تأليف: مجموعة باحثين
عرض: عبد الرحمن السليمان
أستاذ الترجمة في جامعة لوفان في بلجيكا - عضو "مجلس الاستقامة" في مدينة أنتورب
تسبَّب الحاسوبُ والإنترنت وربطُ ملايين الحواسيب عبر العالم ببعضها - إضافة إلى الجوالات وآلات التصوير والمستشعرات ووسائل التواصل الاجتماعي- في أكبرتغيير ثقافي واجتماعي في تاريخ الإنسانية الطويل. حدث هذا التغيير في فترة زمنية قصيرة نسبيًّا لا تتجاوز ثلاثة عقود، وأدى إلى نشوء كمّ لا يكاد يحصى من البرامج والأنظمة والتطبيقات الحاسوبية التي أصبحت تحلّ محلّ الإنسان في مجالات كثيرة. وتطورت تكنولوجيا الإنسالات حتى كادت الإنسالة -كلمة منحوتة من "إنسان" و"آلة" للدلالة على الـrobot- تحل محل الإنسان في كثير من واجباته العملية. وتطورت الشبكة العنكبية ذاتها إلى جيل جديد من الارتباط الشبكي يتيح التفاهم مباشرة بين الأجهزة المرتبطة ببعضها البعض، بدلاً من التفاهم الحالي بين الإنسان والحاسوب والجوال عبر شبكة الإنترنت العالمية. يوفر هذا التطور التكنولوجي المعلوماتي إمكانيات كبيرة للإنسان، ويحتوي في الوقت نفسه على مخاطر جسيمة عليه.
وصار هذا التطور التكنولوجي السريع يشغل بال الفلاسفة والمراكز البحثية ومؤسسات الخبرات الفكرية (Think Tanks) ورجال السياسة. من هذه المؤسسات "مجلسُ الاستقامة" الذي يراقب أداء المجلس البلدي والموظفين في مدينة أنتورب، عاصمة الجزء الناطق باللغة الهولندية في بلجيكا، والذي عقد بتاريخ 12 يونيو 2019 مؤتمرًا في مدينة أنتورب بعنوان "التكنولوجيا والأخلاق والسياسة.. تحديات جديدة"، نشرت الأبحاث المقدمة فيه في كتاب ضم بين دفتيه مشاركات أربعة عشر خبيرًا في قضايا الحاسوب والإنترنت والأمن الرقمي وتكنولوجيا المعلومات.
صِيغت فصول الكتاب بعناية فائقة لأن الغرض من المؤتمر والكتاب كان لفت نظر المواطنين إلى نتائج التطور التكنولوجي في مجال الحاسوب والتواصل عبر الإنترنت على حريتهم الشخصية وعلاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وتقديم المعلومة الراهنة ورؤية جديدة للساسة وصناع القرار من أجل مراجعة القوانين القائمة وسن قوانين جديدة تتوافق مع الحالة التكنولوجية الجديدة من جهة أخرى. الكتاب وثيقة لأنه يتوقف عند نتائج التطور التكنولوجي السريع في مجال الحاسوب والإنترنت وبرامج التواصل بشكل عام على المنظومة الثقافية والأخلاقية للشعوب في ظل عجز الحكومات والمؤسسات التشريعية فيها على مواكبة هذا التطور التكنولوجي السريع تشريعًا وتقنينًا. فقانون الخصوصية البلجيكي -على سبيل المثال- يعاقب، شأنه في ذلك شأن معظم قوانين العالم المماثلة، على نشر معلومات ذات طابع خصوصي عن شخص آخر. لكن مفهوم الخصوصية تغير كثيرًا في عصر "الفيسبوك" و"الإنستجرام" وأخواتهما من برامج التواصل الاجتماعي التي ينشر الناس فيها معلومات كثيرة عن حياتهم الخاصة وعلاقاتهم العاطفية ومغامراتهم الشخصية وحتى ملبسهم ومأكلهم اليومي، ويعززون ذلك بالصور والأفلام المسجلة التي لا تترك مجالاً للخيال؛ بحيث لم يعد هذا القانون ينسجم مع التغيرات التي طرأت على فهم الناس للخصوصية اليوم وعلى تعاطيهم الحالي لها.
