تأليف: جاك ميسترال
عرض: سعيد بوكرامي
أصبحتْ لُغة الاقتصاد لغةً مشتركةً ومتداولةً وضروريةً في عصرنا، وبدون مساعدة منها، سيكون العالم الحالي غير مفهوم. مثلما سيكون الكون غير مفهوم، بدون الفيزياء النيوتونية. لكن التعرف على تكوين الفكر الاقتصادي غير متاح إلا للمتخصصين في هذا المجال. ولسد هذا الفراغ، جاء كتاب جاك ميسترال ليكشف أولاً كيف نشأت الفكرة الجريئة لـ"علم الثروة"، وهذا جانب آخر غامض من أسرار علم الاقتصاد. يستكشف ميسترال بدقة وعناية ووضوح معرفي خطوطها المتصدعة، وأصولها الفكرية كأحد الأنظمة التي أعطت مضمونًا للطموح التجاري والمالي عبر العصور.لكنَّ تاريخ الفكر الاقتصادي ليس مجرد فضول فكري فقط، يؤدي لبحث وتأليف ونشر لمؤلف في هذا التخصص المعقد؛ لأنَّ الاقتصاد الحديث ارتبط على مدار أربعة قرون ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة السياسية، لمثل هؤلاء العمالقة في الاقتصاد؛ نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:مونتكريشتين، سميث، ماركس، والراس، كينيز وفريدمان، وعلى المنوال نفسه نجد أيضا: هوبز، مونتسكيو، روسو، توكفيل، راولز أو حايك، الذين واكبوا اضطرابات العصر الحديث.
جميعهم انضمُّوا لتيارات فكرية حاولت أن تقدم، منذ أربعة قرون، معنى للتكوين التدريجي للفكر الاقتصادي، لمجتمع الأفراد، سواء كانوافاعلين اقتصاديينأو سياسيين.كان هناك دائمًا توتر بين المجالين الاقتصادي والسياسي، ولكن في عصر النيوليبرالية، الذي نعيش فيه اليوم، فإن التفكك، يدفع هذا التوتر إلى مفارقاته القصوى. وهنا بيت القصيد؛ لأنَّ هذا الكتاب الأيقوني وسيلة مبتكرة لكشف رموز ومفارقات ومعضلات الفردية المعاصرة. وفي مواجهة البلبلة التي كشف عنها الصعود العارم للفكر الشعبوي في السياسة والاقتصاد. وتتمثل مهمة القرن الحادي والعشرين في تجديد الرهان الكينزي والتغلب على الطلاق الحالي بين الوضوح الاقتصادي والإرادة السياسية.
صُمِّم الكتاب ليكون مرجعًا أساسيًّا للطلاب والمتخصصين في علم الاقتصاد، كما هي الحال مع أي مواطن؛ سواء ناطقًا بالفرنسية أو عبر وسيط لغوي آخر، يريد أن يفهم بشكل أفضل طرق التفكير في "العلوم" الاقتصادية، وتطورها والصراعات الداخلية التي تعبرها. يقترح مؤلف الكتاب جاك ميسترال عرضًا بانوراميًّا عن تاريخ الفكر الاقتصادي الذي يثبت أنه أداة قيّمة لإلقاء الضوء على "العلم القاتم"، كما كان توماس كارليل يسمي هذا التخصص. ومن المؤكد أنَّ هذا الكتاب ليس الأول من نوعه، فالمؤلف يؤكد استفادتهمن مؤلفات عديدة في هذا المجال، بما في ذلك خلاصات جوزيف شومبيتر ومارك بلوجن، والتي كان يستدعيها ويستشهد بها بشكل متكرر.
