روح الثقة: قراءة في فينومينولوجيا الروح لهيغل

Picture1.png

روبرت براندوم
علي الرواحي

صدر هذا العمل بعد انتظار طويل دام لقرابة 40 عاما؛ فمنذ العام 1980م كان روبرات براندوم، بالرغم من الأعمال المختلفة التي أصدرها منذ تلك الفترة، وربما أهمها Making It Explicit "جعلها صريحة" في عام 1994م، يتحدث عن خطاطات هذا العمل في محاضراته، وندواته المختلفة سواء  على المستوى الأكاديمي في جامعة بتسبيرج Pittsburgh  في الولايات المتحدة الأمريكية، أو عند إقامة سلسلة من المحاضرات المختلفة في جامعات أخرى.

يتكون هذا العمل من مقدمة قصيرة، وثلاثة فصول، يحتوي كل فصل منها على عددٍ كبير من العناوين الفرعية، حيث نُشر بعضها على فترات ٍ متفاوتة باللغة الألمانية في عام 2015م، مما أكسب العمل شهرة عالمية، واحتفاء ً واسعا ً حتى قبل صدروه، ليس على الجانب التحليلي فقط، بل ضمن الجانب القاري أيضاً، الذي ظل لفترة طويلة يناقش الكثير من القضايا والمواضيع ضمن مراجعه، ومناطقه الخاصة به.

تكمن أهمية هذا العمل ليس فقط في أنه يناقش العمل المركزي في الفلسفة المثالية الألمانية، فينومينولوجيا الروح لهيغل، بل كيفية مناقشته، وطريقة الحوار معه، والأدوات الجديدة، وغير المسبوقة المسُتخدمة في جوانب هذا الحوار الفلسفي الرفيع. عمد براندوم في هذا العمل، كما يقول في أكثر من مناسبة، لبث حياة جديدة في الفلسفة التحليلية، البراجماتية، وفي نفس الوقت المثالية الألمانية، وذلك عن طريق تطعيم كل واحدة منها بعناصر الفلسفة الأخرى، بالعودة إلى المصادر الأساسية لكل تيار: كانط، هيغل، هايدغر، من جهة، وفتنغشتاين، برتراند رسل، مور، رورتي، جون ماكدويل، وغيرهم من الجهة الأخرى. لذلك يتطلب الغوص في هذا العمل المعرفة الجيدة، والفهم العميق بأعمال ومراجع التيارين السابقين، بشكل ٍ تفصيلي إلى حد ٍ ما.

كما يتطرق في المقدمة بشكل ٍ مُفصل، وثري، إلى تأثير كانط الكبير على هيغل، من الجانب المعياري، وأهميته، حيث أن الفهم الكانطي للحُكم والقصدية، كان عاملا ً أساسيا ً في تطوير مفاهيم صاحب فينومينولوجيا الروح، مثل سلطة المواضيع الخطابية التي تتأسس عن طريق الإلتزام بكيفية قول الأشياء، والقيام بها.

الفكرة الأساسية في هذا العمل هي أن أفكار براندوم كانت تتطور منذ عقود. حيث صاغها بشكل أكثر تفصيلاً في كتابه الصادر عام 1994 بعنوان "جعلها صريحة"؛ فالمعنى اللغوي بالإضافة إلى الحقيقة والخطأ هي في الأساس مسألة معيارية. ذلك أن نظريته الدلالية تكمن في لغة الالتزام والنهي والسلطة والمسؤولية، فهو يقول بشكل ٍ متميز ما يلي: "يُحسب الحكم على أنه يعبر عن بعض الأشياء التي تم تمثيلها"، و كما يقول في صياغة مشابهة، "بقدر ما يكون مسؤولاً عن هذا الموضوع، وعن صلاحيته، يمارس هذا الكائن سلطة أو يعمل كمعيار لتقييم صحته".

