جون سي. لينكس
عبدالله بن محمد المحروقي
في الوقت الذي يسيطر فيه التيار المادي على المشهد العلمي، ويتم فيه إقصاء كل النظريات والفرضيات التي تشير من بعيد أو من قريب إلى وجود الخالق، برز عالم وفيلسوف بريطاني يدعى "جون سي. لينكس John C. Lennox"، كعالم مدافع عن الإيمان بوجود الخالق بشكل عام، ومدافع عن العقيدة النصرانية بشكل خاص. ولد جون لينكس في إيرلندا الشمالية في عام 1943م، لأبوين نصرانيين. حصل لينكس على دكتوراه الفلسفة في الرياضيات من جامعة كامبريدج عام 1970م، وعمل كبروفيسور للرياضيات في جامعة أكسفورد. وفي عام 2019م، صدر كتاب للبروفيسور لينكس بعنوان: "هل يستطيع العلم أن يفسر كل شيء؟ -Can Science Explain Everything?"، ناقش فيه النظرة المادية القائلة بأن العلوم الطبيعية هي المصدر الأوحد للمعرفة، أو ما بات يعرف بـ "العلموية -Scientism". اشتهر بمناظراته لعدد من العلماء المُلحدين، بما فيهم الملاحدة الجدد: ريتشارد دوكنز وكريستوفر هتشنز. كما اشتهر بقوة بيانه للحجج المنطقية والفلسفية.
نشأة جون لينكس
تحدَّث البروفيسور لينكس في بداية الكتاب عن نشأته في إيرلندا الشمالية، التي عرفت بالصراعات الطائفية بين البروتستانت والكاثوليك، وذكر أنَّ والديه لم يكونا طائفيين، وسمحا له -بخلاف الشائع في إيرلندا الشمالية- بالتفكير والاطلاع على وجهات النَّظر المختلفة. وقد انعكس ذلك عليه؛ فأصبح متسامحاً مع مخالفيه من أصحاب وجهات النظر الأخرى. كما أنه كان على قدر كبير من التفهم للأسباب التي جعلت مخالفيه يتبنون أفكارًا مختلفة عن أفكاره وعقيدته النصرانية.
العلموية
العلموية هي الادعاء القائل بأنَّ العلوم التجريبية هي الطريق الأوحد لمعرفة الحقيقة. وحسب جون لينكس، فإنَّ العلموية تختزل الوجود في الكيمياء والفيزياء. وهي اتجاه يتبناه الكثير من العلماء الماديين أمثال بول ديفس، وستيفن هوكينج. يرى المؤلف أن نتائج العلم التجريبي ليست يقينية، بل هي نتائج محتملة للخطأ. وإن كان العلم التجريبي هو المصدر الوحيد للمعرفة، فعلينا أن نغلق أقسام الاقتصاد والتاريخ والفنون في جميع المدارس والجامعات؛ إذ إن هذه العلوم الأخيرة لا تعد علوماً تجريبية.
يرى المؤلف أن التفسير العلمي ليس هو التفسير المنطقي الوحيد للحوادث، على سبيل المثال: لو سألك شخص عن سبب غليان الماء، فيمكنك أن تجيبه بأن الماء يغلي بفعل الطاقة الحرارية الناجمة عن لهب غاز الطبخ أو أن تقول له ببساطة إن الماء يغلي لأنك اشتهيت كأساً من الشاي. يطلق أرسطو على التفسير الأول مصطلح السبب المادي، والتفسير الثاني مصطلح السبب النهائي، وكلاهما منطقيان.