تلتقي فصول الكتاب مع بعضها حول العلاقة بين التكنولوجيا والأخلاق والسياسة. ويمكن اختزالها في أربعة محاور كبيرة تحوم فصول الكتاب حولها، أعرض لها في هذه المراجعة. وأتوقف، قبل العروج عليها، عند مقدمة محافظ مدينة أنتورب ورئيس حزب (التحالف الفلمنكي الجديد) أكبر أحزاب بلجيكا، الذي قدم للكتاب بمقدمة ألقاها أثناء افتتاحه المؤتمر.
توقف محافظ مدينة أنتورب في مقدمته عند مقولة الإمبراطور الروماني الشهير أغسطس -توفي سنة 14 ميلادية- وهو على فراش الموت: "وَرِثتُ مدينةً من حَجَر، ووَرَّثتُ مدينةً من مَرمَر". "تشيرهذه المقولة، التي يمدح أول إمبراطور روماني نفسه فيها، إلى أهم اختراع في الإمبراطورية الرومانية وهو الـopus caementicium"، أي الخَرَسَانَة أو الباطون، وهو مادة مكونة من الأسمنت والرمل والماء بالإضافة إلى حصى بأحجام مختلفة. أدى استعمال هذه المادة المطرد إلى بناء مدن كبيرة وضعت حكامَها أمام تحدٍّ كبير ألا وهو توحيد سكانها في مجتمعات متماسكة وإدارتها بطريقة فعالة. "كانت روما هي الأنموذج الأول في أوربا القديمة، وكانت قرطبة الإسلامية"، إبان حكم الأمويين "الأنموذج الأوروبي الأول في العصور الوسطى". وإذا كان بناء المدن يحتاج إلى مواده وهي هنا الخَرَسَانَة أو الباطون، فإن بناء المجتمعات وتنظيم العلاقات بين المواطنين غير ممكن بدون وسائل التواصل التي تطورت عبر التاريخ ببطء قبل أن تعرف القفزة تلو الأخرى وصولاً إلى اختراع المحركات والسيارات والطائرات والآلات والهاتف. و"جاء اختراع الحاسوب والإنترنت ليحدث أكبر تغيير في العالم؛ وتطورت الإنترنت ذاتها إلى جيل جديد: إنترنت الأشياء، التي صارت تربط مليارات الحواسيب والجوالات والكاميرات والمستشعرات والإنسالات وأدوات الذكاء الاصطناعي ببعضها بعض"، وتتيح التفاهم بينها دونما حاجة إلى وجود مستعمل ما في مكان ما يتحكم في هذه الأجهزة والأدوات كما هي الحال عليه في الإنترنت التقليدية. وختم المحافظ منوهًا بضرورة بقاء الإنسان متحكمًا في هذا التطور في جميع الحالات.
تعالج الكاتبة ناتالي دوماري، الإطار في "اتحاد المدن والبلديات الفلمنكية"، في بحثها قضية التكنولوجيا والأخلاق، وتتوقف عند "العلاقة الشائكة بين التكنولوجيا وقانون الخصوصية"، وترى أن التطبيقات المتزايدة في العالم الرقمي "تسهل عملية تواصلنا مع بعضنا بعض وتجعل بالتالي حياتنا مريحة". وعلى الرغم من أن هذه التطبيقات "أو قسم كبير منها" سهل الاستعمال ومجاني، "فإننا نقدم من خلالها معلومات كثيرة عنا، بشعور أو بدون شعور". وتضيف الكاتبة أن مجانية هذه البرامج أمر غير واقعي وغير صحيح "لأننا ندفع ثمنها غاليًا ببياناتنا الخاصة وبالتحديد من خلال سلوك استعمالنا للإنترنت، ومن خلال علامات الإعجاب التي نضعها عند بعض الأنشطة، ومن خلال نشر ردود ومن مشاركة تحديد الموقع مع تطبيقات أخرى". وهذا ما يجعل شركات الإنترنت العملاقة مثل جوجل وفيسبوك وأمازون يعرفون الكثير عنا، "الشيء الذي يجعلهم يملكون سلطات كثيرة" يمارسونها علينا دونما شعور منا. ذلك أن البيانات التي تجمعها هذه الأدوات عنا "تمكن أصحابها من معرفة معطياتنا الديموغرافية واهتماماتنا وخياراتنا ورغباتنا وسلوك شرائنا". وهذا يجعل الشركات المنتجة توجه دعايتها إلينا بطريقة فعالة. وتضيف الكاتبة: "إن البيانات تساعد على تطوير خوارزميات للتحكم في سلوكنا عبر الإنترنت؛ لذلك تعتبر بياناتنا ثمينة جدًا بالنسبة إليهم". وتتوقف الكاتبة عند فضيحة الشركة الإنجليزية "كامبريدج أناليتيا"، التي يكمن خطرها في أن العلاقة الشائكة بين التكنولوجيا والخصوصية في وسائل التواصل الاجتماعي "لا يقتصر تأثيرها على الأهداف التجارية" (معرفة سلوكنا الشرائي للتحكم فيه)، "بل يتجاوزه إلى التحكم في قناعاتنا الفكرانية وخياراتنا الحزبية للتحكم في سلوكنا الانتخابي من خلال تقديم دعاية سياسية أحادية لنا مشفوعة بأخبار زائفة".
