طالب الوهيبي
ناقش الكاتب أديب صعب في مقالته "فلسفة الوحدة في التنوع" والمنشور في "مجلة تفاهم" الوحدة والتنوع؛ فقد اهتم بها في بدايته الفلسفية، وحاول تحليلها ومعالجتها وتطبيقها وإبداء رأيه بها من خلال مفهومه التعددي والوحدة الاجتماعية، ودعوته إلى الفصل بين الدين والدولة أو الدين والسياسة، وركز أيضاً على عمل اللاهوتي (لاهوت الوحدة والتنوع).
"لِنَبحَث عن الهويّة الدينية في نقاط الاتفاق لا في نقاط الاختلاف" شعارٌ أُطلقهُ انطلاقاً مما استطاع التوصل إليه بعد صدور كتابه "الأديان الحية" مع خلاصة بعنوان "ما هو الدين: مقارَنة وَصْفيّة"، شعارهُ هذا لا يعني البتة طمس نقاط الاختلاف بل إن نقاط التلاقي بين الأديان هي من الكثرة والجدّية بحيث تشكّل وحدة أو هويّة تَجمع الناس في العمق.
لقد انشغل الكاتب بــفكرة التنوع والوحدة منذ بداية تفكيره الفلسفي، حيث ركز في تأليفه على فلسفة الدين وحول الوحدة والتنوع حاله كحال الفلاسفة كأفلاطون، وحاول تطبيق فكرتَي التنوع والوحدة على النفس البشرية، ثم على المجتمع، وأخيراً على الدين. بالنسبة للنفس، تقع في تجربة كل فرد على تعددية هائلة، تتعاقب فيها تيارات الزمان والمكان والأشخاص والظروف والأحداث؛ لكن ما لم يكن هناك عمليةٌ تنظيمية تضبط هذا التعدّد في وحدات معينة. أما المجتمع بما يخص مفهومَي التنوع والوحدة؛ ففي كل مجتمعٍ أنواعٌ من التنوع أو التعدد؛ مثلاً تنوعٌ في العلم والمستوى التربوي، وتنوع في الطبقات الاجتماعية؛ ولكن لن يزيل عنه البتة سمة التعددية. كما طَرح الكاتب المفهوم الجديد للتعددية وعالجه بأن التعددية بهذا المعنى العددي هي واقع كل مجتمع، وهذا هو المعنى الأصيل والأقوى لمفهوم التعددية الاجتماعية. وفي حال النفس البشرية لا بد من أن يؤدي التعدد المطلق أي ذاك الذي لا توحّده مبادئ معينة إلى فوضى أو تَهافُت في النطاق الاجتماعي.
الكاتب يرى أنه يمكن أن تتحقق الوحدة الاجتماعية وفق نمطين رئيسين، النمط الأول يقوم على اقتطاع عنصر معين من عناصر التعددية الاجتماعية وبناء قاعدة الحكم عليه، وغالباً ما يحصل هذا الاقتطاع على أساس أغلبية معينة؛ ولكن إحدى الأقليات قد تتولى السلطة أحياناً وتَفرض إرادتها على الأكثرية. النمط الآخر من التوحيد هو ذاك الذي تتحقق فيه الوحدة الاجتماعية لا على حساب التنوع أو عبْر طمْس التنوع أو إضعافه، بل وسط التنوع أو ضمن التنوع. إذاً وظيفة الدولة أن تستوعب تعددية المجتمع من غير أن تطمسها، وهكذا النمط التوحيدي يقضي بأن تكون الدولة آلة إدارية لا داعية عقيدة.
يزكي الكاتب هذا النمط من الوحدة الاجتماعية أو من النظام السياسي (الوحدة في التنوع) بهدف بث النظام والانسجام في الجسم الاجتماعي، ولعل من الصعوبة القبض على هذا النوع من الوحدة ومحاولة تحديده وتسميته؛ فهو نوعٌ من وحدة الجوهر أو الروح وسط تنوع المظاهر واختلاف الأسماء، وعندما حاول الفيلسوف البريطاني جون لوك تحديد هذا العنصر، قال:"إن الجوهر شيء غامض يَحمل الأعراض"، والوحدة المنشودة هي الوحدة في التعدد، وهذا أشبه بوحدة الجوهر أو الروح، وإذا كان التوصل إلى هذا النوع من الوحدة أشبه بتحقيق "المدينة الفاضلة". ولابد أن تدور وحدة الجوهر على مفهوم "العروبة"، وهو مفهوم يحتاج دائماً إلى إيضاح، ولزاماً على المفكرين عموماً العمل من أجل إعادة تحديد مفهوم العروبة والمعنى المنشود للعروبة يتجاوز العرقية.