هل بإمكانك أن تكون عالما وفي الوقت نفسه مؤمنا بوجود الخالق؟
تطرق المؤلف إلى السؤال الشائع في المجتمع الغربي، السؤال الذي يفترض أن هناك تناقضا وصراعا بين العلم والإيمان: هل يمكنك أن تكون عالماً وتكون مؤمناً بوجود الخالق؟ وفي إجابته عن هذا السؤال ذكر قصته إبان دراسته في جامعة كامبريدج، حيث كان مع مجموعة من زملائه حول مائدة العشاء ومعهم عالم كبير من الحائزين لجائزة نوبل. أراد لينكس أن يستفيد من وجود ذلك العالم الكبير معهم في هذه المُناسبة، فطرح عليه السؤال التالي: كيف أثَّر العلم في نظرتك للعالم؟ كان لينكس يُريد من سؤاله أن يعلم إن كان الرجل العالم قد توصل إلى معرفة الخالق عن طريق العلم، ولكنه لم يصرح بهذا الغرض. فهم العالم السؤال والغرض منه لكن بدا عليه أنه لم يكن مسرورا بالسؤال؛ فلم يجب عنه. وبعد انتهائهم من الوجبة، دعاه ذلك العالم هو وبعض زملائه فسأله: هل تريد منصبًا علمياً يا لينكس؟ فأجاب لينكس: نعم. قال له العالم: إذاً عليك أن تتخلى عن هذا الإيمان الطفولي بالخالق، وإذا لم تفعل فإنَّ ذلك سيُعرقل قدراتك الفكرية، وسوف يتفوق عليك زملاؤك، وحينها لن تحصل على منصب علمي. انصدم لينكس بالإجابة وجلس في كرسيه مشلولاً دون حراك. تفكَّر لينكس في هذا الموقف، وتساءل: ماذا لو كان الموقف معكوسًا، وكنت أنا المُلحد والمجموعة التي حولي (البروفيسور والطلاب) من النصارى، يحاولون أن يقنعونني بأن أن تراجع عن الإلحاد؟ إذاً لانتشر صدى ذلك في كل أرجاء الجامعة ولانتهى الأمر بإجراءات تأديبية للبروفيسور ومن معه من الطلاب! إنه الجانب المظلم في الأكاديمية حسب وصف لينكس. ثم استمر في إجابته عن السؤال الذي طرحه سابقا: هل بالإمكان أن تكون عالما وتكون مؤمنا في نفس الوقت؟
يجيب لينكس بإحصائية مفادها أن 60% من الحاصلين على جائزة نوبل من عام 1901م إلى 2000م هم من النصارى. فلو كان لا يُمكن أن يجتمع العلم مع الإيمان لما حصل هذا العدد من النصارى على جائزة نوبل. وذكر أن رواد العلم الحديث من أمثال: جاليليو، وكبلر، وباسكال، ونيوتن وماكسويل كانوا جميعاً مؤمنين مقتنعين بوجود الخالق. بل إن الإيمان بوجود خالق كان من المحركات التي جعلت الناس يتجهون للعلم ودراسة الطبيعة حسب بعض مؤرخي العلوم مثل بيتر هاريسون. واقتبس المؤلف عبارة لسي. أس. لويس: إن الناس اتجهوا للعلم ودراسة الكون لأنهم افترضوا بأن هناك قوانين في الطبيعة، وبما أن هناك قوانين في الطبيعة فلابد من وجود خالق سنَّ هذه القوانين. وقال جاليليو: "إن قوانين الطبيعة كتبت بيد الله بلغة الرياضيات".
الفرق بين العلماء المؤمنين والعلماء الملحدين
ويتضح من السابق، أن الله في نظر هؤلاء العلماء المؤمنين هو خالق قوانين الطبيعة، وليس هو آلهة الإغريق أو إله الفجوات الذي تُفَسَّر به كل ظاهرة لا يُعلم ما هو سببها. واختلاف النظرة إلى الله وإلى الكون هو أحد أسباب الافتراق بين العلماء المؤمنين والعلماء الملحدين كما يقرر ذلك البروفيسور لينكس. فعلى سبيل المثال: السير إسحاق نيوتن والفيزيائي الشهير ستيفن هوكينج كلاهما درس قانون الجاذبية، ولكن قانون الجاذبية بالنسبة لهوكينج كان سبباً في عدم إيمانه بالخالق، بينما كان قانون الجاذبية دليلاً على ذكاء الخالق حسب نيوتن. قد يعتقد البعض أن التطور في العلم بين الزمن الذي عاش فيه نيوتن والزمن الذي عاش فيه هوكينج -والذي يقدر بـ 300 عام-، هو سبب عدم إيمان هوكينج. يبين البروفيسور لينكس أن هذا الاعتقاد ليس صحيحا؛ فقانون الجاذبية يصف لنا كيف تعمل الجاذبية ولا يخلق الجاذبية ولا يخبرنا عن ماهيتها. وكذلك هي كل قوانين الطبيعة؛ قصارى ما تفعل هو أن تصف وتتوقع ما يجري وما سوف يجري في الكون، ولا تخلق الكون بمفردها. بالنسبة لآينشتاين، إن مقدرتنا على وضع قوانين الطبيعة في قوالب رياضية يشير إلى أنَّ هناك روحا وراء الكون لها وجود قبل وجود الإنسان.
ولكن لماذا لم يتوصل هوكينج لمعرفة الخالق عن طريق قانون الجاذبية؟
وضَّح البروفيسور لينكس المغالطة والتناقض اللذين وقع فيهما ستيفن هوكينج في عبارته في كتابه التصميم العظيم: "طالما أنه يوجد قانون كقانون الجاذبية، فإن الكون يستطيع وسيقوم بخَلْق نفسه من لا شيء!"
