التداخل بين الدين والعلمانية

ناصر الكندي

في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم" بعنوان "إشكاليات الدين والعلمانية والدولة المعاصرة في ضوء جديد"، يتناول الكاتب رضوان السيد في المقدمة كتاب طلال أسد "تكون العلماني، المسيحية، الإسلام، والحداثة"، الذي يقع في ثلاثة أقسام: أولها يحاول الإجابة عن سؤال: ما العلماني أو ماهية العلماني، ويتابع في القسم الثاني تجربة العلمانية؛ مثل: تحرير الإنسان من خلال حقوق الإنسان والمسلمين بوصفهم أقلية دينية في أوروبا، وينشغل القسم الثالث بعملية العلمنة؛ من خلال إعادة تشكيل القانون والأخلاقيات في مصر إبان الاستعمار.

ويُشير رضون السيد بأنَّ الكاتب طلال أسد يعرض وجهة نظر مختلفة في علائق السياسي بالديني، إذ كان من الصعوبة فصل السياسي عن الديني فصلًا كاملًا رغم الصراعات الكبيرة بين الفريقين، وذكر أنَّ إخفاء هذا الصراع كان أكثر من الجانب الديني على النقيض من الجانب العلماني، الذي كان شديد العلانية والفخار بشأن الانتصارات التي حققها بالنظر إلى أنه روح العصر والحداثة وقيم حقوق الإنسان...وغيرها. ويعد طلال أسد من أوائل علماء الإنثروبولوجيا الذين اهتموا بنقد الخطاب الاستعماري ومن ثم العلمانية في الدول الحديثة، ذلك أنَّ الاستعمار بطبيعته متحيز مع الدول المستعمرة وينكر عليها حق الحياة، كما أنَّه ينتقد الخطاب العلماني حين ينشغل بتتبع الأديان والهويات الثقافية لدى الشعوب واختراقها بالعلمنة، ويقارن بذلك مع المسيحية التي تداخلت تداخلا عميقا مع العلمانية ولكن دون التصريح بذلك.

وتتداخل العلمانية مع المسيحية من خلال ضبط الأخيرة لتصبح جزءا من بنية الدولة وليس بغية "إزالة سحر العالم" المقولة التي أطلقها الفيلسوف كانط، ويرتبط الحديث عن "عودة الدين" بمقولة كانط الفلسفية سالفة الذكر؛ وذلك أنه تتصل في نظره الدوافع العميقة لدى الإنسان للاعتقادات الميتافيزيقية بالعوالم والمجالات التي لا يمكن معرفتها أو السيطرة عليها، وعليه تقوم عمليات العقلنة المعتمدة على التقدم العلمي والمعرفي في تغيير حياة الإنسان، والذي يوشك أن يزحزح الدين باستثناء بعض القيم الأخلاقية المفيدة.

ولعمليات العقلنة ثلاثة جوانب كبرى: جانب إدارة الشأن العام أو الدولة التي عدها الفيلسوف هيجل أعلى مظاهر الروح الإنساني تاريخيًّا، والجانب الثاني هو الظاهرة الرأسمالية التي استمرت ثلاثة قرون. أما الجانب الثالث، فهو ظاهرة التنوير فيما بين القرن السادس عشر والتاسع عشر واقترانها بعمليات استكشاف العالم بالثورات العلمية والفكرية والوضعية التحررية. ويرى الراديكاليون أنَّ التنوير حل محل الدين، بينما مال غير الراديكاليين إلى أن القيم الأخلاقية دينية نسبيا وإنسانية أيضا.

من الممكن عد العلمانية شكلًا من أشكال الدين حين يحل محله في العديد من المجالات، ورغم أنَّ البروتستانتية تعد نوعا من العلمنة لاهتمامها بعالم السماء دون الدنيا، إلا أنها عادت إلى الأرض بأشكال أخرى قوية ومتشددة مثل الكاثوليكية؛ مما دفع إلى تأمل عودة الدين من ثلاث جهات: تغلغل أفكار دينية وممارسات في قلب العلمنة، وخروج الفلاسفة على التفسير السحري والوضعاني، والثالث التأثير في المبادئ الإنسانية التي تطورت من القرن التاسع عشر إلى ميثاق حقوق الإنسان وإعلانه في القرن العشرين. وقد كان للبروتستانتية تأثير كبير على الرأسمالية مثلما أشار إلى ذلك عالم الاجتماع ماكس فيبر؛ وذلك لتشجيعها على مراكمة رأس المال، وحل محل الكنيسة العمل الدؤوب بدلا من التقشف.