ومع ذلك، يعطِي الكتاب اهتماما كبيرا للجانب البيداغوجي، خصوصا حينما يعرض وجهات نظره وتحيزه لبعض المواقف، التي تختلف عن كتابات أسلافه. وبذلك؛ أصبح جاك ميسترال ممثلا مهمًّا في تاريخ الفكر الاقتصادي والذي يقترحه علينا في هذا الكتاب، ولكنه أيضًا ممارس للاقتصاد على أرض الواقع، ويشكل مثالًا جيدًا لمفهوم "العامل متعدد الوظائف".فهو أستاذ البوليتكنيك، وأستاذ جامعي لعلم الاقتصادفي عدد من الجامعات، لكنه أيضًا عضو في مكتب ميشيل روكار ولوران فابيوس، أثناء توليهما مقاطعتهما على التوالي في ماتينيون وبيرسي، والمدير التنفيذي لشركة التأمينأكسا في التسعينيات وما زال عضوًا ومحللا اقتصاديا في عدد من المجالس الإدارية لعدد من الشركات المعروفة. ونشير هنا -بشكل خاص- إلى مقالاته عن"الثورة الأمريكية الثالثة" و"الحرب والسلم بين العملات"، والتي يمكن تصنيفها بأنها مرجعية أساسية وضرورية لكل مهتم بعلم الاقتصاد العالمي. يمكن أيضًا قراءة هذه الوقائع الخاصة بتطورات الفكر الاقتصادي كنوع من السيرة الذاتية الفكرية لميسترال؛ حيث لا يخفي المؤلف آراءه وميولاته وإعجابه؛ بحيث يوضح بإسهاب الحالات التي تمت دراستها وعلاقتها بتجربته الاقتصادية.
وإذا كان من المستحيل إنجاز مراجعة مفصلة لهذا الكتاب، بحكم تشعب مظانه وكثرة النماذج المدروسة،فلا ينبغي أن يثبط حجمه ومظانه(ص:447) من عزمنا على القراءة والمراجعة، ورغم ذلك، فإنَّ أهمية الكتاب تفرض علينا مع ذلك تحديد بنيته ومقاصده. يشدد جاك ميسترال منذ البداية على طموحه المتمثل في "إلقاء الضوء على مسألة العلاقة بين الاقتصاد والسياسة في القرن الحادي والعشرين"؛ انطلاقا من تغذية راجعة لأربعة قرون من الفكر الاقتصادي المضطرب والمؤسس للفكر الاقتصادي الراهن (ص:20). وبدءاً من ملاحظة هذا التناقض الذي يرى أن الفكر الاقتصادي ينال حظوة من قبل صانعي القرارات من جميع الأطراف، لكنه غير معروف على نطاق واسع، بل هناك من ينظر إليه باحتقار بسبب انفصاله عن الواقع، وخضوعه للمصالح المهيمنة. ففي الفصل الأول والمعنون بـ"رسم خارطة للعصر الحديث"، يعود المؤلف للقضايا التعريفية المتعلقة بالاقتصاد نفسه ويبرر اختياره لبدء سرده بالعصر الحديث، وليسبالعصور القديمة، كما نجد في العديد من مؤلفات أسلافه، بحجة أن "الفكر الاقتصادي خرج من رحم القطائع التي حدثت منذ القرن السادس عشر" (ص:33). تعتبر هذه القطائع مادية وعلمية أكثر منها سياسية. وهنا ينبري ميسترال لشرح تفاصيل هذه القطائع قبل التوقف عند مقاومة العقلانية الاقتصادية؛ الأمر الذي يقوده إلى استدعاء دوركهايم والإصرار على أهمية التمييز بين السجلات الثلاثة لتعبئة الاقتصاد التي لها أهداف أكثر مما هو مخصص لها، فهي:أداة في خدمة القرار والمشروع العلمي والمرجع العقائدي. ثم يؤكد على أحد الأطروحات الرئيسية التي توجه دراسته للفكر الاقتصادي وهي: حقيقة"وجود نمطين من التفكير في الاقتصاد يعكس تناقضًا غير قابل للاختزال في التفسير بأقل من ازدواجية موضوعهما المشترك" (ص:82)، والذي يمكن تمثيله بمجموعة من الأسواق التي قد تميل نحو التوازن أو لا، أو كدائرة مصنوعة من العديد من التدفقات.