هذا العمل يُركز إلى حد ٍ كبير على الجانب المعياري وعلاقته بالصح والخطأ من جانب، والمعنى من الجانب الآخر. كما يعالج أيضا ً التمثيلRepresentation ؛ ذلك أن تمثيل شيء معين بطريقة معينة، أو تقديم ادعاء معين بشأنه، يحمل في طياته سلسلة من الآثار المنطقية. فعند الإشارة إلى أن السماء زرقاء في يوم مشمس، لا يمثل المرء فقط حقيقة منفصلة عن نطق معين، ولكنه أيضا ً يلزم نفسه بعلاقة كاملة من العلاقات المنطقية التي تعبر عنها الجملة أو تتضمنها ضمنيا ً. سواء كنت تدرك ذلك تمامًا أم لا، فالشخص ملتزم أيضا ً بالادعاء بأن السماء ليست مخططة أو ليست رسما ً بيانيا ً، كما أن الشخص ملتزم بالادعاء بأن السماء هي نوع من الأشياء التي يمكن تلوينها (على عكس العدالة، على سبيل المثال). سننظر إلى الشخص الذي يعتقد أن السماء زرقاء ولكنها ليست ملونة على أنه غير عقلاني بشكل واضح، وكذلك إلى الشخص الذي يتجاهل باستمرار الالتزامات التي تنطوي عليها تأكيداته أو أقواله بأنه مريض عقليا ً أو ليس متحدثًا كفؤا ً للغة. فإذا كنت تدعي أن السماء زرقاء وليست ذات ألوان مختلفة، فأنت لا تقول شيئًا خاطئًا فحسب - إنك تُظهر أنه ليس لديك المفاهيم ذات الصلة ("الأزرق" و "الملون") على الإطلاق. على الأقل، أنت تنتهك التزاماتك المنطقية. حيث أصبحت قدرة أي شخص على قصد أي شيء ممكنة من خلال الممارسات الاجتماعية التي تُلزم الناس بمثل هذه القواعد العقلانية المتعلقة بالاستدلال وعدم التوافق. هذا النهج، كما يوضحه براندوم، مدين بالكثير للمسار الكانطي، وبشكل ٍ خاص لفتنغشتاين.

بالنسبة لبراندوم، مسألة ما إذا كانت جملة معينة صحيحة، لا يمكن فصلها عن المعايير العقلانية حول ما يمكن قوله أو تصديقه. يتناقض هذا التفسير للواجب، كما يقول براندوم، مع الكثير من التقاليد الفلسفية الغربية السابقة لهيغل (ديكارت ولوك، على سبيل المثال)، والتي غالبًا ما كانت تعتبر تأكيدا ً كنوع من الصورة، ويُزعم أن تقييمها لبلوغ الحقيقة من خلال ما إذا كانت الصورة تتطابق مع حقيقة واقعية في علاقة مباشرة.

من الواضح في هذا السياق، أن براندوم يذهب إلى نظرية تماسك الحقيقة، أو حتى إلى نوع من المثالية اللغوية والنسبية التي غالبا ً ما ترتبط بالفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي. يهتم براندوم بالرد على مثل هذه الانتقادات، ولا يصل لحد رفضها. حيث يؤكد على التشابه الضروري بين ما هي الأشياء في نفسها وما هي حاضرة للوعي؛ كما يرى أن الكون نفسه منظم من الناحية المفاهيمية، أو على الأقل أننا لا نستطيع فهمه على أنه غير موجود، في العالم المادي، وليس فقط في العقل، إذ لا شيء يمكن أن يكون أزرق بالكامل ومخطط بشكل بياني بالكامل أيضاً. في الجانب الآخر المتصل بهذا السياق، يعتبر موقف براندوم بشأن علاقة الذكاء البشري بالعالم الحقيقي أمرا ً معقدا ً ولا يمكن التقاطه بالكامل في هذا الفضاء، ونادرا ًما يهتم أي فيلسوف معاصر بهذا الموضوع بهذا الشكل الكبير.

هذه أيضا ًواحدة فقط من عشرات الأطروحات الأساسية المتداخلة التي تم طرحها واستكشافها بعناية في هذا العمل، كما يطور براندوم مواقف أصلية بشكل أساسي مع التداعيات المختلفة على كل شيء من نظرية السرد إلى مشكلة الإرادة الحرة إلى طبيعة الدولة السياسية. فهو ينسب هذه المواقف والأفكار عمومًا إلى هيغل، كما يستعيد طبيعة "الديالكتيك التاريخي" من كتاب فينومينولوجيا الروح، على سبيل المثال - ويجمعها في نظام متماسك بشكل ٍ كبير.

واحدة من أكثر الأفكار الأساسية التي استخلصها براندوم من هيغل هي أننا لا نستطيع، في الوقت الحالي، أن نعرف بالضبط ما نعنيه، تماما ً كما لم يكن من الممكن أن يعرف الأشخاص العطشى في العصور السحيقة، برغبتهم لبعض الماء، أنهم أرادوا في نفس الوقت المركب الكيميائي H2O. عندما يتم توضيح المفاهيم بمرور الوقت، نصل إلى رؤية المزيد حول ما نعنيه بالفعل. وهذا يستلزم أن المعاني لا يمكن أن تنشأ بالكامل إلا بأثر رجعي. وذلك كما هو واضح في صياغة هيغل الشهيرة "تحلق بومة مينيرفا بجناحيها فقط مع حلول الظلام"، يمكننا أن نعرف ما هو الشيء أو محتوى المفهوم فقط عندما يتم الانتهاء من هذا العنصر أو المفهوم بحكم كونه مطورًا بالكامل أو صريحاً. إن التاريخ التدريجي الذي نعرف من خلاله ما نعنيه ومن ثم نقترب من الحقيقة مبنيّ بشكل ٍ أساسي وهيكلي على مفاهيمنا منذ البداية.