وفي عشرينيات القرن العشرين، وعندما كانت المؤسسات الدينية تبدو في أضعف حالاتها في أوروبا بالذات، بدأ توجه آخر في فلسفة الدين مناقض للتوجه الذي يعد الدين سحرا للعالم ينبغي كسره وفض مغاليقه والخروج منه وعليه، وأوضح المفكر اللاهوتي الألماني أوتو في كتابه "المقدس" أن السبب في اتباع الأخلاق ليس الجانب الترهيبي أو الخوف والسحر، بل للفوائد المعنوية والرضا والإلفة والمودة والصدق، وكذلك رغبة التمدن وإنسانية الإنسان والعيش بسلام. ولَإِن كان هوبز يستعين بالدولة كعنف مباشر لكف الناس عن إيذاء بعضهم، إلا أنَّ الدين هذّب الأحاسيس وشكل ما يسمى بالضمير.

ورغم أنَّ المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان مثل الأخوة والسلام والمساواة والتضامن والتعاون وأخلاق الحوار هي أيضا معروفة في الأديان؛ فإنَّ ذلك لم يتم الإشارة إليه في المواثيق؛ ربما لأنه كان من بين الموقعين جهات تعادي الدين أو للخوف من الاختلافات بين الأديان. وقد سبق التنوير تقليدان في مسألة السلطة: تقليد أفلاطون في الجمهورية وتقليد أرسطو في السياسات، ولقد مال رجال الكنيسة المحافظون إلى أفلاطون حتى يتمسكوا نوعا ما بسلطة الكنيسة، أما المتحررون فقد فضلوا أرسطو لأنه أميل للقانون الطبيعي، ويعطي دورا مؤثرا للجمهور رغم أن أرسطو نفسه كان ضد الديمقراطية.

وهناك ظروف لتفضيل النظام الجمهوري؛ مثل: إخراج الكنيسة من السلطة كونها سببا في الكثير من الحروب الدينية واستبدالها بالعقد الاجتماعي، وظهرت فئتان بشأن هذا العقد: الأول الذي يود الاحتفاظ بالمؤسسة الملكية مع تعديلات اجتماعية، والآخر جذري يريد إلغاء المؤسسات القديمة كليا مثل الملكية والكنيسة واستبدالها بأنظمة شعبية جمهورية، ومرت العلمانية بأربعة تطورات مهمة: الفصل التدريجي بين الدين والدولة، وظهور فكرة العقد الاجتماعي والملكيات الدستورية والاستبدادية، وتبلور نوعين من التنوير، الراديكالي والمعتدل، وظهور فكرة الدولة القومية.

... إنَّ النظام العالمي الذي لا يزال سائدا إلى الآن هو النظام الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية، ويمثله ميثاق الأمم المتحدة 1945 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، والإعلانات والمواثيق الأخرى التي ظلت تصدر حتى التسعينيات من القرن الماضي. إلا أن هناك هزات أفضت إلى مراجعات كبرى مثل: سقوط الاتحاد السوفيتي 1990 وغزو القاعدة لأمريكا 2001، والتجربة الجديدة لأمريكا في الهيمنة بعد سقوط السوفييت 1990-2007، وجائحة كورونا في 2020. وقد قام الكاتب تشارلز تايلور في كتابه "عصر علماني" 2007 بكشف ملامح العصر الجديد والحديث عن عودة الدين، وقد جاء كتابه بعد عقد من كتاب طلال أسد "تشكلات العلماني"، والفرق بينهما هو الفرق بين الإنثروبولوجي والمفكر وفيلسوف الدين؛ فطلال مثلا متشائم من تجربة العلمانية، أما تايلور فيرى أن الأمر حسم وانقضى والمطلوب الإفادة من التنظيمات والممارسات التي أحدثها العلماني، خاصة وأنَّ مفكري ما بعد الحداثة ينتقدون التنوير والحداثة ويعيدون تأويل النصوص الدينية للتقارب.

إنَّ تأثيم العلمانية لن يغير من حقيقة أن العالم كله تعلمن وتحدث وفقا للنظام الغربي، رغم الدراسات الاستشراقية ونقد التنوير والعلمانية داخل أوروبا وخارجها من المفكرين اللاتينيين أو العرب أو الهنود، والصين تعد مثالا على نجاحها في التقليد الغربي مع الاحتفاظ بكينونتها، والإشكالية أنَّ هناك طوائف هندوسية وإسلامية مثلا تنتقد العلمانية وتريد فرض منطقها الديني الخاص على الدولة، وهذا ما يدخل الدول إلى نفق مظلم.

أخبار ذات صلة