وتختم الكاتبة فصلها المثير بالقول "إن التكنولوجيا ليست حيادية وليست بدون قِيَم"؛ لأننا أمام ظاهرة "التكنولوجيا المقنعة"، وهي تكنولوجيا طُوِّرت خصيصَا بهدف التحكم في سلوك المستعمل -مستعمل الإنترنت- وفي قناعاته الفكرانية. يتطلب هذا التحدي "حكومة قوية تقود هذا التحول الرقمي"، وليس حكومة لا مبالية نظرًا لنتيجة ذلك التحكم التكنولوجي في العقول، عن بُعد، على الأمن القومي للدول.
وتتوقف الكاتبة كارين دي كراكرالخبيرة في تطبيق التكنولوجيا الرقمية من أجل سلامة المدن، عند البعد الأخلاقي لتطبيق التكنولوجيا الرقمية بشكل واسع على مستوى الأحياء السكنية. وقيّمت في مشاركتها مشروع "المنطقة الذكية في أنتورب"، وهو مشروع تجريبي وأنموذج لما ستكون عليه مدينة الغد، يقتصر تطبيقه على حيّ واحد من أحياء مدينة أنتورب" كما تنصص الكاتبة. طورت هذا المشروع شركة تحمل الاسم (Imec City of Things) أو "شركة إيمك لمدينة الأشياء". والاسم محاكاة لاسم الجيل الجديد من الإنترنت، وهو (Internet of Things) أو "إنترنت الأشياء". "يهدف هذا المشروع إلى فحص تطبيق تكنولوجيا "إنترنت الأشياء" الرقمية التي تجعل المدينة تعمل بشكل أفضل من خلال تطبيقاتها الكثيرة". وتضيف الكاتبة: "تجمع هذه التكنولوجيا معلومات وبيانات كثيرة بطريقة ذكية، منها المعلومات المتعلقة بحركة تنقلنا داخل المدينة أو بنوعية الهواء فيها، ثم تُوظف هذه المعلومات والبيانات المجموعة بطريقة ذكية في تطوير سياسة بلدية ملائمة". مثلاً: تمنع مدينة أنتورب دخول السيارات إليها التي تنبعث منها غازات نتيجة للاحتراق في المحرك بنسبة أكثر من النسب المسموح بها في المعايير التي أقرها الاتحاد الأوروبي لحماية الهواء والبيئة من التلوث (الآن: ابتداء منالمعيار الأوروبي 4). ولتطبيق هذا القانون وتغريم المخالفين، تطبق تكنولوجيا "إنترنت الأشياء" من خلال ربط الكاميرات والمستشعرات المركبةفي كل مكان داخل المدينة ببيانات السيارات وبيانات المالكين وخريطة المدينة المفصلة؛ بحيث يُصنع لكل سيارة تدخل المدينة ملف رقمي يبين سنة تصنيعها ونوع الوقود المستعمل فيها ومعيار انبعاث الغازات المسموح به واسم مالكها وجميع بياناته الشخصية. لقد اتخذ إجراء رقمي مماثل من أجل حساب عدد المواطنين الذين يعبرون ممرات المشاة عند اشتعال الضوء الأحمر. "يهدف هذا الإجراء التجريبي المتخذ عند تقاطع خمسة شوارع إلى معرفة عدد المخالفين والتوقيت الذي تكثر المخالفات فيه وبالتالي الأسباب الداعية إلى المخالفات وهذا كله بهدف إعادة النظر في وضعية ذلك التقاطع وسن سياسة مرور مناسبة تؤدي إلى التأثير في سلوك المشاة" تكون بمثابة حل للمشكلة القائمة بإزالة أسبابها. لا تكمن المشكلة في البحث عن حلول مناسبة لمشاكل حلها واجب؛ مثل: تجاهل الضوء الأحمر، بل في تسجيل بيانات جميع المارين عبر ارتباط جوالاتهم، تلقائيًّا، بالمستشعرات التي ترتبط بالكاميرات والبرامج والتطبيقات التي طورت من أجل ذلك والتي ترتبط كلها ببعضها من خلال تكنولوجيا "إنترنت الأشياء". "وهذا يطرح أسئلة مشروعة تتعلق بالخصوصية والبعد الأخلاقي لهذا المشروع" الذي هو من جهة ضروري لتطوير أداء المؤسسات البلدية من خلال سياسات مبنية على بيانات دقيقة للغاية، ومن جهة أخرى يمس المواطنين في واحد من أهم مكتسباتهم في العصر الحديث: الحرية الشخصية والحفاظ على الخصوصية وحمايتها من الاستغلال.