تبدو العبارة وكأنها عبارة علمية، وقائلها عالم كبير، ولكن العبارة ليست علمية، بل إنها ليست منطقية أصلاً. وتتضمن المغالطات التالية:
المغالطة الأولى: التناقض الذاتي
يعيد لينكس صياغة عبارة هوكينج على هذا النحو: طالما أنه يوجد قانون كقانون الجاذبية (وهو شيء)، فإنَّ الكون يستطيع وسيقوم بخلق نفسه من لا شيء! فقانون الجاذبية شيء، فكيف إذا سيخلق الكون نفسه من لا شيء مع أن قانون الجاذبية يعتبر شيئاً سابقاً على الوجود؟! وهذا تناقض صريح.
المغالطة الثانية: القوانين لا تخلق
يقول القانون الحسابي بأنه إن أضفت الرقم 1 إلى الرقم 1 فإن المجموع يساوي 2، هل وجود هذا القانون كفيل بخلق دولارين في جيب من يتفوه به؟ بالطبع لا؛ فالقوانين كما تقدم واصفة للحال، ولا تخلق حالا من عدم. وعند الحديث عن كيفية عمل محرك السيارة، بالإمكان أن نتحدث عن عملية الاحتراق الداخلي وكذلك بإمكاننا أن نتحدث عن هنري فورد. كل من التفسيرين مكمل للآخر ولا يلغي أحدهما الآخر؛ فكون المحرك يعمل بطريقة الاحتراق الداخلي لا يلغي حقيقة أن هنري فورد هو من اخترع محرك السيارة. وكذلك بالنسبة للكون، فإنَّ وجود قوانين طبيعية لا يلغي وجود الله. فكما تقدم هناك سبب مادي وسبب نهائي حسب اصطلاح أرسطو. ثم يختم لينكس هذه الفكرة بتعليق طريف: "لو كان أرسطو حيَّا لاستغرب من عدم مقدرة البعض على التفريق بين الأمرين".
خلاصة القول: إنَّ الكتاب الذي بين أيدينا يحاول صد موجة تأليه العلم، وذلك بأسلوب سلس وحجج مقنعة. يرى المؤلف بطلان العلموية، وأن العلم التجريبي ليس بمقدوره تفسير كل شيء. كما أن التفسير العلمي قد لا يكون التفسير الوحيد للظواهر. كما أنه كتاب يبشر بالنصرانية؛ فقد تعرض في أكثر من فصلين للعقيدة النصرانية، وكونها قابلة للاختبار، وأن التصور الذي تحمله عن الكون هو الذي مهَّد الطريق للعلوم. وقد خرج عن المألوف في تبرير وجود الشرور والألم في حياة البشر، بأن زعم أن الإله -حسب عقيدته- شاركنا الألم حينما صُلب تضحية بنفسه من أجل تكفير خطايا البشر. وتهافت هذا التفسير واضح وضوح الشمس، لأنَّ إلهاً يصلبه الناس ويغلب على أمره ليس إلها كاملا، وهذا ما يتنافى مع ما يجب أن يتصف به واجب الوجود من القدرة المطلقة والقوة القاهرة.
ولخص المؤلف أسباب إلحاد العلماء في التصور الخاطئ عن الإله كتفسير غير مادي للظواهر الطبيعية غير المفسرة، وكذلك بسبب النظرة العلموية التي تختزل المعرفة في التجربة، ولا تعترف بالأدلة العقلية والأدلة التاريخية كمصادر للمعرفة وتفسيرات لمظاهر التصميم والإعجاز في الكون. ولقد أجاد المؤلف في جداله عن كون القوانين الطبيعية ليس في مقدورها خلق الكون من عدم، وقصارى ما تملك هو وصف الظواهر الطبيعية والتنبؤ بالظواهر الطبيعية. ومقارنة كتابه هذا بالكتب التي تبحث في الموضوعات المشابهة تنبئنا عن قدرة فذة للكاتب في تبسيط الحجج، وتقديمها بشكل واضح بعيد عن الغموض.
وأخيرا، قد يتبادر إلى الذهن عند قراءة عنوان الكتاب أن المؤلف سيطيل في كتابه بذكر أمثلة على ظواهر لا يستطيع العلم التجريبي أن يقدم تفسيرا لها. إلا أن الموضوع الأبرز في الكتاب هو تصحيح النظرة إلى الإله وبيان انحياز كثير من العلماء للنظرة المادية للكون.
اسم الكتاب باللغة الإنجليزية: Can Science Explain Every Thing?
اسم المؤلف: جون سي. لينكس John C. Lennox
عدد الصفحات: 128 صفحة
سنة النشر: 2019م
الناشر: The Good Book Company