إن نظرة الكاتب القائلة بالوحدة في التعدد على كل الصعد تدعو أيضاً إلى الفصل بين الدين والدولة أو الدين والسياسة، فالدين نظرة شاملة إلى الوجود مبنية على الإيمان، نظرةٌ تتناول كل شيء في حياة الإنسان؛ ولكن إذا كانت المسيحية ديناً ودولة، والإسلام ديناً ودولة، واليهودية ديناً ودولة، وكل دين بمعنى ديناً ودولة؛ فلأيّ دين تحقّ سلطة الحكم في مجتمعٍ ما؟ إنّ الحكم الديني غير مستحَبّ، حتى وإن انتمى المواطنون إلى مذهب واحد؛ ولأن الحكم باسم الله يتولّاه بشَر لهم حدودهم وأهواؤهم ومصالحهم، وكما قال الفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ:"حيثما أُقيمَ الحق على السلطة الإلٰهية، يمكن تبرير أشد الأمُور سوءًا وظلماً"، لذا يؤكد على أنَّ كل مجتمع تحت الشمس تعدديٌّ، شاء أم أبى، في حين هدف الدولة هو إتاحة أفضل الظروف أمام الجميع؛ لكي يحققوا ذواتهم ويتعايشوا بسعادة وسلام. إذا استطاع نظام الحكم الانسجام مع جوهر الدين بعيداً عن التحجر ضمن شكليات نتجت منها ويلات كثيرة خلال التاريخ، ومن ثم خانت قضية الدين؛ فهو إنما يسهم في تحقيق أهداف الدين ضمن نظرة سياسية يمكن وصفُها بـــــ "العلمانية الليّنة" أو "المعتدلة"؛ تمييزاً لها عن "العلمانية القاسية". لا يقف مفهوم التنوع والوحدة لدى الكاتب عند الأفكار الاجتماعية والسياسية؛ بل هو في أساس فلسفته الدينية ونظرته إلى اللاهوت أو علم الكلام، واللاهوت بأنه الدفاع عن دين معين، وهناك نوعان كبيران من الدفاع، سمّاهما الدفاع السجالي والدفاع الإيجابي، في الدفاع الإيجابي؛ يَبْسط المُدافع عقائد دينه من غير المفاضلة بينها وبين عقائد الأديان الأخُرى. أما الدفاع السجالي فمبنيٌّ على أفكار من نوع: "نحن خيرُ الأنام"، ولطالما جَرت هذه الأفكار التي ابتُلِيَ بها الكثير من الفكر اللاهوتي في كل الأديان، وحتى في المذاهب داخل الدين الواحد، خلال قرون طويلة أدت إلى البغض والعداء، وهذا يخون قضية الدين القائمة على السلام، هذا من ناحية "لاهوت التنوع". أما "لاهوت الوحدة" فيجب أن يكون أساساً لكل فكر لاهوتي مختص بهذا الدين أو ذاك؛ إنه الدفاع، وهذا يشير إلى العناصر المشتركة بين الأديان. وتوصل أديب صعب بناءً على دراساته الشخصية في الموضوع إلى التعبير عن العناصر المشتركة التي تجعل من نظام معين ديناً:
- هذا العالم المادي الظاهر لا كيان له ولا قيمة في ذاته ومن ذاته بل يستمد كيانته ومعناه وقيمته من حقيقة روحية مطلقة.
- لو اقتصر الدين على هذا الاعتراف اللفظي النظري لما اختلف عن الفلسفة؛ بل هناك وسائل لوصل المحدود باللامحدود.
- هناك شرط آخر لتقريب المحدود من اللامحدود، هو الأخلاق؛ كل الأديان تضع مبادئ للحياةِ الفاضلة.
- في سَعيِه إلى الكمال، يقتدي المؤمن أوّلاً بمؤسس دينه؛ وفي المسيحية يسوع المسيح، وفي الإسلام النبي محمّد.
- على مستوى أدنى من المؤسسين تأتي طبقة القدّيسين في المصطلح المسيحي، والأولياء في المصطلح الإسلامي، وهؤلاء الجماعة من الأبرار الذين استطاعوا محاكاة المؤسس إلى أبعد حد يصبحون قدوةً.
إن كل دين يعبّر بطريقته الخاصة عن كل من العناصر المشتركة؛ لكن يبقى أن الشبه الوظيفي بين الأديان الذي تختصره هذه العناصر يشير إلى وحدة قوية، هو ما يسمّى بــجوهر الدين، ويمكن أن نسمّي اللاهوت الذي ينشأ حول هذه العناصر المشتركة "لاهوت الوحدة"؛ تمييزاً له عن "لاهوت التنوُع". وجد هنالك ثلاثة نماذج دفاعية، تشكّل ثلاثة أنماط من اللاهوت:
- النمط السجالي يرى أن تحديد الهوية الدينية لجماعة معينة لا يقوم إلا بإقامة التحديات في وجه الأديان.
- النمط الإيجابي يحاول تحديد الهوية الدينية عبْر عرْض مبادئ دينه وتفسيرها وتبريرها بعيداً عن نزعة المفاضلة.
- النمط الفلسفي يذهب إلى أن ثمة شرطاً ضرورياً للدفاع عن أي دين بعينه، هو الدفاع عن المفهوم الديني المحوَري؛ أي عن فكرة الألُوهة أو الحقيقة المطلقة.
ويخلص الكاتب: "إنّ دعوتَنا إلى ما سمّيناه لاهوت وحدة ليست سعياً إلى تأسيس دين مصطنَع، أو إقامة وحدة تعسفية عبْر فرْض أحد الأديان على الناس، وإنْ أمكن هذا الفرض، فهو لن يتحقق إلا بالعنف، ولن يدوم طويلاً؛ إذ سرعان ما سينقسم الدين المفروض عنوةً إلى مذاهب... لاهوت التنوع كما ندعو إليه يتخذ من لاهوت الوحدة أحد مرتكزاته الأساسية، ولاهوت الوحدة كما ندعو إليه ليس لاهوت وحدة تعسفية تقضي على التنوع؛ لكنه لاهوت وحدة في التنوع".