ويتطرق الكاتب جان بول فان آفرماتالمدير التنفيذي لشركة الحمايةG4S-فروع بلجيكا وفرنسا ولوكسمبورج والمغرب- في دراسته إلى توظيف التكنولوجيا الرقمية والإنترنت عمومًا و"إنترنت الأشياء" خصوصًا في القضايا الأمنية التي لم تعد من صلاحية الحكومات في الغرب فحسب، بل تشترك في إدارتها شركات تنتمي إلى القطاع الخاص مثل شركةG4Sوغيرها.ينطلق الكاتب من التقرير بأن الإنسان "يقوم -من أجل جعل حياته أسهل- بالاستسلام للتكنولوجيا لأنه يبوح لها بجميع أسراره". ويقارن الكاتب هذا التطور الرقمي بكرة الثلج عندما تتدحرج من أعلى منحدر جبل ثلجيّ، فتبدأ صغيرة ثم يزداد حجمها وثقلها وتأثيرها أثناء الدحرجة. يقول: "كلما شاركنا الآخرين بمعلوماتنا وبياناتنا الشخصية، كلما تضاءلت نسبة الفوائد التي نجنيها من هذه المشاركة؛ وكلما تعودنا على ذلك، كلما تراجع تحفظنا على هذا التطور". ويضيف: "لقد أصبحت الكامريات والمستشعرات منصوبة في كل مكان، وصارت الطائرات المسيّرة تطير فوقنا جميعًا، وصار جهاز التليفزيون يعرف بالضبط ماذا نشاهد، ومتى نشاهد، وكم من الوقت نشاهد". لقد أصبحت الجوالات حياتنا، وأصبحنا نركّب التطبيق تلو الآخر من أجل تنظيم حياتنا وجعلها مريحة، "ولكن هذه التطبيقات أصبحت تقودنا قودًا وتتحكم في حياتنا تحكمًا بحيث حان الوقت للتأمل أخلاقيًا في نتائج هذه التكنولوجيا الرقمية، التي تراقبنا عن كثب، علينا".