بعد هذه الاعتبارات الأولية التي لا غِنى عنها، تبدأ قصة تاريخ الفكر الاقتصادي نفسه. يبدأ جاك ميسترال بالتيار التجاري المركنتيلي الذي يمتد من حوالي 1600 إلى 1750، عازما على استعادة معالمه وآلياته مذكرا باستمرار بتنوعه الداخلي، وهنا يسعى جاهدا ليبرز أنه ليس مأزقًا خاطئًا؛ حيث يميل آدم سميث إلى وصفه بذلك، فهو يمثل لحظة قطيعة أساسية مع الفكر المدرسي الذي كان يسيطر حتى ذلك الحين، وبالتالي يمثل البداية الحقيقية للفكر الاقتصادي الخالص. وفي الوقن نفسه يصف جاك ميسترال بعناية مساهماتهم (حول العلاقة بين القوة والسوق، وعمل الصرف الأجنبي أو الاحتكارات...)، يبرز حيزًا آخر في تاريخه الفكري الذي يتمثل في وضع العناصر الفاعلة في سياقها أثناء تحليل مقولاتها، وهي بحسب المؤلف طريقة لتجاوز المعارضة بين اتجاهين في تاريخ الأفكار: أحدهما تطوري يركز على المحتويات، والآخر تقليدي يركز على عكس الأول على الظروف الاجتماعية لإنتاجها (ص:110-111).
الفصلُ التالي مكرَّس للمرجعيات الكلاسيكية، وفي مقدمتها نجد مؤلفات آدم سميث وديفيد ريكاردو، ويدعو بالمناسبة للخروج من الرؤية الحالية للرواد المباشرين للكلاسيكية الجديدة. كما أنه يصر على بعض مساهماتهم التي تم التقليل من قيمتها -مثل تحديد المراحل المختلفة في التنمية الاقتصادية- ويقدم بعض التوضيحات، لا سيما حول "اليد الخفية" الشهيرة التي لم يرد ذكرها في عمل آدم سميث إلا ثلاث مرات، والتي أسيء فهمها على أنها توقع لرؤية ذاتية عن تنظيم الأسواق الاقتصادية. أما الفصل الرابع فقد كرسه للرعيل الأول من النقاد لهذا الاقتصاد السياسي الناشئ، أي مجموعة الاشتراكيين الطوباويين. مثل المدرسة التاريخية الألمانية وأخيراً كارل ماركس، الذي ينتقده في مسائل عديدة، لكنه مع ذلك يبرز أهميته المفصلية في تكوين الفكر الاقتصادي المعاصر.
الفصل الخامس بعنوان "ظهور السوق"، وهو مكرَّس للثورة الهامشية التي حدثت في سبعينيات القرن التاسع عشر التي وقعتها ريشة جيفونز ومينجر ووالراس، ويمثل ميلاد الادعاء "العلمي" للممارسة الاقتصادية. يركز جاك ميسترال بشكل خاص على حياة (والراس) وأعماله؛ حيث يعرض بالتفصيل مساعيه الطويلة من أجل بناء نظرية للتوازن العام، ناهيك عن قناعاته الاشتراكية. بعد هذا التغيير، المتفتق عن "حدس عبقري"، يظهر جاك ميسترال كيف كان الاقتصاد حدسيا ومرتبطا بمبادرات وأفكار مفكرين مستشرفين للمستقبل. وفي الفصل السادس -الذي يركز بالطبع على شخصية كينيز- يشير المؤلف إلى أنه لم يخترع الاقتصاد الكلي، على عكس الاعتقاد السائد، لكنه مع ذلك لا يتوقف عن الثناء على كينيز لأنه أسس المنهج الاقتصادي الحديث "من خلال استبدال منطق الخيارات في حالة الندرة بمنطق القرارات في ظل عدم اليقين" (ص:329). وبعد تلخيص المساهمات الرئيسية في نظريته العامة، يعكف جاك ميسترال على عرض توصياته السياسية والنظر فيما يمكن من تعديل فكرة خاطئة أخرى تجعله مبشراومتعصبا لدولة الرفاهية. ثم