تعتبر الكثير من أفكار براندوم مستمدة أو متوافقة بشكل ٍ كبير من الفيلسوف الأمريكي ريشتارد رورتي، غير أن نظرية براندوم عن المعنى والحقيقة (ومن ثم) العقل والواقع لغوية بشكل ٍ كبير، وعلى الرغم من أنه يحاول التخلص من هذا التناص بعدة طرق - بشكل أكثر شمولاً مما فعل رورتي على الإطلاق - لا يبدو أن لها مكانة مبدئية للواقع خارج اللغة. في الواقع، فإن فكرة "الواقع خارج اللغة" تظهر فقط كافتراضات مسبقة لممارسات لغوية معينة، وليس كاعتراف صريح بأننا كائنات حية تعيش في بيئة مادية: "ففكرة وجود طريقة لتكوّن الأشياء بشكل محدد، في حد ذاتها - أي بشكل مستقل عما هي عليه بالنسبة لنا يعتبر عنصرا بنيويا أساسيا لمفهوم الوعي النظري والعملي. كما أنه ليس هناك بالضبط، أو ليس على الإطلاق، نفس التأكيد على وجود عالم مستقل بالفعل عن طرق تفكيرنا به.

من جانب ٍ آخر، يصر براندوم على ما يسميه "الاستدلال المادي" أي بمعنى آخر، تحديد "الشروط المتعالية لإمكانية وجود معايير مفاهيمية محددة المضمون" (ص 532)، حيث يبدأ من "الجانب غير النفسي للمفهوم" (ص 50). فهو يفكر بشكل ٍ مستمر في المفاهيم التجريبية وليس المنطقية فقط، حيث ترتبط هذه الأخيرة أيضا ً ارتباطًا استنتاجيًا، لكن المفاهيم التجريبية تقف في علاقات الاستدلال المادي، لأن محتوياتها التجريبية تكتسب الحتمية من خلال استبعاد المحتويات الأخرى وإدراجها. من وجهة نظر براندوم، هذا ما يعنيه هيغل بقوله أن المفاهيم مرتبطة بـ "النفي المحدد" و "الوساطة".

ومع ذلك، فإن براندوم مهتم ليس فقط بالعلاقة بين المضامين المفاهيمية الموضوعية والذاتية، ولكن أيضا ً بالعلاقة بين السمات المعيارية المختلفة لموضوعات المعرفة (والتمثيل)؛ حيث يميز بشكل ٍ خاص بين "المواقف" المعيارية (القيام بشيء ما) و "الأوضاع" المعيارية (الوجود أو امتلاك شيء ما). وتشمل الأخيرة الالتزام أو "المسؤولية" بمفهوم أو معيار؛ فالأول يتضمن إسناد مثل هذه الأوضاع للآخرين أو الاعتراف بها في نفس الوقت (ص 709). كما أن ادعاء براندوم "البراغماتي" الذي يذهب إلى أن الأوضاع المعيارية ليست مجرد أشياء يتبين أننا نمتلكها، ولكنها نشأت أو "تم تأسيسها" من خلال مواقفنا وممارساتنا المعيارية. لذلك نحن لسنا مسؤولين، لكننا سنصبح مسؤولين من خلال اعتبار أنفسنا والآخرين كذلك. وبالرغم من ذلك، بمجرد أن يتم تأسيسها، فإن الأوضاع المعيارية (والمعايير التي يتم توجيهها أيضا ً) تربطنا وتتطلب منا القيام بأشياء معينة: إصدار هذه الأحكام أو تنفيذ هذه الإجراءات. وبالتالي، يتمثل نشاطنا المعياري في إخضاع أنفسنا لسلطة المعايير التي نخلقها بأنفسنا.