ويتوقف الكاتب في دراسته عند مفهوم حق تقرير المصير ويدعو إلى "ربطه الدائم بمبدأ حرية الإنسان الفردية التي تمكنه من التقرير وتحديد الطريقة التي يريد، هو، من خلالها، أن يعيش في المجتمع". ويستحضر الكاتب أن حق تقرير المصير ومبدأ الحرية الفردية -اللذين نص عليهما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- أساسان تفرعت عنهما مجموعة كبيرة من الحقوق الأساسية. "وإذا كان مبدأ حرية الإنسان الفردية يركز على حماية الفرد من تدخل الحكومات والشركات والأفراد الآخرين في حياته، فإن حق تقرير المصير يركز على التقرير بأن الإنسان راشد وأنه يملك السلطة التقديرية بحيث يقرر هو الطريقة التي يراها مناسبة لممارسة حرياته". ويرى الكاتب أن هذه معضلة كبيرة لأن الواقع اليوم يجعل التكنولوجيا هي التي تقرر بدلاً من الإنسان دون أخذ موافقته في ذلك. وهذا بادٍ للعيان، ليس في الأمور الحياتية البسيطة نسبيًا مثل توظيف التكنولوجيا الرقمية والمستشعرات في ادخار استهلاك الطاقة (كادخار كهرباء الإنارة في الأماكن العمومية التي لا يمر منها أحد) فحسب، بل في القضايا المصيرية أيضًا. مثلاً كأن تقرر سيارة تُقاد بطريقة آلية ما الذي ينبغي فعله عند وقوع حادث لا يمكن تفاديه عند عبور شخصين اثنين ممر مشاة أثناء اشتعال الضوء الأحمر. هل تقرر التكنولوجيا المتحكمة في السيارة – بدلاً من السائق – بمن تصطدم السيارة، وبمن لا تصطدم؟ بكلام آخر: هل تقرر التكنولوجيا في هذه الحالة مَن مِن الاثنين يموت ومن منهما يبقى على قيد الحياة؟! ويختم الكاتب بالقول إن القوانين الوطنية لا تواكب هذا التطور التكنولوجي الهائل ولا تراقب تغوّله في الحياة العامة والخاصة للناس. ويرى الكاتب أن الإجراء الذي يقوم به مطورو البرامج الحاسوبية والتطبيقات الرقمية المستعملة في الجوالات -أي طلب موافقة المستعمل قبل تنصيبها على حاسوبه أو تركيبها في جواله- إجراء ناقص ومضلل؛ لأنه لا يشرح للمستعمل نتائج تلك البرامج والتطبيقات على حريته الفردية وحقه في تقرير مصيره. لذلك يقترح استبداله بإجراء "الموافقة المستنيرة" المعمول به في المجال الطبي، والذي يقتضي شرح جميع المخاطر التي قد تنتج عن إجراء عملية جراحية ما للمريض؛ بحيثُ يوافق هذا الأخير على إجراء العملية الجراحية عليه بناء على تلقيه جميع المعلومات المتعلقة بها. فيمارس الشخص المريض المعني بالأمر حقه في تقرير مصيره ويوافق، بناء المعلومات المقدمة له مسبقًا، على خضوعه للعملية، أو يرفض الخضوع لها على بينة من الأمر. ويستنتج الكاتب بأنه "لا حق تقرير مصير بدون موافقة مستنيرة" ويدعو بقوة إلى سحب ذلك على استعمال الإنسان للتكنولوجيا الرقمية واستهلاكه لمنتجاتها التي أصبحت تستعصي على الحصر والترويض.
ويتأمل محرر الكتاب ديرك كولير المدير التنفيذي الأسبق لشركة جونسون آند جونسون، إحدى كبريات شركات الأدوية في العالم، في فصل مطول يحمل العنوان التالي: "التكنولوجيا وإنسانيتها. التأمل فلسفيًّا في عالمنا الشجاع"، في التطور التكنولوجي وأبعاده الإنسانية. وينطلق من السؤال الذي شغل الحكماء والعلماء والفلاسفة والمصلحين الدينيين عبر القرون، وهو: "هل الإنسان حر؟" وهل هو مخيّر أصلاً أم مسيّر؟