي الصيني من خلال مبدأ "الخروج" والانفتاح على العالم وإزالة الحواجز الداخلة، وخلق تدابير الإصلاح الموجّه نحو السوق، بما في ذلك الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وإنشاء سوق ضخمة ومتكاملة داخليا ودوليا بشكل متزايد أمام الشركات الصينية، وتعزيز دور السوق في تخصيص الموارد بشكل كبير وتوفير ظروف ملائمة للارتقاء بقوة الصين الاقتصادية في مطلع القرن الجاري.

وكشفت الفصول الثامن والتاسع والعاشر القصور المؤسسي والمخاطر الرئيسية القائمة في الاقتصاد الصيني؛ والمتمثلة في: الميل نحو الاقتصاد المخطّط في إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة وتخطيط الاقتصاد المملوك للدولة، وكذلك الدفع لصالح الاستثمار المفرط بسبب تشوهات أسعار الأراضي ورأس المال وغيرهما من عوامل السوق والحماية المحلية والضعف الاقتصادي الكلي. ويحلل المؤلف في الفصل الحادي عشر تأثير عيوب وتشوهات النظام الاقتصادي هذه على الشقين الاقتصاد والاجتماعي في الصين.

ويتناول الفصل الأخير من هذا الكتاب آفاق تعميق الإصلاح الشامل في الصين، ويشير إلى أن أيديولوجية التوجيه الاقتصادي والمبادرات السياسية الرئيسية منذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني قد وضعت أساسا سياسيا قويا لمزيد من الإصلاحات الموجّهة نحو السوق دون إغفال العقبات القائمة، وما إذا كان بالإمكان تنفيذ خطة الإصلاح الحالية بشكل ثابت أم لا، كونها تمثّل مفتاح التنمية السلسة والمستدامة للصين.

-------------------

تفاصيل الكتاب

- الكتاب: "عملية الإصلاح الاقتصادي في الصين".

- المؤلف: وو جينج ليان.

- الناشر: دار النشر لموسوعة الصين، 2018م، باللغة الصينية.

- عدد الصفحات: 404 صفحات.

 

أخبار ذات صلة