يضيف براندوم أن العلاقات المعيارية بين "الممثلين والمواضيع التي يتم تمثيلها" – أي الأشياء المعروفة ومعرفتها - هي "حالة خاصة خاضعة لسلطة الأوضاع المعيارية على المواقف.وبالتالي، فإن الادعاء بمعرفة شيء ما هو إسناد مكانة معينة لأنفسنا - حالة الالتزام بما نعرفه. ومع ذلك، فإن هذا الوضع، مثله مثل جميع الأوضاع الأخرى، يتم تأسيسه من خلال مواقفنا المعيارية. فالمعرفة إذن ليست مجرد إيجاد أنفسنا، بل هي اعتبار أنفسنا مقيدين بالواقع، وفي الواقع اعتباره بطريقة معينة. في الجانب الآخر، فالمفاهيم التجريبية التي نحكم على أنها موضوعية تمت صياغتها ردا ًعلى "تقارير المراقبة غير التفاضلية"- لما نتصور - لكنها ليست مجرد قراءتها من العالم، ذلك أنه يتم تأسيسها من خلال مواقفنا وممارساتنا.
ولكن كيف يمكننا الالتزام بالمعايير والأوضاع المعيارية التي نؤسسها بأنفسنا؟ يدعي براندوم أن هذا أصبح ممكنًا من خلال "التقسيم الاجتماعي للعمل". وهذا يعود، بحسب المثال الذي يذكره براندوم، حول التساؤل ما إذا كانت العملة مصنوعة من النحاس؛ ولكن إذا تأكدت من ذلك، فإن ما ألتزم به، لا يتوافق معه وما هي عواقبه، بل يتم إدارته من قبل أولئك الذين منحتهم هذه السلطة من خلال الاعتراف بهم كخبراء في علم المعادن. وهكذا يتم وضع القواعد كمعايير ملزمة في العمليات الاجتماعية - العمليات التي تنطوي على ادعاءات من قبل البعض وتقييم تلك المطالبات من قبل الآخرين، وكذلك الاعتراف المتبادل بين الأفراد المعنيين.

في الجانب الآخر، فالمطلوب هنا معرفة الطريقة التي إذا أردنا بها إنشاء معايير ملزمة حقاً، والممكن اعتبارها وسيلة للدفاع عن أولئك الذين نؤيدهم الآن، لاعتبارهم موضوعيين. حيث يتم القيام بذلك، كما يرى براندوم، من خلال "إعادة بناء" التجربة الاجتماعية بأثر رجعي، تلك التي أدت إلى تأييدنا الحالي لقاعدة معينة، أو لمعيار معين.وعلى وجه التحديد، يتعين علينا إعادة بناء العملية السابقة لوضع معايير جديدة - من خلال تجربة الخطأ و "إصلاحه"، حيث أصبح المعيار الذي نؤيده الآن أكثر وضوحا ً بشكل تدريجي وبالتالي تم وضعه. وهذا بدوره يتطلب منا أن نعتبر أن هذا المعيار يحكم ضمنيا ً إدراكنا "بشكل ٍ مستمر"، وبهذا المعنى يمكن أن يكون "موضوعيًا". كما نلاحظ أن إعادة البناء هذه التي تقوم على طريق الذاكرة للتجربة لا تتيح لنا الوصول المباشر إلى "الحقيقة". إنها، بالأحرى، تساعدنا على معرفة كيف نفهم أنفسنا الآن لنعرف شيئا ً ما أنه موضوعي: لأننا نعتبر معيارنا المقبول حاليًا موضوعيًا من خلال اعتبار أنه قد تم التوصل إليه عن طريق عملية وضع معايير جديدة. ومن خلال هذا التذكر، بالتالي، نبرر لأنفسنا الواقعية المفاهيمية المتوفرة لدينا؛ والفرضية القائلة بأن هذا الأخير يتطلب الأول هو ما يسميه براندوم "المثالية المفاهيمية" (ص 369). مثل المثالية الموضوعية، لا تدعي المثالية المفاهيمية أن العالم موجود فقط بقدر ما نقوم بفعل شيء ما. بل فقط عن طريق القيام بشيء ما - إعادة بناء تجربتنا بشكل استرجاعي على أنها مستقبلية - إذا أردنا أن نأخذ أنفسنا لمعرفة العالم. وبالتالي فإن المثالية المفاهيمية ليست ما يسميه هيغل مثالية "ذاتية"، بل هي بالأحرى أطروحة براغماتية حول الإدراك، كما يذهب براندوم لذلك ضمنيا ً.

ختاما ً، يحتمل هذا العمل الكثير من القراءات المتباينة، وربما المتعارضة، غير أن الأكيد أنه يوضع حسب رأي الكثير من المشتغلين بالحقل الفلسفي بشكل ٍ عام، ضمن كتب أو أعمال فلسفية مؤثرة، وتاريخية مثل أعمال سبينوزا، هيوم، كانط وغيره من الفلاسفة، الذين ساهموا في دفع التفكير، والحركة الفلسفية لمناطق غير مأهولة، ومواضيع تبدو عسيرة على الكثيرين  خارج هذا المجال.

------------------------------------------------

الكتاب : روح الثقة: قراءة في فينومينولوجيا الروح لهيغل

المؤلف : روبرت براندوم، 2019م Harvard University Press  . الناشر:

عدد الصفحات: 856 صفحة.

لغة الكتاب: الإنجليزية.

 

أخبار ذات صلة