ويضيف بأن "مكتبات كبيرة تملأ في كل عصر عند محاولة الإجابة على هذا السؤال الأبدي". ويضيف بأن "الواقع يشهد بأننا نحن الذين نصنع عالمنا وأن عالمنا -في الوقت نفسه- هو الذي يصنعنا"، ويرى أنَّ "التقدم إرادة إلهية". ثم يستعرض أقوال الفلاسفة حول الحرية ويتوقف عند تصور الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677) للحرية وهي "التصرف باستقلالية عن الأسباب". في هذا الحالة "يتمتع فقط الإله أو الطبيعة بالحرية المطلقة لأن الإله يكون أو الطبيعة تحدث نتيجة لسببيته هو أو سببيتها هي". وما عدا الإله أو الطبيعة فهو مسيّر وغير مخيّر! ثم يستحضر الكاتب العلاقة الشائكة بين العقل والنقل في الديانات السماوية خصوصًا ويرى في "فضول آدم غير الصحي" في الجنة سببًا لطرده منها بسبب عصيانه الأوامر الإلهية والاقتراب من "شجرة المعرفة" التي حُرمت ثمرتها عليه. ويستنتج أن الإنسان مجبول على ذلك الفضول المعرفي. لذلك نشأت الإشكالية بين النقل والعقل، "العقل" الذي كان المصلح الديني الألماني مارتن لوثر (1483-1546) يسميه "عاهرة الشيطان"! وبسبب هذه الإشكالية "وضعت الكنيسة الكاثوليكية "دليل الكتب المحرمة" التي أُلغيت سنة 1966، "ومن أجلها يدعو الإسلام السلفي إلى محاربة البدعة وغلق أبواب الاجتهاد" حسب رأي الكاتب. وفي الوقت نفسه يرى الكاتب أن التطور التكنولوجي السريع وحيلولة الآلة محل الإنسان في سياقات كثيرة بحاجة إلى ضبط قانوني وتشريع أخلاقي؛ لأن الخلل في توازن العلاقة مع العالم يزداد بسرعة مقلقة. "لقد صار ثمة خلل في علاقتنا مع العالم بحيث أصبح هو الذي يصنعنا" بدلاً من أن نصنعه نحن. ويدلل الكاتب على تغوّل هذه الإشكالية في مجال الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في مجال توظيف "الإنسالات" المتزايد في العالم. يقول: "لا نعلم إلى أين سيقودنا هذا التوظيف، لكن الثابت قطعًا أن نتائج ذلك على المجتمع سوف تكون جذرية التأثير، على الأخص على قطاع العمل والأنشطة الإنسانية المتعلقة به". فها هم علماء ومثقفون مثل ستيفن هوكينج وغيره، وصناعيون مثل بيل غيت وغيره،"يدعون إلى فرض ضرائب على الإنسالات، وإلى إعادة هيكلة الضمان الاجتماعي بحيث يصير لكل إنسان في هذا العالم دخل مخصوص به"، بدون عمل لأن الإنسالات ستقوم بالعمل بدلاً من الإنسان. "لذلك صار لزامًا عليها أن تدفع ضرائب عن العمل الذي تقوم به"! ويرى الكاتب أن بمقدور الإنسان "أن يبحث عن السعادة خارج إطار العمل التقليدي. لكن مجتمعًا يستعاض عن أكثريته بأدوات تكنولوجية من دون أن يجد بديلاً مناسبًا للأكثرية، مجتمع لا يمكن له أن يبقى متماسكًا، ومآله إلى التفكك. فهذه احتجاجات الستر الصفراء في فرنسا ليست إلا إنذارًا مسبقًا لما قد تؤول الأمور إليه" عند اختلال الموازين في العلاقة بين الإنسان والآلة. ويختم الكاتب بالتوقف عند ما اصطلح على تسميته بـ"الذكاء الاصطناعي اللطيف"، الذي يحاول الإجابة عن السؤال التالي: "ما هو السلوك المثالي الذي يجب على الذكاء الاصطناعي وأدواته أن يسلكه كي يُسهم في تقدم الإنسانية"؟ بصيغة أخرى: "كيف يمكن لنا أن نُبقي إنسالة ذاتية التعلم والتطور تحت السيطرة"؟ ثم يختم الكاتب فصله هذا بالقول: "بانتظار ما قد يسفر النقاش، الذي يهدف إلى تقديم إجابة عن هذا السؤال الشائك، عنه في المستقبل القريب، تبقى قوانين إسحاق آسيموفس الثلاثة التي وضعها لتنظيم عمل الإنسالات، سارية المفعول، وهي:
- القانون الأول: لا يحق للإنسالة أن تصيب الإنسان أثناء عملها بسوء، أو أن تسبّب له إصابة أثناء توقفها عن العمل.
- القانون الثاني: يجب على الإنسالة أن تنفذ الأوامر التي يأمرها بها الإنسان، اللهم إلا إذا شكلت تلك الأوامر انتهاكًا للقانون الأول.
- القانون الثالث: يجب على الإنسالة أن تحمي وجودها بنفسها بشرط ألا تتعارض هذه الحماية الذاتية لنفسها مع القانون الأول والقانون الثاني.
الكتاب مُهمٌّ للغاية، وقراءته واجبة على كل إنسان، واطلاع فلاسفة الأخلاق والمصلحين الدينيين والاجتماعيين وصناع القرار عليه واجب، لأنه موجه إليهم جميعًا.
-------------------
تفاصيل الكتاب
- الكتاب: "التكنولوجيا والأخلاق والسياسة.. تحديات جديدة".
- المؤلف: مجموعة مؤلفين - المحرر: ديرك كولير.
- الناشر: دار بوليتيا، بلجيكا، باللغة الهولندية، 2019م.
- عدد الصفحات: 178 صفحة.