يقدِّم نماذج عن بعض التيارات الاقتصادية غير التقليدية، خاصة المؤسساتيين ومدرسة الضبط والتنظيم الاقتصادي. وفي الفصل الأخير، المعنون عنوانا واضحا "خرافة الأسواق الفعّالة". يسترجعبسرعة صعود الليبرالية الجديدة، خاصةً شخصية "فريدريش فان هايك" الفريدة في عالم الاقتصاد، وفي السياق ذاته يتحدَّث عن التيار النقدي الذي يقوده ميلتون فريدمان،خصوصا "الاقتصاد الكلاسيكي الجديد" وافتراضاته المتعلقة بالتوقعات المنطقية، التي يواجهها المؤلف بصرامة مواجها اتهاماته إلى أن هذا النموذج لا يؤدي إلالـ"شكل اقتصاديّ عقيم، من شأنه أن يترك الفكر الاقتصادي، دون سلاح، في الوقت الذي نواجه فيه تحديات القرن الحادي والعشرين" (ص:408). يشملُ التشخيص أيضًاالاقتصاد المالي ونهج الأسواق الفعالة. ومع ذلك، سيكون من الخطأ اعتبار أن هذا النهج المسيطر سيكون مهيمنا على الدوام، كما يتضح من قوة التيار الكينزي الجديد، حتى لو أكد المؤلف على أنه "لا يكفي أن نكون كينيزيًين كي نخرج من أزمة كبيرة" (ص:450)، مشيرا إلى الأزمة الاقتصادية التي وقعت في العام 2008. داعيا إلى ضرورة نهج تطهير مالي متواصل، يتوقع ويتفادى انهيارا اقتصاديا جديدا ومحتملا. إنها وسيلة للإيحاء بأن تاريخ الفكر الاقتصادي المدروس في هذا الكتاب، هو "انعكاس للمجتمع" و"أداة للتحول"، يجب أن يستمر المفكرون في كتابته وتحليله وعرض سلبياته وإيجابياته.
مثل كل الاقتصاديين من آدم سميث إلى روبرت بوير، مرورا بجوزيف شومبيتر، يعد جاك ميسترال حساسا للتنظيم السياسي للاقتصاد. لقد سار على خطى جون م.كينزمستعيدا قراءة تضمين الاقتصاد ضمن رأسمالية في تطور مستمر. لا يجد ميسترال ضيرا في التذكير بأوجه القصور في التحليل النيوليبرالي القائم على فرضية مشكوك فيها حول عقلانية الوكلاء وكفاءة الأسواق، دون أن يعير أفكار لودفيج فون ميسيس وتلميذه فريدريش حايك، التأثيرَ الذي يمنحهم إياه بعض المدافعين عن الاقتصاد الحديث. ويعتبر هذان المؤلفانالموجَّهان لما يُسمى بالفكر الاقتصادي "النمساوي"، كما يُعتبران إضافة إلى السيدة تاتشر، أن المجتمع لا وجود له، فقط الأفراد وحدهم هم الحقيقيون. على العكس من ذلك، وعلى عكس ميخائيل كينيز، صاحب الاقتصاد الكلي المبسط الرائج في الأوساط السياسية، يؤكد ميسترال على الآثار المالية الضارة للسياسة النقدية التي تمدد إلى الأبد الوصفات الكينيزية، التي تعتبر بانتظام ضرورية للحد من الأزمات.
وفي الأخير، يُنَاضِل الفكرُ الاقتصاديُّ ضد إغراء فصل علم الوسائل النادرة عن بيئته السياسية. ومع ذلك، يجب كشف طريقة "بناء الفكر الاقتصادي" الذي خصص له ميسترال هذا الكتاب المهم. والذي يشبه في بنائه نسيج بينيلوبي، في تشعبه وتلويناته، ودقته، وتجدده المستمر.
-------------------
تفاصيل الكتاب
- الكتاب: "علم الثروة.. تكوين الفكر الاقتصادي".
- المؤلف: جاك ميسترال.
- الناشر: دار غاليمار، فرنسا، 2019م، باللغة الفرنسية.
- عدد الصفحات: 447 صفحة.
